المستشرقون الألمان تأثرهم بالشرق وتأثيرهم في الحركة التشكيلية
بشرى بن فاطمة
يثير البحث في لوحات المستشرقين وقيمتها الفنية والحضارية ومواضيعها الفكرية الكثير من التساؤلات الفنية والتاريخية والسياسية والثقافية بالخصوص، وهذا ما طُرح مؤخرا من خلال مزاد “سوذبيز” الذي عرضت فيه وبيعت مجموعة “طريق نجد” ما يقارب 40 عملا لفنانين مستشرقين أغلبهم من المستشرقين الألمان.
وهو ما نبش مُجدّدا في موضوع لوحات المستشرقين ومدى تأثيرها وتأثرها بالشرق حسب مدى انتماء كل مستشرق وهويّته الثقافية التي عبّر عنها ومدى توافق ذلك مع مقياس التفاعل التبادلي سواء الجمالي والحضاري أو الفكري الفني والمفاهيمي الذي أثّر بدوره على عالمين مختلفي العقليات التعبيرية.
وحسب تصنيف كل جغرافيا الغرب فالمستشرقون رغم تأثرهم المتشابه في تعبيرهم عن الشرق من المشاهد إلى التعاطي الحسي معها ودهشة الرؤى وغرابة استيعاب الاختلاف بين البيئتين، إلا أن كل منهم عبّر من خلال ما حمله من قيم ومبادئ ورؤى واستطلاعات وفضول معرفي وغايات نفعية، فمنها ما سُمي بالغزو ومنها ما سُمي بالتبادل والمعرفة حسب الإشكالات التي تطرّق لها المفكر “ادوارد سعيد” ومدى نقده ونقد أطروحاته أو التكامل معها، من حيث الفكرة والتأريخ لها حسب توجهاتها، رغم أن طرح الموضوع الثقافي والفني يتجاوز أحيانا عن التحليل السياسي حسب المُعطى الباقي في المرحلة الحالية وكيفية التعامل مع أثرها.
وبالتركيز على الاختلاف الجغرافي لطبيعة البحث الفني في الشرق عند الغرب كان التطرّق لخصوصية الاستشراق الألماني خاصة وأنه تجاوز فكرة ربطه بالاحتلال أو التجسس وغيرها من التهم التي يعرّف بها الغرب عند طرح مسألة الاستشراق وهو الاختلاف الذي بدا في الأعمال الأدبية والفكرية والفنية من لوحات ومنحوتات وتأثيرها المزدوج على العالمين.
فما حمله الاستشراق الفني الفرنسي يختلف مع ما حمله الاستشراق الفني الألماني من حيث الفكرة والتعبير والعمق والتساؤل والدهشة وطبيعة البحث ودرجات الفضول المعرفي بالآخر.
فالأول حمل الرومنسية التي كثيرا ما كانت محظوظة في المتابعة والإبهار والنقل والقراءة وأثّرت على بقية المستشرقين بعوالم الغرابة في الصور وعالم حريم المتحرر أوالمخفيّ والغامض بإثاراته، أما الاستشراق الفني الألماني فقد بحث أكثر في تفصيل الفكرة وفلسفة البقاء وقوة الحضارة واختلاف الأدب والفكر وهو ما جعل أهميته التعبيرية تُدرَك تباعا بالقراءة والتحليل البصري، ورغم قوة أعماله وتأثير القراءة الجمالية التي تلاقت معه، تكاد الرؤى النقدية الفنية التي خَصّصت بحوثها لمجموعة المستشرقين الألمان ومجاوريهم المتأثرين بهم من هنجاريا والنمسا، تكون مُقتضبة أو غير مُركزة على ما حقّقه الفرنسيون مثل “دي لاكروا” و”جيروم” والتيار الرومنسي الاستشراقي.
وهو ما يستفز خاصة وأن الكثير من الأدباء والمفكرين والرسامين والمترجمين تلاقوا على فكرة الشرق من البحث المؤثّر الذي فتح أمامهم أفقا جديدا وعوالم مثيرة ماورائية ومجازية في الشعر والفلسفة في الرواية والأدب وفي التصوير، خاصة بعد ترجمة كتب العلوم والأدب العربي والشعر وملاحم الشهنامة وملوك الشرق بتاريخه ومراحله والكتب الدينية وبالخصوص القرآن الكريم الذي نقله إلى الإنجليزية والألمانية “ماكس مولار” الذي اهتم أيضا بلغات الشرق وأصولها، إضافة إلى ما نقله “فريدريك ديتريشي” من كتب أدبية مثل “يتيمة الدهر للثعالبي” ودواوين شعر المتنبي.
