هل غيّر الأدب يومًا مسار التاريخ؟
19 يوليه 2022
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
في الذكرى السنوية المائة لصدورها، تُعتبر رواية جيمس جويس "يوليسيس" على نطاق واسع عملًا أدبيًا رائدًا. لكنْ، هل يمكن أن يكون للأدب أيّ تأثير خارج حدود الثقافة؟
هذا ما يحاول أن يجيب عنه هذا التحقيق.
[عن مجلة "التاريخ اليوم"، المجلد 72، عدد 2 شباط/ فبراير 2022]
ترجمة: سارة حبيب
الأعمال الأدبية النادرة التي قد تكون ساهمت في صنع تغيير
تاريخي ليست بالضرورة أعمالًا من الطراز الأول!
يقول جون مولان (رئيس منصب "اللورد نورثكليف" للأدب الإنكليزي المعاصر في كلية لندن الجامعية):
غيّرت الكتب مسار التاريخ، لكن هل فعل الأدب ذلك؟ لا ينبغي هنا أن نغشّ بأن ندعو، على سبيل المثال، نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس عملًا أدبيًا. لنصرف النظر إذًا عن كلّ ما ليس روايةً، مسرحًا، أو شعرًا. يحتوي كتاب ميلفين براغ "12 كتابًا غيّرت العالم" على عمل أدبي واحد فقط في قائمته: كتاب شكسبير "الورقة الأولى" الذي نُشِر عام 1623. لقد تأثرت مخيلة ملايين من البشر بشخصياتِ شكسبير وحبكاته. أين سيكون فهمنا للاستبطان من دون هاملت، أو فهمنا للشر من دون ماكبث؟ لكنْ، هل كان التاريخ ليختلفَ من دونه؟
لا يتسبّب الشعر بحدوث شيء، هكذا ارتأى ويستن هيو أودن. "الفردوس المفقود"، أعظم قصيدة في اللغة الإنكليزية، شكّلت فهم الكثيرين للأسطورة المسيحية. لقد كانت بمثابة دليل على أن اللغة الإنكليزية يمكن أن ترتفع إلى مصافِ الإغريقية واللاتينية. ولهذا سوّغت (بالإضافة إلى شكسبير) استحداثَ الأدب القومي والثقافة القومية خلال القرن الثامن عشر. لقد كانت تاريخيًا مهمة إلى حد كبير؛ لكن من المستحيل تبيانُ أنها غيّرت التاريخ.
الأعمال الأدبية النادرة التي قد تكون ساهمت في صنعِ تغييرٍ تاريخي ليست بالضرورة أعمالًا من الطراز الأول. "أنتِ هي إذًا المرأة الصغيرة التي ألّفت الكتاب الذي أشعل هذه الحرب الكبيرة"، هكذا قال أبراهام لينكولن، كما يُظَنّ، للكاتبة هارييت بيتشر ستو عندما التقاها عام 1862. وكان حينئذ يشير إلى روايتها (الوجدانية) "كوخ العم توم" التي يُعزى إليها إثارةُ الحمية الإلغائية. وكان بالطبع يمزح، عارفًا الأسباب الأكثر عمقًا للحرب الأهلية الأميركية.
ثمة أعمال أدبية عظيمة تنطوي على قوة دينية أو سياسية. قبل القرن العشرين، مثلًا، كانت "رحلة الحاج" أكثر الأعمال الروائية شهرة في اللغة الإنكليزية. وقد أقسم بها عبر القرون الكثير من المؤمنين العاديين، لكن ما من أحد يستطيع إظهار أنها أدت إلى تشكيلِ أحداث. كذلك، تخيّلت رواية جورج أورويل "1984" المنطقَ الداخلي للمساواتية الشمولية، لكن، هل جعلت شيئًا يحدث؟ إن كلا الكتابين لا يزال فعّالًا اليوم. الأدب لا يغيّر مسار التاريخ؛ الأدب يقوم بشيء أكثر إعجازية: إنه يصمد أمام مسار التاريخ.
لا يعمل الأدب كما لو كان
سيفًا أو عود ثقاب..
