نبوءات عرّافة الكتبى
مفلح العدوان 8 نوفمبر 2022
قص
اسماعيل نصرة، سورية
شارك هذا المقال
حجم الخط
لها مهابة..
تمتلك حضورًا يجعل درب ذكراها بخورًا، وتراتيل، وفيضًا من أبجدية البوح الذي رمى عباءة الاسم عليها لتصبح إلهة، هي الكُتبى.
ولها مع المهابة معبد، وعرافة تجلس دائمًا أمام بوابته، وتطلق نبوءة كل صباح، مع الفجر، حين تلظم الشمس أشعتها عبر ثقوب السماء لتأتي مبلّلة بالندى، مطلع النهار.
قبل أن تنطق بليغ كلامها، تكون العرافة، قد أخذت السر، والناموس، من الكتبى، إلهة الكتابة، وعالمة الغيب، وصاحبة الرؤيا، ومالكة الرأي، ثم تجلس في المساحة المتاحة لها على بوابة المعبد، وتصرّح ببيان منطوق، وعن وعي بكامل ما تريد، لجمع المريدين المنصت لطيب قولها.
نِعمة الإلهة
المنظر يتكرر كل يوم..
هم يجلسون في المكان المهيأ لهم، يحمل كل واحد من هؤلاء المريدين بَرديّة يكتب عليها ما تيسر من نبوءات العرافة التي تنقلها عن الكتبى، وقد كان أول علمهم بهذه الإلهة هي كتابة عنها، عندما وهبتهم نعمة الأبجدية، وعلّمتهم إياها، وقالت لهم اكتبوا الكتبى، أنا إلهة المجد المتكرر نقشًا، وخطًا، وسطرًا، إلى آخر الزمان.
وكتبوا ما أرادت..
وصار الحوار متاحًا، بنبطية فصحى بينهم، وصاروا يملكون لسانهم بعد أن مضى عليهم عهد كانوا فيه يستعيرون الحرف، وهم خجلون من نطقه، فكانت نعمة الإلهة الأولى أن حررتهم من غُربة الحرف، والكلمة، والنُطق، وصاروا للسان حالهم مالكين، ولذا فهم يشكرون كل صباح نعم الكتبى التي أسدلتها عليهم، فصاروا يوقدون لها المشاعل، ويحرقون أمام معبدها البخور، ومن ثمة ينصتون للعرافة التي تبدأ سرد نبوءة جديدة كل يوم بلسانها، نقلًا عن الكتبى، فيكون حال الفجر استشراف الآتي، وكتابة الماضي، وتدوين قول جديد، مع تثبيت حديث تسطره الأيدي مرة على البَرديات، ومرة تنقشه بالأزاميل على صخور البتراء.
موكب شقيلة
قالت العرافة: للكتبى التحيات الطيبات..
هي التي عَلِمت ما لا تعلمون، وشاءت بأن تخبركم بعضًا من علمها، قطرة من رؤاها، إن زادت تهتم، وإن قلّت جهلتم، فهي تعطي بميزان، وبقدر تهب نعماها في كل حين، هي القادرة على توزيع الحرف، بالعدل، فلا زيادة عندها، ولا نقصان.
تقول الكتبى، ملكة النقش، والحرف، والذاكرة، وصاحبة الرأي، والرؤيا، والحلم الذي نتمنى، واهبة الأمنيات التي لها نتوق، تقول الكتبى على لساني، أنا عرافة معبدها، أن الملكة التي اسمها شقيلة، كانت ثاني زوجات الملك الحارث الرابع، وهي المكللة بغار المحبة من العظيم قدره، المتعالي مقامه، المهيوب جانبه، المرغوب قربه، المتجلي قراره، الحاسم فكره، الحازم رأيه، القوي ساعده، الثاقب نظره، الواضح منطقه، الغامض سره، المالك لكل كمال يتوق إليه ملك.
هي مليكته، شقيلة، التي رأى بحكمته أن تكون بجانبه، رسالة عظمة، ودلالة محبة، فآثر أن تكون بجواره على العرش، وفي السرير، وعند مقابلة الوفود، وعلى النحت المثبت في واجهات البتراء، والآن ستكون أيضًا معه على وجه العملة التي سيسكّها ذهبا، وستزينها صورة الملك والملكة، الحارث وشقيلة، فليتعالى شأن المَلك، ولتتبارك الملكة التي تعطي الشمس بعضًا من نورها لتضيء لكم صخر البتراء، وتُلوّنه بعزها.