كما اهتم الألمان بالفلسفة القديمة واللغة العربية والفارسية وترجمتها إلى اللغة الألمانية مثل الدراسة التي قدّمها “بروكلمان” في الأدب العربي، وهو ما أثر أيضا على أشهر كتاب ألمانيا مثل “غوته” و”نيتشه” وأثّر في رساميها بالتوازي على اختلاف مراحل الاستشراق منذ بداياته كظاهرة وتصادمه الفكري إلى حدود الفترة الحديثة.
إن الاستشراق الألماني ُيخضع الدراسات دوما إلى منحى جاد تميّز في نقل الثقافة العربية بالخصوص بشكلها العميق أثرا وأدبا ولغة وفنونا وتبادلا وهو ما جعل مقارباتها كتيّار معرفي دوما تُؤثر من حيث المراجع والاستخدامات التي وصلت بينه وبين أوروبا خاصة أن بقية دول أوروبا مثل فرنسا وانجلترا كثيرا ما شكّلت علاقتها بالاستشراق علاقة تمهيد لغايات استعمارية.
فمنذ القرن السادس عشر حرص المؤرخون الألمان على نقل صور حقيقية عن الشرق فلم يصفوا منه الأسطورة بل وصفوا الواقع والحالة والأثر والعلوم والانتماء والهوية، خاصة في فترة القرنين الثامن والتاسع عشر المرحلة التي عرف فيها الشرق التمزق والتشرذم الفكري والحضور اللامتماسك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتحوّل الجغرافيا السياسية في المنطقة.
وبالتركيز على الاستشراق الفني الألماني فلا يمكن الفصل بينه وبين ما نقل من الباحثين والعلماء وهي الميزة التي حدّدها الانتماء للمدرسة الألمانية من حيث الكيفية والتقنية والتنفيذ والتواصل والمشاهد والمحتوى والمقارنة والنقل والاقتباس وفق البيئة الألمانية والتطوير فهي مراحل عرفت نقلة نوعية ملحوظة في تاريخ الفن التشكيلي الألماني من حيث الأسلوب والصور والألوان والخيال والملامح والغايات والتصورات والزخرف والزركشة والاشراق والمحتوى والتفكر في العمق والمساحة وجرأة التجريب والضوء وما ورائيات المشاهد والتواصل مع المتلقي والتحفيز الخيالي ودمج الفنون.
ولعل هذا التغيّر التعبيري لم ينفصل عن أصول الحركة التشكيلية بقيمها وكلاسيكيات تعاطيها مع اللوحة وأبعادها وعناصرها والحرص على تلك القوالب التي تستمر في تثبيت جمالياتها الأمر الذي نقله المستشرقون الألمان بدورهم لغيرهم من فناني أوروبا وأمريكا وكذلك أثروا به على البيئة الشرقية والمنطقة ما ترك أثرا لرؤاهم الفنية فيها.
ولعل الانبهار التعبيري بالمحتوى العام لتفاصيل الشرق لم يكن مجرد حب استطلاع على الواقع والطبيعة بل شمل التاريخ وتعاقب الحضارات وما أفرزته كل حضارة من ثقافات وتنوع والتركيز على خصوصياتها من حيث الملاحم والمفاهيم في الأبعاد والقيم والمجتمع والتنوع العرقي والديني.
فقد ركّز الفنانون الألمان على الصورة من حيث ماورائياتها كما عالجوا أبعادها وعناصرها في اللون والكتلة والفراغ والتكوين والمساحة والخطوط والضوء وهذا لا يمكن أن ينفي أن بقية التجارب الاستشراقية لم تركز في ذلك ولكن الاطلاع على التعامل مع اللوحة في التصور الألماني يلاحظ فكرة وفلسفة وتصورا حتى في الأعمال التي اتسمت بالايروتيكية وصُنّفت بالمبالغة كلوحات وصفت بخيالها عالم الحريم والجسد والتعامل بين الجنسين، فقد حاولت اللوحات تفسير فكرة العلاقة وتوظيفات الجسد حسب الفلسفة الشرقية وهو ما ميّز أعمال “جوستاف باورنفايد” و”كارل هاج” و”أدولف سييل” و”أدولف شراير” و”ريتشارد هاندروف” بتركيزهم على الطبيعة والبيئة خصوصيات الصحراء والفروسية وملامح الشرقي واختلافها حسب البيئة التي ينتمي إليها مع التدقيق التفصيلي في العمارة والهندسة، المدن والشوارع، المهن والصناعات اليدوية والأسواق، والعمارة واختلاف البناء ومعالمه وخصوصا أماكن العبادة وحضورها في المشهد بشكل مثير للنفسيات وحواسها وانطباعاتها المتداخلة في تشكلات المساجد والكنائس ورجال الدين والمتعبدين.