تقول ماريون تيرنر (أستاذة الأدب الإنكليزي في كلية جيسوس، جامعة أوكسفورد. مؤلفة كتاب "تشوسر: حياة أوروبية"، مطبعة جامعة برينستون، 2019):
فكرةُ أن هنالك مسارًا للتاريخ يمكن تغييره تقتضي ضمنًا أن التاريخ نهرٌ؛ أي أنه مهيّأ ليتدفق في اتجاه معين ما لم يُحرَف إلى طريق مختلف. وضمن هذا المفهوم للتاريخ، قد يكون كتاب دراماتيكيًا جدًا حدّ أنه يغيّر ما كان دون ذلك سلسلةَ أحداث حتمية. فجأة، تظهر قصيدة "بيرس الفلاح" وتجعل الفلاحين يثورون؛ تؤدى مسرحية "ريتشارد الثاني" وتسبّب تمرد إسِكس؛ تُمنَع "الليدي تشاترلي" ثم تُنشر أخيرًا، وتنطلق شرارة الثورة الجنسية.
لكن لا، لا أعتقد أن الأدب - أو التاريخ- يعمل تمامًا هكذا. لا يتقدم التاريخ عبر مسار معدٍّ مسبقًا. ولا يعمل الأدب كما لو كان سيفًا أو عود ثقاب، "مُسبِّبًا" مباشرةً حدوث شيء آخر. بالتالي، ربما يكون السؤال الذي يُسأل حقًا هنا هو هذا: هل الأدب يهم؟ هل يُحدِث فارقًا؟
تروي كريستين دي بيزان، وهي كاتبة فرنسية عاشت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حكايةَ رجلٍ ظل يقرأ القصيدة الأكثر رواجًا في ذلك العصر؛ قصيدة بعنوان "قصة الوردة". تتحدث القصيدة عن عاشق يفرض حصارًا على عذريةِ امرأة، وهي قصيدة مليئة بالأفكار المبتذلة المعادية للنسوية والتنميطات الكارهة للنساء. تروي كريستين أن هذا القارئ، وهو يقرأ القصيدة، كان يهيّج نفسه ضد النساء إلى درجة الغضب، ثم يقوم بضرب زوجته. كذلك، تروي "زوجة باث" التخييلية عند تشوسر قصة مماثلة عن حياتها، ساردةً كيف كان زوجها يقرأ عن نساء شريرات خرافيات في كتابه "كتاب الزوجات الشريرات" ويضربها في آخر الأمر. في هذه الأمثلة، يسبّب ثقلُ الأدبِ المعادي للنسوية عنفًا أسريًا، كما أنه، بصورة أوسع، يشجّع طرقًا معينة للتفكير بالنساء والحكم عليهن.
الأدب والحياة يتداخلان. وكما كتب المؤرخ العظيم جورج دوبي: "لا يوجّه البشر سلوكهم تجاه أحداث وظروف حقيقية، بل بالأحرى تجاه الصورة التي لديهم عنها". وإذا كان الأدب بغالبيته يعامل النساء، أو المثليين، أو الملونين، بطريقة واحدة، فلذلك عواقب خطيرة على المجتمع والسلوك. أما عندما تُسمَع مزيد من الأصوات في الأدب - عندما، على سبيل المثال، تروي النساء قصصهن أيضًا- فإن قوس التاريخ سينحني أكثر باتجاه العدالة.
كان جوناثان سويفت محقًا في تفاؤله
بأن كتابته يمكن أن تحدث تغييرًا
تقول جوديث هولي (أستاذة متخصصة في أدب القرن الثامن عشر في كلية رويال هولواي، جامعة لندن):
في مقدمة الهجاء الأكثر شهرة الذي كتبه جوناثان سويفت، يتذمر ليمويل غوليفر، الشخصية البديلة لسويفت، قائلًا: "لم يصل إلى علمي أن كتابي قد أحدث أثرًا واحدًا مما أرادته مقاصدي". مع هذا، كان جونثان سويفت محقًا في تفاؤله بأن كتابته يمكن أن تحدث تغييرًا؛ تغييرًا في سياسة الحكومة إن لم يكن في الطبيعة البشرية.