لم تكمل العرافة بيانها..
كان الموكب قد أتى، وكانت الملكة شقيلة على محفة محمولة يمشي موكبها بمهابة العظمة، وبشموخ العارف بما يأتي من الأيام..
توقفت أمام العرافة.
رفعت العرافة يدها ترحيبا، ونهضت وهي تنطق إجلالها للملكة القادمة، وتفتح لها بوابة المعبد، ثم تضيء ما تيسر من الشمع، وما تكاثر من البخور، وهي ترفع صوتها: فليتعالى قدرك أيتها الملكة.. ومرحى بك في مقام إلهة الكتابة التي تسجل تاريخ مجدك، والمليك، مذ كان البدء النبطي، وحتى يتعالى النجم أكثر، وأكثر..
مبارك يوم قدومك، ولحظة حلولك، هذا يوم الحفل بك وأنت تزينين إلى جوار الملك، عملة الدولة، لتكون مرسالا آخر للعالم وراء الصحراء، ووراء البحار، وفي القادم من الزمان.
رمت الملكة شقيلة نقودًا عليها صورتها بجانب الملك.. رمت كثيرًا منها في فخارة كانت أمام المعبد.
قالت: هذا تَقدِمة مني ومن الملك إلى الكتبى، بعضها لكتابة التاريخ، وجزء آخر لرصد ذاكرتي والملك مع شعبه الذي أحب، وما تبقى يكون لخدمة الإلهة ومعبدها.
قبضت العرافة حفنة بخور، ونثرته في المبخرة، فتعالت سحابة دخان مشرّبة بعبق طيب الرائحة.. انتشرت السحابة مشكّلة حجابًا بين المريدين، وبين الملكة التي دخلت المعبد، ووصلت تقريبًا من الكتبى، ثم سمعت تراتيل العرافة وهي تقرأ من الذاكرة كل الصلوات التي عرفتها عن الإلهة التي تفقه الكثير، وما من أحد بليغ مثلها، وتُدوّن كل ما مضى، وما سيجيء في غيب معبدها الذي هو مغلف بشفافية الروح والفكر والمعنى الذي تعبر عنه كل أحرف موجودة على وجه البسيطة.
بقيت سحابة البخور..
ومرّت من خلالها الملكة التي راقبها المريدون وهي تبتعد، وموكبها.
ابنة الملك
تبقى العرافة أمام عتبة المعبد بعد سردها للنبوءة..
ما إن يشتد نور الشمس، الطالعة من وراء الصخر، ويتسلل مصادرًا ما تبقى من ظل نديّ، حتى ترمي العرافة حجابًا بينها وبين المريدين، فيسمعون، حينئذ صوتها، ولا يرون شخصها.
هم لا ينسحبون إلا بعد أن تقول لهم: "توصيكم الكتبى..".
وكل مرة تكون الوصية جديدة، ومعها معنى كلام جديد، أو قصة مخفية تخبرهم عنها، لكن بعد غياب الملكة، وما إن أسدلت العرافة الحجاب بينها وبينهم حتى قالت لهم: "غدًا خبر ابنة الملك التي ستسرده لكم الكتبى، وبعد غد ستكون حربًا قادمة".
اختلط الخبر على المريدين..
تاهوا من هذه النبوءة المُغلّفة بحقيقة غائمة عن ابنة مليكهم التي يعرفونها جيدًا، وهي ليست ابنة شقيلة الزوجة الحالية للملك بل أمها خلدو، الزوجة الأولى للحارث الرابع.
ويعلمون، أيضًا، بأنها تقيم غرب أراضي المملكة، وهي متزوجة من الملك هيرودس، فما الذي أتى بسيرتها هنا؟ وما الذي جعل العرافة تتحدث بقول الحرب هذا؟
رمت العرافة الحجاب الثاني بينها وبينهم، فغابت صورتها، وابتعد صوتها، وكانت حرارة الشمس بدأت تلسع الحجر، والصخر، والبشر، فابتعد مريدو الكتبى، وهم يفكرون باليوم التالي، وما سيسمعون فيه.