وكذلك الرسام “فارديناند ماكس بريد” الذي صوّر المنازل في زخرفها الداخلي ودهشتها البهيجة من حيث الهندسة والتشكيل والفصل وعلاقة عالم النساء بالرجال حسب اختلاف كل منطقة مثل الشام والمغرب العربي وخصوصية كليهما واختلافهما مثلما ركّز بدوره على ذلك الرسام “إرنست واكرلينغ” مصوّرا الطبيعة والحياة باختلافاتها حسب المناطق والمدن.
ولعل التعبير التشكيلي الجمالي الذي خاضه المستشرقون الألمان طال بدوره في تلك الفترة كل الدول المجاورة لألمانيا من حيث التعاطي مع فكرة الشرق وثقافته مثل الرسامين النمساويين نذكر أشهرهم ارنست رودولف الذي تأثر بدوره بالتشكل العام لملامح الشرق بحضاراته المتعاقبة وخصوصا الفرعونية تأثّر بطبيعة تونس وملامح أسواقها ومدنها وأزقتها، صوّر تفاصيل الزخرف والهندسة والعمارة أو الهنجاريين والسويسريين، كما بلغ التأثير مداه حتى للمستشرقين الأمريكيين الذي اقتدوا بالتجربة الألمانية في التعامل مع ثقافات الشرق مثل الاخوة بيير.
إن حركة الاستشراق الفني والثقافي الألماني لم تكن مجرد ظاهرة بمعناها العام ولكنها كانت تصورا مدروسا لتبادل الثقافة الشرقية الغربية والتطوّر معها حسب رؤاها وخصوصياتها الفكرية والإنسانية والفنية والتأثر بها على مدى تنوع التصورات تعبيرية والنقدية والتعامل مع الذات والآخر وحمل الخيال إلى أبعد مستوياته، وهو ما انساقت معه تعبيريا الحركة التشكيلية الألمانية الحديثة التي تحمّلت الفلسفة والتشكل والتغيرات الجمالية والرؤى التوافقية حتى لو خطاها جادة في التجريب والتأثير والاشعاع إلا أنها عميقة ولها خصوصياتها وأثرها المؤثّر.
بشرى بن فاطمة
يثير البحث في لوحات المستشرقين وقيمتها الفنية والحضارية ومواضيعها الفكرية الكثير من التساؤلات الفنية والتاريخية والسياسية والثقافية بالخصوص، وهذا ما طُرح مؤخرا من خلال مزاد “سوذبيز” الذي عرضت فيه وبيعت مجموعة “طريق نجد” ما يقارب 40 عملا لفنانين مستشرقين أغلبهم من المستشرقين الألمان.
وهو ما نبش مُجدّدا في موضوع لوحات المستشرقين ومدى تأثيرها وتأثرها بالشرق حسب مدى انتماء كل مستشرق وهويّته الثقافية التي عبّر عنها ومدى توافق ذلك مع مقياس التفاعل التبادلي سواء الجمالي والحضاري أو الفكري الفني والمفاهيمي الذي أثّر بدوره على عالمين مختلفي العقليات التعبيرية.
وحسب تصنيف كل جغرافيا الغرب فالمستشرقون رغم تأثرهم المتشابه في تعبيرهم عن الشرق من المشاهد إلى التعاطي الحسي معها ودهشة الرؤى وغرابة استيعاب الاختلاف بين البيئتين، إلا أن كل منهم عبّر من خلال ما حمله من قيم ومبادئ ورؤى واستطلاعات وفضول معرفي وغايات نفعية، فمنها ما سُمي بالغزو ومنها ما سُمي بالتبادل والمعرفة حسب الإشكالات التي تطرّق لها المفكر “ادوارد سعيد” ومدى نقده ونقد أطروحاته أو التكامل معها، من حيث الفكرة والتأريخ لها حسب توجهاتها، رغم أن طرح الموضوع الثقافي والفني يتجاوز أحيانا عن التحليل السياسي حسب المُعطى الباقي في المرحلة الحالية وكيفية التعامل مع أثرها.
وبالتركيز على الاختلاف الجغرافي لطبيعة البحث الفني في الشرق عند الغرب كان التطرّق لخصوصية الاستشراق الألماني خاصة وأنه تجاوز فكرة ربطه بالاحتلال أو التجسس وغيرها من التهم التي يعرّف بها الغرب عند طرح مسألة الاستشراق وهو الاختلاف الذي بدا في الأعمال الأدبية والفكرية والفنية من لوحات ومنحوتات وتأثيرها المزدوج على العالمين.