في عام 1724، قبل سنتين من نشر "رحلات غوليفر"، نجح كتاب سويفت "رسائل دريبر" بصورة استثنائية في إسقاطِ سياسةٍ حكومية مكروهة. فقد كتب سويفت، متخذًا شخصية صاحب متجر اسمه "م. ب. دريبر"، سلسلةً من سبعة كتيبات هاجمت منح براءةِ اختراعٍ لوليام وود، وهو مقاول إنكليزي، نتيجةَ سكّه عملةً من النحاس من فئة النصف بنس في أيرلندا. وقام فحوى مناقشة سويفت على أن سك العملة قد حُطَّ من قدره وسوف يدمّر الاقتصاد الأيرلندي، وأن العقد تم التحصل عليه بالرشاوى وكان محاولة أخرى من حكومة روبرت والبول الفاسدة لتقييد حرية أيرلندا. وما ساعد المناقشة إلى حد كبير كانت الأساليب الملائمة التي استخدمها سويفت وهو يناشد مجموعات مختلفة من الشعب الأيرلندي. بالنتيجة، أدى فيضان العاطفة التي أطلق سويفت العنان لها ووجهها إلى إجبار الحكومة على إلغاء براءة اختراع وود. كما أكسبه نجاحه هذا اسم "الوطني الأيرلندي"، على الرغم من أنه كان معاديًا لحكومة ويغ أكثر مما هو متعاطف مع الأيرلنديين.
ثم، وفي عام 1711، حقق سويفت تغييرًا أكثر إذهالًا في مسار التاريخ، هذه المرة أثناء الكتابة لوزارة توري (المحافظين) التي ترأسها روبرت هارلي. ففي كتيب من ست وتسعين صفحة نُشِر من دون اسمه، بعنوان "سلوك الحلفاء"، هاجم سويفت أسس حرب الخلافة الإسبانية وسلوكها. وناقش أن بريطانيا تنازلت عن الكثير من القوة لحلفائها الأوروبيين، ولم تتلقَّ إلا القليل بالمقابل. وأن الحرب قامت لتؤيد مصالح نبلاء الويغ، لا سيما عائلة مالبرو، ومصالح الطبقات الغنية الناشئة على حساب مصالح الكنيسة ومصالح ملّاك الأراضي. وبهذا، قلب سويفت تيار الجدال وعجّل في نهاية الحرب. ورغم أنه قد يُقال إن الكتيب كان بروباغندا أكثر منه أدبًا، فما لا شك فيه هو أن سويفت أظهر القوة التي يمكن للكاتب امتلاكها، القوة التي يمكن أن تحرّك مسار التاريخ.
ترعى رواية "يوليسيس" هالةَ وجودٍ
على الجانب الصحيح من التاريخ
تقول كيتي مولِن (أستاذة محاضرة في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة ليدز):
في الفصل الثاني من رواية "يوليسيس"، يقول ستيفن ديدالوس، الشخصية البديلة لجيمس جويس، مخاطبًا رب عمله السيد ديزي إن "التاريخ كابوسٌ أحاول أن أستيقظ منه". ديزي - معادٍ للسامية اتحاديٌّ شرس- يقف على الجانب الخاطئ من التاريخ. مع هذا، ترعى رواية يوليسيس هالةَ وجودٍ على الجانب الصحيح من التاريخ من خلال أفكارها الأساسية التي تحمل نبوءة خاصة. فعلى الرغم من أن الرواية تجري أحداثها في يوم 16 حزيران/ يونيو عام 1904، وقد استثمرت في التاريخ المصغر ليوم واحد، فإنها رغم ذلك تتوقع المستقبل. قد لا يغيّر الأدب مسار التاريخ، لكن بوسعه بالتأكيد أن يساعدنا في فهم مسار التاريخ.
يوليسيس - التي أتمت مئة عام في شباط/ فبراير 2022- تتنبأ بالتاريخ الأيرلندي من خلال التبشير بتحول شين فين من جريدة متخصصة يحررها آرثر غريفيث في عام 1904 إلى حركة سياسية تحقق الاستقلال الأيرلندي عام 1922. بطل الرواية، ليوبولد بلوم، يُجلّ غريفيث لدرجة أن السكارى في حانة بارني كيرنن يطلقون إشاعة مفادها أن "بلوم هو من أعطى الأفكار بخصوص شين فين إلى غريفيث ليضعها هذا الأخير في جريدته". كما تؤكد مولي، زوجة بلوم، بصيرة زوجها السياسية: "إنه يقول إن الرجل الصغير الذي أراني إياه من دون الرقبة ذكي للغاية وهو الرجل القادم غريفيث هل هو جيد لا يظهر هذا، ذلك كل ما يمكنني قوله".