حديث سُعدى
فجرًا كانوا ينتظرون..
ولم تمهلهم العرافة وقتًا لقراءة الصمت قبل فصيح البوح، بل رفعت الحجاب دون أن تنطق بكلمة، وكانت المفاجأة حين اتضح وجه ابنة الملك كما بدرًا أمامهم، فبُهتوا، وبَحْلَقوا بعيونهم يتأملون فخامة المكانة، وجمال المحيا، وكبرياء العظمة.
جلسوا، دون أن ينطقوا بأي كلام، وبدأوا يستمعون للعرافة التي استلمت زمام الحديث، بعد أن شعرت بالنشوة من أثر المفاجأة التي رأت أثرها على وجوه المريدين.
قالت العرافة: هذه ابنة مليككم، وهي التي جازت الجبال، والصحارى، مُعتّزة بالبتراء، وبالأنباط، وبعزة الصخر، وبقداسة الكتبى، قبل أن تصل هنا.
وها قد وصلت لتُسمعكم ما حدث معها، قبل أن تأتي، وما صار معها في الدرب إليكم، فاستمعوا لها، وَعُوا مقالتها، وأنصتوا لحديثها، وتجاوزوا برودة سطح الأحرف، مرتحلين نحو عمق جوهر المعنى، ففي كلامها بلاغة القدماء، وفي فعلها فروسية العظماء، وفي منطقها بعض مما وهبت الكتبى من منطق وبيان.
صمتوا، وبدأت الأميرة سعدى البوح:
بسم الكتبى التي لا حرف يعلو مقالها، ولا شأن يعلو سُدّتها، باسمها أنطق ما وعيت، وما فهمت، وما دريت، فهي التي أدخلتني التجربة، أنا سعدى أبي الملك الحارث الرابع، وأمي خلدو، وأنا ضحيت من أجل المملكة حين قبلت زواجًا من هيرودس، فتَغرّبت عن مدينة نبضي الأول البتراء، هذه الصخرة المنحوتة التي هي على قلبي أخف من جناح فراشة، وهي في ميزان المحبة، أثقل من الأرض والسماء، وما احتوتا!
صمتت سعدى..
نثرت العرافة بخورًا في المبخرة، فتعالت غمامة من طيب الرائحة، ومهابة المكان.
تابعت سعدى مقالتها: ولما تجاوز هيرودس الحد، لم يراع ديني ولا دينه، وكانت عينه مرة على زوجة أخيه، ومرة على ابنتها سالومي وهي ترقص أمامه، وكانت الأخبار تصلني، وأكتب بِوَحيٍّ من الكُتبى إلى أبي، ومليكي، الحارث الرابع، الذي وسعت حكمته المملكة، وما جاورها من بلاد، فكان رده أن انتظري حتى نرى ما ستوصلنا إليه رعونة هيرودس.
قلت لأبي، لقد تجرأوا حتى على النبي يوحنا، وقيّدوه، بعد أن جلبوه من نهر القداسة الذي كان يُعَمِّد فيه الصالحين.
كان رد الملك الحارث لي أن اصبري.
تحفزت النفوس حول سعدى وهي تسرد قصتها..
قالت العرافة: حكمة سعدى بعض من حكمة أبيها، والهالة فوقهما ببركة الكُتبى إلهة المعرفة والحرف والكتابة.
ردد الجميع: فلتباركنا الكتبى ببركتها.
ورمت العرافة بخورًا في المجمرة..
وتابعت سعدى الكلام: حين وصلني خبر سالومي وهي ترقص أمام زوجي، اشتعلت النار في قلبي، وقلت هذا الفراق الذي لا لقاء بعده، وكتبت لأبي أن ابعث لي نقيب الجيش، فجاءني ومعه الجند لأعود إلى حضن أبي، بدلًا من أن أكون ملكة في أرض لا تحترم أنبياءها.
ثأر النبي
تَهيّأتُ للرحيل، وكان أبي يُجهّز جيشًا ليثأر لي..
بلغني النبأ وأنا أركب فرسي استعدادًا للعودة إلى مدينة لون الورد وعزم الصخر، وكان الدم في الأرض التي تركت قد سال، حيث قطع هيرودس رأس يوحنا، وقَدّمه على طبق ذهبي إلى سالومي، وهي تكمل رقصتها، وتعلن زواج أمها هيروديا من عمها هيرودس.