فما حمله الاستشراق الفني الفرنسي يختلف مع ما حمله الاستشراق الفني الألماني من حيث الفكرة والتعبير والعمق والتساؤل والدهشة وطبيعة البحث ودرجات الفضول المعرفي بالآخر.
فالأول حمل الرومنسية التي كثيرا ما كانت محظوظة في المتابعة والإبهار والنقل والقراءة وأثّرت على بقية المستشرقين بعوالم الغرابة في الصور وعالم حريم المتحرر أوالمخفيّ والغامض بإثاراته، أما الاستشراق الفني الألماني فقد بحث أكثر في تفصيل الفكرة وفلسفة البقاء وقوة الحضارة واختلاف الأدب والفكر وهو ما جعل أهميته التعبيرية تُدرَك تباعا بالقراءة والتحليل البصري، ورغم قوة أعماله وتأثير القراءة الجمالية التي تلاقت معه، تكاد الرؤى النقدية الفنية التي خَصّصت بحوثها لمجموعة المستشرقين الألمان ومجاوريهم المتأثرين بهم من هنجاريا والنمسا، تكون مُقتضبة أو غير مُركزة على ما حقّقه الفرنسيون مثل “دي لاكروا” و”جيروم” والتيار الرومنسي الاستشراقي.
وهو ما يستفز خاصة وأن الكثير من الأدباء والمفكرين والرسامين والمترجمين تلاقوا على فكرة الشرق من البحث المؤثّر الذي فتح أمامهم أفقا جديدا وعوالم مثيرة ماورائية ومجازية في الشعر والفلسفة في الرواية والأدب وفي التصوير، خاصة بعد ترجمة كتب العلوم والأدب العربي والشعر وملاحم الشهنامة وملوك الشرق بتاريخه ومراحله والكتب الدينية وبالخصوص القرآن الكريم الذي نقله إلى الإنجليزية والألمانية “ماكس مولار” الذي اهتم أيضا بلغات الشرق وأصولها، إضافة إلى ما نقله “فريدريك ديتريشي” من كتب أدبية مثل “يتيمة الدهر للثعالبي” ودواوين شعر المتنبي.
كما اهتم الألمان بالفلسفة القديمة واللغة العربية والفارسية وترجمتها إلى اللغة الألمانية مثل الدراسة التي قدّمها “بروكلمان” في الأدب العربي، وهو ما أثر أيضا على أشهر كتاب ألمانيا مثل “غوته” و”نيتشه” وأثّر في رساميها بالتوازي على اختلاف مراحل الاستشراق منذ بداياته كظاهرة وتصادمه الفكري إلى حدود الفترة الحديثة.
إن الاستشراق الألماني ُيخضع الدراسات دوما إلى منحى جاد تميّز في نقل الثقافة العربية بالخصوص بشكلها العميق أثرا وأدبا ولغة وفنونا وتبادلا وهو ما جعل مقارباتها كتيّار معرفي دوما تُؤثر من حيث المراجع والاستخدامات التي وصلت بينه وبين أوروبا خاصة أن بقية دول أوروبا مثل فرنسا وانجلترا كثيرا ما شكّلت علاقتها بالاستشراق علاقة تمهيد لغايات استعمارية.
فمنذ القرن السادس عشر حرص المؤرخون الألمان على نقل صور حقيقية عن الشرق فلم يصفوا منه الأسطورة بل وصفوا الواقع والحالة والأثر والعلوم والانتماء والهوية، خاصة في فترة القرنين الثامن والتاسع عشر المرحلة التي عرف فيها الشرق التمزق والتشرذم الفكري والحضور اللامتماسك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وتحوّل الجغرافيا السياسية في المنطقة.
وبالتركيز على الاستشراق الفني الألماني فلا يمكن الفصل بينه وبين ما نقل من الباحثين والعلماء وهي الميزة التي حدّدها الانتماء للمدرسة الألمانية من حيث الكيفية والتقنية والتنفيذ والتواصل والمشاهد والمحتوى والمقارنة والنقل والاقتباس وفق البيئة الألمانية والتطوير فهي مراحل عرفت نقلة نوعية ملحوظة في تاريخ الفن التشكيلي الألماني من حيث الأسلوب والصور والألوان والخيال والملامح والغايات والتصورات والزخرف والزركشة والاشراق والمحتوى والتفكر في العمق والمساحة وجرأة التجريب والضوء وما ورائيات المشاهد والتواصل مع المتلقي والتحفيز الخيالي ودمج الفنون.