رجل بلوم "القادم" أصبح رئيس الدولة الأيرلندية الحرة في كانون الثاني/ يناير عام 1922، قبل أسبوعين فقط من نشر يوليسيس. والأهمية التي تُعطى لغريفيث في "يوم بلوم 1904" (وهو يوم الاحتفال السنوي باليوم الذي تحكي عنه رواية يوليسيس) هي أحد الأمثلة عن بلورة جويس السحرية. فأثناء كتابة مسودة الرواية في زيوريخ، ترييستي، وباريس بين 1915 و1922، استفاد جويس من الإدراك المتأخر لكي يتوقع أحداثًا قادمة. بالنتيجة، إذا لم تكن يوليسيس تغيّر مسار التاريخ فعلًا، فإنها تعطي الوهم المُحيِّر بقيامها بذلك. وهذه السمة الغريبة تنسجم مع فهم جويس للتاريخ على أنه قصة سردية. وكما يقول ستيفن وهو يجاهد ليعلّم تلاميذ المدرسة الكارهين: "كان التاريخ حكاية مثل أي حكاية أخرى".
أما اليوم، وبعد قرن من نشرها أولَّ مرة، فقد بات أثر "يوليسيس" التحويلي على التاريخ الأدبي مألوفًا. كما تأكدت أهميتها في التاريخ القضائي عام 1933 عندما قام القاضي الأميركي جون إم. وولسي بقلب حالتها كعمل فاحش في حكمٍ فُهم سريعًا على أنه اختبارٌ لحرية التعبير. إن تقنّعَ "يوليسيس" في هيئة نبوءة ربما يُظهر بكل وضوح أثر التاريخ حتى على الأدب الأكثر تقدمية، لكنه يُظهر أيضًا أن التخييل يمكن أن يدلنا على طريق المضي قدمًا.
رابط النص الأصلي:
https://www.historytoday.com/archive...course-history
19 يوليه 2022
ترجمات
شارك هذا المقال
حجم الخط
في الذكرى السنوية المائة لصدورها، تُعتبر رواية جيمس جويس "يوليسيس" على نطاق واسع عملًا أدبيًا رائدًا. لكنْ، هل يمكن أن يكون للأدب أيّ تأثير خارج حدود الثقافة؟
هذا ما يحاول أن يجيب عنه هذا التحقيق.
[عن مجلة "التاريخ اليوم"، المجلد 72، عدد 2 شباط/ فبراير 2022]
ترجمة: سارة حبيب
الأعمال الأدبية النادرة التي قد تكون ساهمت في صنع تغيير
تاريخي ليست بالضرورة أعمالًا من الطراز الأول!
يقول جون مولان (رئيس منصب "اللورد نورثكليف" للأدب الإنكليزي المعاصر في كلية لندن الجامعية):
غيّرت الكتب مسار التاريخ، لكن هل فعل الأدب ذلك؟ لا ينبغي هنا أن نغشّ بأن ندعو، على سبيل المثال، نسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس عملًا أدبيًا. لنصرف النظر إذًا عن كلّ ما ليس روايةً، مسرحًا، أو شعرًا. يحتوي كتاب ميلفين براغ "12 كتابًا غيّرت العالم" على عمل أدبي واحد فقط في قائمته: كتاب شكسبير "الورقة الأولى" الذي نُشِر عام 1623. لقد تأثرت مخيلة ملايين من البشر بشخصياتِ شكسبير وحبكاته. أين سيكون فهمنا للاستبطان من دون هاملت، أو فهمنا للشر من دون ماكبث؟ لكنْ، هل كان التاريخ ليختلفَ من دونه؟
لا يتسبّب الشعر بحدوث شيء، هكذا ارتأى ويستن هيو أودن. "الفردوس المفقود"، أعظم قصيدة في اللغة الإنكليزية، شكّلت فهم الكثيرين للأسطورة المسيحية. لقد كانت بمثابة دليل على أن اللغة الإنكليزية يمكن أن ترتفع إلى مصافِ الإغريقية واللاتينية. ولهذا سوّغت (بالإضافة إلى شكسبير) استحداثَ الأدب القومي والثقافة القومية خلال القرن الثامن عشر. لقد كانت تاريخيًا مهمة إلى حد كبير؛ لكن من المستحيل تبيانُ أنها غيّرت التاريخ.