كنت في هذه اللحظة، قد تجاوزت مكاور مع ثلة الجنود، والريح كانت تُوَجّه خيولنا الى الجنوب.
يا لهذا الجنوب الذي طيلة تاريخه وهو يستقبل أصحاب الحق، لينصفهم، ويرد لهم بعضًا مما سُلب منهم، وأنا كنت مجروحة الذاكرة، ارتحلت لأحقن دم حرب كانت ستقوم بين أبي وهيرودس، فعدت حاملة ثأر نبي، قتلوه ظلمًا، ومصممة على مجابهة ظلم هيرودس، وخيانة هيروديا، وانحدار سالومي، وبؤس الحال في الأماكن المجاورة للبتراء.
لقد أقسمت بعرش أبي، وبكل آلهة الأنباط، وبذي الشرى، وبالكتبى، وبالصخر، وبالماء، أن يكون ثأر النبي، وبالًا على من قتله.
تعالت أصوات المريدين: مباركة سعدى، وليتعالى طيب صنيعها.
وقفت العرافة..
نثرت بخورًا على النار فارتفعت غمامة دخان طيب الرائحة.
انتشر الدخان، فغطى المسافة بين المريدين، ووجه سعدى، ثم رمت العرافة الحجاب بين مقام الأميرة، وبين عتبة المريدين..
آنذاك.. قالت العرافة: ها قد مضى أول النهار، والفجر ولّى، واقتربت الشمس من ضحاها، فاكتبوا ما سمعتموه من سعدى، وسجّلوا الذاكرة بأبجدية الكتبى، ولا تنسوا الحضور كل فجر لتسمعوا الجديد من رواية الملوك والعامة أمام عتبة الكتبى، ذاكرة البتراء، ونقش الأنباط المتجدد!!
صمتت العرافة..
رمت حجابًا بينها وبينهم، وكانت الشمس تخط نورها على صخر المدينة وهي تبدأ نهارها الجديد على صوت الجند في مسير ثأرهم للنبي تحت راية الحارث الرابع!!
*قاص وروائي أردني.
مفلح العدوان 8 نوفمبر 2022
قص
اسماعيل نصرة، سورية
شارك هذا المقال
حجم الخط
لها مهابة..
تمتلك حضورًا يجعل درب ذكراها بخورًا، وتراتيل، وفيضًا من أبجدية البوح الذي رمى عباءة الاسم عليها لتصبح إلهة، هي الكُتبى.
ولها مع المهابة معبد، وعرافة تجلس دائمًا أمام بوابته، وتطلق نبوءة كل صباح، مع الفجر، حين تلظم الشمس أشعتها عبر ثقوب السماء لتأتي مبلّلة بالندى، مطلع النهار.
قبل أن تنطق بليغ كلامها، تكون العرافة، قد أخذت السر، والناموس، من الكتبى، إلهة الكتابة، وعالمة الغيب، وصاحبة الرؤيا، ومالكة الرأي، ثم تجلس في المساحة المتاحة لها على بوابة المعبد، وتصرّح ببيان منطوق، وعن وعي بكامل ما تريد، لجمع المريدين المنصت لطيب قولها.
نِعمة الإلهة
المنظر يتكرر كل يوم..
هم يجلسون في المكان المهيأ لهم، يحمل كل واحد من هؤلاء المريدين بَرديّة يكتب عليها ما تيسر من نبوءات العرافة التي تنقلها عن الكتبى، وقد كان أول علمهم بهذه الإلهة هي كتابة عنها، عندما وهبتهم نعمة الأبجدية، وعلّمتهم إياها، وقالت لهم اكتبوا الكتبى، أنا إلهة المجد المتكرر نقشًا، وخطًا، وسطرًا، إلى آخر الزمان.
وكتبوا ما أرادت..
