وداعًا قحطان.. وداعًا ايها المعمار الجرئ
2021/11/07 م
د.خالد السلطاني
غيّب الموت الجمعة 5 نوفمبر الجاري المعمار العراقي الرائد الدكتور قحطان المدفعي في العاصمة اليونانية أثينا، حيث كان يقيم منذ فترة طويلة.
وبغياب هذا المعمار المبدع صاحب المقاربة التصميمية المميزة، تفقد العمارة والثقافة العربية واحدًا من أهم مبدعيها الكبار الذين أثروا المشهد المهني والثقافي بإبداعاتهم الفريدة والرائدة في مجال العمارة والعمران.
ولد المدفعي في عام 1927 ببغداد، وانهى تعليمه المعماري في عام 1952 في كارديف بالمملكة المتحدة. عاد بعد تخرجه مباشرة الى العراق ليمارس مهنته المعمارية، مؤسسًا لاحقًا مكتب "دار العمارة"، مثريًا البيئة المبنية المحلية بتصاميم عديدة، اعتبر بعضها محطات مهمة في مسار عمارة الحداثة بالعراق.
صمم دور موظفي مصفى الدورة (1952)، ودور شركة المنصور (1955)، وجامع ست نفيسة بالكرخ (1954)، وجناح العراق في معرض دمشق الدولي (1957، وفي 1958)، ومصرف الرهون ببغداد (1957) بالاشتراك مع عبد الله احسان كامل. كما صمم حديقة الجوادين بالكاظمية (1959)، وحدائق الأوبرا (1962-65)، ومبنى جمعية الفنانيين العراقيين (1967)، ومبنى متحف التاريخ الطبيعي
نعرف، أيضاً، أن المدفعي "متورط " بالحداثة ، كمبدع له حضوره المميز في نتاج اجناس ابداعية اخرى غير المعمارية، فهو رسام جيد، وشاعر غير عادي، ومثقف رفيع الثقافة، واكاديمي كفء، ومحدث لبق، ودائم الدأب في الحصول على المعرفة (وليس من دون مغزى، انهماكه في الدراسة مجددا، ومن ثم نيله، في عام 1984 من مدرسته المعمارية الاولى، شهادة الدكتوراه بالعمارة، بعد 32 عامًا من تأهيله المهني الاول!).
مرة كتبت عن عمارة مبناه "جمعية الفنانيين العراقيين" بالمنصور في بغداد، وهي الآن جمعية الفنانيين التشكيليين العراقيين، اقتطف منها ما يلي تحية له ولذكراه وما اجترح من منجز معماري مهم اضاف الكثير لذخيرة العمارة العربية والعراقية على وجه الخصوص.
"يثير القرار التصميمي للمبنى حالة من الدهشة جراء التناقض الكبيرالحاصل بين بساطة المخطط وتعقيدات التسقيف، حالة يمكن ان يذكرنا "تناصها" الجليّ مع مناخات مبنى "اوبرا سدني" في أستراليا (1957-73) "المعمار يورن اوتزن". فـ "تجاور المتناقضات" سيدّ "اللعبة" التكوينية في كلا المبنيين. ثمة شكل هندسي منتظم في هيئة مستطيل، هو "فورم" المخطط الافقي لمبنى الجمعية بالمنصور، المتضمن احياز لوظائف متواضعة مقتصرة على فضاء واسع مخصص للعرض الفني، وآخر مفصول عنه بحيز بهو المبنى يشتمل على فراغات لغرف ادارية.... لكن ما يثير في عمارة المبنى ليس هذا، ما يثير هو الخطوة التالية في حالة اذا رفعنا بصرنا شاقولياً، عندها ستصطدمنا اشكال لافتة لاقبية خرسانية معتمة مختلفة المقاسات ومتباينة في المقاطع، ترتكز على ذلك العنصرالانشائي الفاتح. وحينذاك ندرك بواعث التعاطي مع الجدار بالصيغة المتقشفة اياها. اذ ان سكونية الاخير وحياده التام يهيئان المتلقي لفعل الحدث الدراماتيكي القادم المفاجئ والمترع بالتعبيرية الذي يولده ايقاع الاقبية الخرسانية المقطوعة بشكل مائل زيادة في ديناميكيتها. ويبدو ظاهرياً ان الهدف الاساس الذي وضعه المعمار لنفسه قد تحقق، هدف التفرد الشكلي الممزوج بالحس النحتي.
.. واذ نذكرّ بأن مفهوم الوظيفة الآن بالعمارة، وفقاً لآليات النقد الحداثي، تحمل تفسيرات عديدة تصل حد اسقاطها من الفعالية المعمارية، كما ان تلك الآليات تسوغ لنا ما لم يكن تسويغه. بل وتذهب بعيدا في تقبل ما يسميه "جاك دريدا" اطروحة "تدنيس العمارة". بمعنى "فك ارتباط" مفهوم العمارة عن ما ارتبط بها من قيم مثل الوظيفية، والمتانة، و"الاستطيقا"، والمنطق، والتمثيل، والتاريخ، كما تدعو الى ذلك استراتيجيات "التفكيك" على سبيل المثال. لكننا مع هذا، نريد اخضاع تصميم مبنى جمعية الفنانيين العراقيين بالمنصور، للنقد. فهو مثير للنقاش، ويحضر في تكويناته "الشئ ونقيضه": البساطة مع التعقيد؛ الوضوح مع الابهام، وايضا الحضور مع... الغياب. وهذا كله، لا يمنعنا من ان نتساءل فيما اذا كانت العمارة قادرة بالاحتفاظ على بُنيتها المفاهمية رغم ذلك المسعى ؟ ومع هذا (وربما بسبب هذا)، فان عمارة مبنى الجمعية مازالت تعتبر من الاحداث الهامة في المشهد المعماري المحلي والاقليمي على السواء ، لنظارة المقاربة التصميمية وتمظهراتها بهيئة متفردة مفعمة بحضور الحس التعبيري والنحتى معاً، فضلا على اكتنازها لدلالات تشي الى ثقافة المكان".
يبقى اسم قحطان المدفعي ومآثره التصميمية سواء العمرانية منها أم المعمارية (وخصوص المعمارية)، شاهدة على تميز وفرادة مقاربة هذا المعمار المُجد.
الخلود والرحمة لروحه الطاهرة!
وداعًا قحطان.. وداعًا ايها المعمار الجرئ،
.. وداعاً ايها الصديق!