الأعمال الأدبية النادرة التي قد تكون ساهمت في صنعِ تغييرٍ تاريخي ليست بالضرورة أعمالًا من الطراز الأول. "أنتِ هي إذًا المرأة الصغيرة التي ألّفت الكتاب الذي أشعل هذه الحرب الكبيرة"، هكذا قال أبراهام لينكولن، كما يُظَنّ، للكاتبة هارييت بيتشر ستو عندما التقاها عام 1862. وكان حينئذ يشير إلى روايتها (الوجدانية) "كوخ العم توم" التي يُعزى إليها إثارةُ الحمية الإلغائية. وكان بالطبع يمزح، عارفًا الأسباب الأكثر عمقًا للحرب الأهلية الأميركية.
ثمة أعمال أدبية عظيمة تنطوي على قوة دينية أو سياسية. قبل القرن العشرين، مثلًا، كانت "رحلة الحاج" أكثر الأعمال الروائية شهرة في اللغة الإنكليزية. وقد أقسم بها عبر القرون الكثير من المؤمنين العاديين، لكن ما من أحد يستطيع إظهار أنها أدت إلى تشكيلِ أحداث. كذلك، تخيّلت رواية جورج أورويل "1984" المنطقَ الداخلي للمساواتية الشمولية، لكن، هل جعلت شيئًا يحدث؟ إن كلا الكتابين لا يزال فعّالًا اليوم. الأدب لا يغيّر مسار التاريخ؛ الأدب يقوم بشيء أكثر إعجازية: إنه يصمد أمام مسار التاريخ.
كلا الكتابين "كوخ العم توم" و"1984" لا يزال فعّالًا اليوم. الأدب لا يغيّر مسار التاريخ؛ الأدب يقوم بشيء أكثر إعجازية: إنه يصمد أمام مسار التاريخ! |
لا يعمل الأدب كما لو كان
سيفًا أو عود ثقاب..
تقول ماريون تيرنر (أستاذة الأدب الإنكليزي في كلية جيسوس، جامعة أوكسفورد. مؤلفة كتاب "تشوسر: حياة أوروبية"، مطبعة جامعة برينستون، 2019):
فكرةُ أن هنالك مسارًا للتاريخ يمكن تغييره تقتضي ضمنًا أن التاريخ نهرٌ؛ أي أنه مهيّأ ليتدفق في اتجاه معين ما لم يُحرَف إلى طريق مختلف. وضمن هذا المفهوم للتاريخ، قد يكون كتاب دراماتيكيًا جدًا حدّ أنه يغيّر ما كان دون ذلك سلسلةَ أحداث حتمية. فجأة، تظهر قصيدة "بيرس الفلاح" وتجعل الفلاحين يثورون؛ تؤدى مسرحية "ريتشارد الثاني" وتسبّب تمرد إسِكس؛ تُمنَع "الليدي تشاترلي" ثم تُنشر أخيرًا، وتنطلق شرارة الثورة الجنسية.
لكن لا، لا أعتقد أن الأدب - أو التاريخ- يعمل تمامًا هكذا. لا يتقدم التاريخ عبر مسار معدٍّ مسبقًا. ولا يعمل الأدب كما لو كان سيفًا أو عود ثقاب، "مُسبِّبًا" مباشرةً حدوث شيء آخر. بالتالي، ربما يكون السؤال الذي يُسأل حقًا هنا هو هذا: هل الأدب يهم؟ هل يُحدِث فارقًا؟
تروي كريستين دي بيزان، وهي كاتبة فرنسية عاشت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حكايةَ رجلٍ ظل يقرأ القصيدة الأكثر رواجًا في ذلك العصر؛ قصيدة بعنوان "قصة الوردة". تتحدث القصيدة عن عاشق يفرض حصارًا على عذريةِ امرأة، وهي قصيدة مليئة بالأفكار المبتذلة المعادية للنسوية والتنميطات الكارهة للنساء. تروي كريستين أن هذا القارئ، وهو يقرأ القصيدة، كان يهيّج نفسه ضد النساء إلى درجة الغضب، ثم يقوم بضرب زوجته. كذلك، تروي "زوجة باث" التخييلية عند تشوسر قصة مماثلة عن حياتها، ساردةً كيف كان زوجها يقرأ عن نساء شريرات خرافيات في كتابه "كتاب الزوجات الشريرات" ويضربها في آخر الأمر. في هذه الأمثلة، يسبّب ثقلُ الأدبِ المعادي للنسوية عنفًا أسريًا، كما أنه، بصورة أوسع، يشجّع طرقًا معينة للتفكير بالنساء والحكم عليهن.