وصار الحوار متاحًا، بنبطية فصحى بينهم، وصاروا يملكون لسانهم بعد أن مضى عليهم عهد كانوا فيه يستعيرون الحرف، وهم خجلون من نطقه، فكانت نعمة الإلهة الأولى أن حررتهم من غُربة الحرف، والكلمة، والنُطق، وصاروا للسان حالهم مالكين، ولذا فهم يشكرون كل صباح نعم الكتبى التي أسدلتها عليهم، فصاروا يوقدون لها المشاعل، ويحرقون أمام معبدها البخور، ومن ثمة ينصتون للعرافة التي تبدأ سرد نبوءة جديدة كل يوم بلسانها، نقلًا عن الكتبى، فيكون حال الفجر استشراف الآتي، وكتابة الماضي، وتدوين قول جديد، مع تثبيت حديث تسطره الأيدي مرة على البَرديات، ومرة تنقشه بالأزاميل على صخور البتراء.
موكب شقيلة
قالت العرافة: للكتبى التحيات الطيبات..
هي التي عَلِمت ما لا تعلمون، وشاءت بأن تخبركم بعضًا من علمها، قطرة من رؤاها، إن زادت تهتم، وإن قلّت جهلتم، فهي تعطي بميزان، وبقدر تهب نعماها في كل حين، هي القادرة على توزيع الحرف، بالعدل، فلا زيادة عندها، ولا نقصان.
تقول الكتبى، ملكة النقش، والحرف، والذاكرة، وصاحبة الرأي، والرؤيا، والحلم الذي نتمنى، واهبة الأمنيات التي لها نتوق، تقول الكتبى على لساني، أنا عرافة معبدها، أن الملكة التي اسمها شقيلة، كانت ثاني زوجات الملك الحارث الرابع، وهي المكللة بغار المحبة من العظيم قدره، المتعالي مقامه، المهيوب جانبه، المرغوب قربه، المتجلي قراره، الحاسم فكره، الحازم رأيه، القوي ساعده، الثاقب نظره، الواضح منطقه، الغامض سره، المالك لكل كمال يتوق إليه ملك.
هي مليكته، شقيلة، التي رأى بحكمته أن تكون بجانبه، رسالة عظمة، ودلالة محبة، فآثر أن تكون بجواره على العرش، وفي السرير، وعند مقابلة الوفود، وعلى النحت المثبت في واجهات البتراء، والآن ستكون أيضًا معه على وجه العملة التي سيسكّها ذهبا، وستزينها صورة الملك والملكة، الحارث وشقيلة، فليتعالى شأن المَلك، ولتتبارك الملكة التي تعطي الشمس بعضًا من نورها لتضيء لكم صخر البتراء، وتُلوّنه بعزها.
لم تكمل العرافة بيانها..
كان الموكب قد أتى، وكانت الملكة شقيلة على محفة محمولة يمشي موكبها بمهابة العظمة، وبشموخ العارف بما يأتي من الأيام..
توقفت أمام العرافة.
رفعت العرافة يدها ترحيبا، ونهضت وهي تنطق إجلالها للملكة القادمة، وتفتح لها بوابة المعبد، ثم تضيء ما تيسر من الشمع، وما تكاثر من البخور، وهي ترفع صوتها: فليتعالى قدرك أيتها الملكة.. ومرحى بك في مقام إلهة الكتابة التي تسجل تاريخ مجدك، والمليك، مذ كان البدء النبطي، وحتى يتعالى النجم أكثر، وأكثر..
مبارك يوم قدومك، ولحظة حلولك، هذا يوم الحفل بك وأنت تزينين إلى جوار الملك، عملة الدولة، لتكون مرسالا آخر للعالم وراء الصحراء، ووراء البحار، وفي القادم من الزمان.
رمت الملكة شقيلة نقودًا عليها صورتها بجانب الملك.. رمت كثيرًا منها في فخارة كانت أمام المعبد.
قالت: هذا تَقدِمة مني ومن الملك إلى الكتبى، بعضها لكتابة التاريخ، وجزء آخر لرصد ذاكرتي والملك مع شعبه الذي أحب، وما تبقى يكون لخدمة الإلهة ومعبدها.
قبضت العرافة حفنة بخور، ونثرته في المبخرة، فتعالت سحابة دخان مشرّبة بعبق طيب الرائحة.. انتشرت السحابة مشكّلة حجابًا بين المريدين، وبين الملكة التي دخلت المعبد، ووصلت تقريبًا من الكتبى، ثم سمعت تراتيل العرافة وهي تقرأ من الذاكرة كل الصلوات التي عرفتها عن الإلهة التي تفقه الكثير، وما من أحد بليغ مثلها، وتُدوّن كل ما مضى، وما سيجيء في غيب معبدها الذي هو مغلف بشفافية الروح والفكر والمعنى الذي تعبر عنه كل أحرف موجودة على وجه البسيطة.