ولعل هذا التغيّر التعبيري لم ينفصل عن أصول الحركة التشكيلية بقيمها وكلاسيكيات تعاطيها مع اللوحة وأبعادها وعناصرها والحرص على تلك القوالب التي تستمر في تثبيت جمالياتها الأمر الذي نقله المستشرقون الألمان بدورهم لغيرهم من فناني أوروبا وأمريكا وكذلك أثروا به على البيئة الشرقية والمنطقة ما ترك أثرا لرؤاهم الفنية فيها.
ولعل الانبهار التعبيري بالمحتوى العام لتفاصيل الشرق لم يكن مجرد حب استطلاع على الواقع والطبيعة بل شمل التاريخ وتعاقب الحضارات وما أفرزته كل حضارة من ثقافات وتنوع والتركيز على خصوصياتها من حيث الملاحم والمفاهيم في الأبعاد والقيم والمجتمع والتنوع العرقي والديني.
فقد ركّز الفنانون الألمان على الصورة من حيث ماورائياتها كما عالجوا أبعادها وعناصرها في اللون والكتلة والفراغ والتكوين والمساحة والخطوط والضوء وهذا لا يمكن أن ينفي أن بقية التجارب الاستشراقية لم تركز في ذلك ولكن الاطلاع على التعامل مع اللوحة في التصور الألماني يلاحظ فكرة وفلسفة وتصورا حتى في الأعمال التي اتسمت بالايروتيكية وصُنّفت بالمبالغة كلوحات وصفت بخيالها عالم الحريم والجسد والتعامل بين الجنسين، فقد حاولت اللوحات تفسير فكرة العلاقة وتوظيفات الجسد حسب الفلسفة الشرقية وهو ما ميّز أعمال “جوستاف باورنفايد” و”كارل هاج” و”أدولف سييل” و”أدولف شراير” و”ريتشارد هاندروف” بتركيزهم على الطبيعة والبيئة خصوصيات الصحراء والفروسية وملامح الشرقي واختلافها حسب البيئة التي ينتمي إليها مع التدقيق التفصيلي في العمارة والهندسة، المدن والشوارع، المهن والصناعات اليدوية والأسواق، والعمارة واختلاف البناء ومعالمه وخصوصا أماكن العبادة وحضورها في المشهد بشكل مثير للنفسيات وحواسها وانطباعاتها المتداخلة في تشكلات المساجد والكنائس ورجال الدين والمتعبدين.
وكذلك الرسام “فارديناند ماكس بريد” الذي صوّر المنازل في زخرفها الداخلي ودهشتها البهيجة من حيث الهندسة والتشكيل والفصل وعلاقة عالم النساء بالرجال حسب اختلاف كل منطقة مثل الشام والمغرب العربي وخصوصية كليهما واختلافهما مثلما ركّز بدوره على ذلك الرسام “إرنست واكرلينغ” مصوّرا الطبيعة والحياة باختلافاتها حسب المناطق والمدن.
ولعل التعبير التشكيلي الجمالي الذي خاضه المستشرقون الألمان طال بدوره في تلك الفترة كل الدول المجاورة لألمانيا من حيث التعاطي مع فكرة الشرق وثقافته مثل الرسامين النمساويين نذكر أشهرهم ارنست رودولف الذي تأثر بدوره بالتشكل العام لملامح الشرق بحضاراته المتعاقبة وخصوصا الفرعونية تأثّر بطبيعة تونس وملامح أسواقها ومدنها وأزقتها، صوّر تفاصيل الزخرف والهندسة والعمارة أو الهنجاريين والسويسريين، كما بلغ التأثير مداه حتى للمستشرقين الأمريكيين الذي اقتدوا بالتجربة الألمانية في التعامل مع ثقافات الشرق مثل الاخوة بيير.
إن حركة الاستشراق الفني والثقافي الألماني لم تكن مجرد ظاهرة بمعناها العام ولكنها كانت تصورا مدروسا لتبادل الثقافة الشرقية الغربية والتطوّر معها حسب رؤاها وخصوصياتها الفكرية والإنسانية والفنية والتأثر بها على مدى تنوع التصورات تعبيرية والنقدية والتعامل مع الذات والآخر وحمل الخيال إلى أبعد مستوياته، وهو ما انساقت معه تعبيريا الحركة التشكيلية الألمانية الحديثة التي تحمّلت الفلسفة والتشكل والتغيرات الجمالية والرؤى التوافقية حتى لو خطاها جادة في التجريب والتأثير والاشعاع إلا أنها عميقة ولها خصوصياتها وأثرها المؤثّر.