الأدب والحياة يتداخلان. وكما كتب المؤرخ العظيم جورج دوبي: "لا يوجّه البشر سلوكهم تجاه أحداث وظروف حقيقية، بل بالأحرى تجاه الصورة التي لديهم عنها". وإذا كان الأدب بغالبيته يعامل النساء، أو المثليين، أو الملونين، بطريقة واحدة، فلذلك عواقب خطيرة على المجتمع والسلوك. أما عندما تُسمَع مزيد من الأصوات في الأدب - عندما، على سبيل المثال، تروي النساء قصصهن أيضًا- فإن قوس التاريخ سينحني أكثر باتجاه العدالة.
كان جوناثان سويفت محقًا في تفاؤله
بأن كتابته يمكن أن تحدث تغييرًا
تقول جوديث هولي (أستاذة متخصصة في أدب القرن الثامن عشر في كلية رويال هولواي، جامعة لندن):
في مقدمة الهجاء الأكثر شهرة الذي كتبه جوناثان سويفت، يتذمر ليمويل غوليفر، الشخصية البديلة لسويفت، قائلًا: "لم يصل إلى علمي أن كتابي قد أحدث أثرًا واحدًا مما أرادته مقاصدي". مع هذا، كان جونثان سويفت محقًا في تفاؤله بأن كتابته يمكن أن تحدث تغييرًا؛ تغييرًا في سياسة الحكومة إن لم يكن في الطبيعة البشرية.
في عام 1724، قبل سنتين من نشر "رحلات غوليفر"، نجح كتاب سويفت "رسائل دريبر" بصورة استثنائية في إسقاطِ سياسةٍ حكومية مكروهة. فقد كتب سويفت، متخذًا شخصية صاحب متجر اسمه "م. ب. دريبر"، سلسلةً من سبعة كتيبات هاجمت منح براءةِ اختراعٍ لوليام وود، وهو مقاول إنكليزي، نتيجةَ سكّه عملةً من النحاس من فئة النصف بنس في أيرلندا. وقام فحوى مناقشة سويفت على أن سك العملة قد حُطَّ من قدره وسوف يدمّر الاقتصاد الأيرلندي، وأن العقد تم التحصل عليه بالرشاوى وكان محاولة أخرى من حكومة روبرت والبول الفاسدة لتقييد حرية أيرلندا. وما ساعد المناقشة إلى حد كبير كانت الأساليب الملائمة التي استخدمها سويفت وهو يناشد مجموعات مختلفة من الشعب الأيرلندي. بالنتيجة، أدى فيضان العاطفة التي أطلق سويفت العنان لها ووجهها إلى إجبار الحكومة على إلغاء براءة اختراع وود. كما أكسبه نجاحه هذا اسم "الوطني الأيرلندي"، على الرغم من أنه كان معاديًا لحكومة ويغ أكثر مما هو متعاطف مع الأيرلنديين.
ثم، وفي عام 1711، حقق سويفت تغييرًا أكثر إذهالًا في مسار التاريخ، هذه المرة أثناء الكتابة لوزارة توري (المحافظين) التي ترأسها روبرت هارلي. ففي كتيب من ست وتسعين صفحة نُشِر من دون اسمه، بعنوان "سلوك الحلفاء"، هاجم سويفت أسس حرب الخلافة الإسبانية وسلوكها. وناقش أن بريطانيا تنازلت عن الكثير من القوة لحلفائها الأوروبيين، ولم تتلقَّ إلا القليل بالمقابل. وأن الحرب قامت لتؤيد مصالح نبلاء الويغ، لا سيما عائلة مالبرو، ومصالح الطبقات الغنية الناشئة على حساب مصالح الكنيسة ومصالح ملّاك الأراضي. وبهذا، قلب سويفت تيار الجدال وعجّل في نهاية الحرب. ورغم أنه قد يُقال إن الكتيب كان بروباغندا أكثر منه أدبًا، فما لا شك فيه هو أن سويفت أظهر القوة التي يمكن للكاتب امتلاكها، القوة التي يمكن أن تحرّك مسار التاريخ.