بقيت سحابة البخور..
ومرّت من خلالها الملكة التي راقبها المريدون وهي تبتعد، وموكبها.
ابنة الملك
تبقى العرافة أمام عتبة المعبد بعد سردها للنبوءة..
ما إن يشتد نور الشمس، الطالعة من وراء الصخر، ويتسلل مصادرًا ما تبقى من ظل نديّ، حتى ترمي العرافة حجابًا بينها وبين المريدين، فيسمعون، حينئذ صوتها، ولا يرون شخصها.
هم لا ينسحبون إلا بعد أن تقول لهم: "توصيكم الكتبى..".
وكل مرة تكون الوصية جديدة، ومعها معنى كلام جديد، أو قصة مخفية تخبرهم عنها، لكن بعد غياب الملكة، وما إن أسدلت العرافة الحجاب بينها وبينهم حتى قالت لهم: "غدًا خبر ابنة الملك التي ستسرده لكم الكتبى، وبعد غد ستكون حربًا قادمة".
اختلط الخبر على المريدين..
تاهوا من هذه النبوءة المُغلّفة بحقيقة غائمة عن ابنة مليكهم التي يعرفونها جيدًا، وهي ليست ابنة شقيلة الزوجة الحالية للملك بل أمها خلدو، الزوجة الأولى للحارث الرابع.
ويعلمون، أيضًا، بأنها تقيم غرب أراضي المملكة، وهي متزوجة من الملك هيرودس، فما الذي أتى بسيرتها هنا؟ وما الذي جعل العرافة تتحدث بقول الحرب هذا؟
رمت العرافة الحجاب الثاني بينها وبينهم، فغابت صورتها، وابتعد صوتها، وكانت حرارة الشمس بدأت تلسع الحجر، والصخر، والبشر، فابتعد مريدو الكتبى، وهم يفكرون باليوم التالي، وما سيسمعون فيه.
حديث سُعدى
فجرًا كانوا ينتظرون..
ولم تمهلهم العرافة وقتًا لقراءة الصمت قبل فصيح البوح، بل رفعت الحجاب دون أن تنطق بكلمة، وكانت المفاجأة حين اتضح وجه ابنة الملك كما بدرًا أمامهم، فبُهتوا، وبَحْلَقوا بعيونهم يتأملون فخامة المكانة، وجمال المحيا، وكبرياء العظمة.
جلسوا، دون أن ينطقوا بأي كلام، وبدأوا يستمعون للعرافة التي استلمت زمام الحديث، بعد أن شعرت بالنشوة من أثر المفاجأة التي رأت أثرها على وجوه المريدين.
قالت العرافة: هذه ابنة مليككم، وهي التي جازت الجبال، والصحارى، مُعتّزة بالبتراء، وبالأنباط، وبعزة الصخر، وبقداسة الكتبى، قبل أن تصل هنا.
وها قد وصلت لتُسمعكم ما حدث معها، قبل أن تأتي، وما صار معها في الدرب إليكم، فاستمعوا لها، وَعُوا مقالتها، وأنصتوا لحديثها، وتجاوزوا برودة سطح الأحرف، مرتحلين نحو عمق جوهر المعنى، ففي كلامها بلاغة القدماء، وفي فعلها فروسية العظماء، وفي منطقها بعض مما وهبت الكتبى من منطق وبيان.
صمتوا، وبدأت الأميرة سعدى البوح:
بسم الكتبى التي لا حرف يعلو مقالها، ولا شأن يعلو سُدّتها، باسمها أنطق ما وعيت، وما فهمت، وما دريت، فهي التي أدخلتني التجربة، أنا سعدى أبي الملك الحارث الرابع، وأمي خلدو، وأنا ضحيت من أجل المملكة حين قبلت زواجًا من هيرودس، فتَغرّبت عن مدينة نبضي الأول البتراء، هذه الصخرة المنحوتة التي هي على قلبي أخف من جناح فراشة، وهي في ميزان المحبة، أثقل من الأرض والسماء، وما احتوتا!
صمتت سعدى..