ترعى رواية "يوليسيس" هالةَ وجودٍ
على الجانب الصحيح من التاريخ
تقول كيتي مولِن (أستاذة محاضرة في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة ليدز):
في الفصل الثاني من رواية "يوليسيس"، يقول ستيفن ديدالوس، الشخصية البديلة لجيمس جويس، مخاطبًا رب عمله السيد ديزي إن "التاريخ كابوسٌ أحاول أن أستيقظ منه". ديزي - معادٍ للسامية اتحاديٌّ شرس- يقف على الجانب الخاطئ من التاريخ. مع هذا، ترعى رواية يوليسيس هالةَ وجودٍ على الجانب الصحيح من التاريخ من خلال أفكارها الأساسية التي تحمل نبوءة خاصة. فعلى الرغم من أن الرواية تجري أحداثها في يوم 16 حزيران/ يونيو عام 1904، وقد استثمرت في التاريخ المصغر ليوم واحد، فإنها رغم ذلك تتوقع المستقبل. قد لا يغيّر الأدب مسار التاريخ، لكن بوسعه بالتأكيد أن يساعدنا في فهم مسار التاريخ.
يوليسيس - التي أتمت مئة عام في شباط/ فبراير 2022- تتنبأ بالتاريخ الأيرلندي من خلال التبشير بتحول شين فين من جريدة متخصصة يحررها آرثر غريفيث في عام 1904 إلى حركة سياسية تحقق الاستقلال الأيرلندي عام 1922. بطل الرواية، ليوبولد بلوم، يُجلّ غريفيث لدرجة أن السكارى في حانة بارني كيرنن يطلقون إشاعة مفادها أن "بلوم هو من أعطى الأفكار بخصوص شين فين إلى غريفيث ليضعها هذا الأخير في جريدته". كما تؤكد مولي، زوجة بلوم، بصيرة زوجها السياسية: "إنه يقول إن الرجل الصغير الذي أراني إياه من دون الرقبة ذكي للغاية وهو الرجل القادم غريفيث هل هو جيد لا يظهر هذا، ذلك كل ما يمكنني قوله".
رجل بلوم "القادم" أصبح رئيس الدولة الأيرلندية الحرة في كانون الثاني/ يناير عام 1922، قبل أسبوعين فقط من نشر يوليسيس. والأهمية التي تُعطى لغريفيث في "يوم بلوم 1904" (وهو يوم الاحتفال السنوي باليوم الذي تحكي عنه رواية يوليسيس) هي أحد الأمثلة عن بلورة جويس السحرية. فأثناء كتابة مسودة الرواية في زيوريخ، ترييستي، وباريس بين 1915 و1922، استفاد جويس من الإدراك المتأخر لكي يتوقع أحداثًا قادمة. بالنتيجة، إذا لم تكن يوليسيس تغيّر مسار التاريخ فعلًا، فإنها تعطي الوهم المُحيِّر بقيامها بذلك. وهذه السمة الغريبة تنسجم مع فهم جويس للتاريخ على أنه قصة سردية. وكما يقول ستيفن وهو يجاهد ليعلّم تلاميذ المدرسة الكارهين: "كان التاريخ حكاية مثل أي حكاية أخرى".
أما اليوم، وبعد قرن من نشرها أولَّ مرة، فقد بات أثر "يوليسيس" التحويلي على التاريخ الأدبي مألوفًا. كما تأكدت أهميتها في التاريخ القضائي عام 1933 عندما قام القاضي الأميركي جون إم. وولسي بقلب حالتها كعمل فاحش في حكمٍ فُهم سريعًا على أنه اختبارٌ لحرية التعبير. إن تقنّعَ "يوليسيس" في هيئة نبوءة ربما يُظهر بكل وضوح أثر التاريخ حتى على الأدب الأكثر تقدمية، لكنه يُظهر أيضًا أن التخييل يمكن أن يدلنا على طريق المضي قدمًا.
رابط النص الأصلي:
https://www.historytoday.com/archive...course-history
- المترجم: سارة حبيب