نثرت العرافة بخورًا في المبخرة، فتعالت غمامة من طيب الرائحة، ومهابة المكان.
تابعت سعدى مقالتها: ولما تجاوز هيرودس الحد، لم يراع ديني ولا دينه، وكانت عينه مرة على زوجة أخيه، ومرة على ابنتها سالومي وهي ترقص أمامه، وكانت الأخبار تصلني، وأكتب بِوَحيٍّ من الكُتبى إلى أبي، ومليكي، الحارث الرابع، الذي وسعت حكمته المملكة، وما جاورها من بلاد، فكان رده أن انتظري حتى نرى ما ستوصلنا إليه رعونة هيرودس.
قلت لأبي، لقد تجرأوا حتى على النبي يوحنا، وقيّدوه، بعد أن جلبوه من نهر القداسة الذي كان يُعَمِّد فيه الصالحين.
كان رد الملك الحارث لي أن اصبري.
تحفزت النفوس حول سعدى وهي تسرد قصتها..
قالت العرافة: حكمة سعدى بعض من حكمة أبيها، والهالة فوقهما ببركة الكُتبى إلهة المعرفة والحرف والكتابة.
ردد الجميع: فلتباركنا الكتبى ببركتها.
ورمت العرافة بخورًا في المجمرة..
وتابعت سعدى الكلام: حين وصلني خبر سالومي وهي ترقص أمام زوجي، اشتعلت النار في قلبي، وقلت هذا الفراق الذي لا لقاء بعده، وكتبت لأبي أن ابعث لي نقيب الجيش، فجاءني ومعه الجند لأعود إلى حضن أبي، بدلًا من أن أكون ملكة في أرض لا تحترم أنبياءها.
ثأر النبي
تَهيّأتُ للرحيل، وكان أبي يُجهّز جيشًا ليثأر لي..
بلغني النبأ وأنا أركب فرسي استعدادًا للعودة إلى مدينة لون الورد وعزم الصخر، وكان الدم في الأرض التي تركت قد سال، حيث قطع هيرودس رأس يوحنا، وقَدّمه على طبق ذهبي إلى سالومي، وهي تكمل رقصتها، وتعلن زواج أمها هيروديا من عمها هيرودس.
كنت في هذه اللحظة، قد تجاوزت مكاور مع ثلة الجنود، والريح كانت تُوَجّه خيولنا الى الجنوب.
يا لهذا الجنوب الذي طيلة تاريخه وهو يستقبل أصحاب الحق، لينصفهم، ويرد لهم بعضًا مما سُلب منهم، وأنا كنت مجروحة الذاكرة، ارتحلت لأحقن دم حرب كانت ستقوم بين أبي وهيرودس، فعدت حاملة ثأر نبي، قتلوه ظلمًا، ومصممة على مجابهة ظلم هيرودس، وخيانة هيروديا، وانحدار سالومي، وبؤس الحال في الأماكن المجاورة للبتراء.
لقد أقسمت بعرش أبي، وبكل آلهة الأنباط، وبذي الشرى، وبالكتبى، وبالصخر، وبالماء، أن يكون ثأر النبي، وبالًا على من قتله.
تعالت أصوات المريدين: مباركة سعدى، وليتعالى طيب صنيعها.
وقفت العرافة..
نثرت بخورًا على النار فارتفعت غمامة دخان طيب الرائحة.
انتشر الدخان، فغطى المسافة بين المريدين، ووجه سعدى، ثم رمت العرافة الحجاب بين مقام الأميرة، وبين عتبة المريدين..
آنذاك.. قالت العرافة: ها قد مضى أول النهار، والفجر ولّى، واقتربت الشمس من ضحاها، فاكتبوا ما سمعتموه من سعدى، وسجّلوا الذاكرة بأبجدية الكتبى، ولا تنسوا الحضور كل فجر لتسمعوا الجديد من رواية الملوك والعامة أمام عتبة الكتبى، ذاكرة البتراء، ونقش الأنباط المتجدد!!
صمتت العرافة..
رمت حجابًا بينها وبينهم، وكانت الشمس تخط نورها على صخر المدينة وهي تبدأ نهارها الجديد على صوت الجند في مسير ثأرهم للنبي تحت راية الحارث الرابع!!
*قاص وروائي أردني.