باراجانوف (أنا فنان ﮔرافيك ومخرج سينمائي يبحث في تشكيل الصور) ترجمة علي كامل (الحلقة الرابعة) (بازوليني، بالنسبة لي، هو أشبه بإله. إنه الأقرب إلى الله) تتمة المقابلة س: ماذا حدث في السجن؟ وكيف استطعت أن تبقى على قيد الحياة؟ ج: إن العزل والإبعاد في معسكرات الاعتقال في السجون السوفييتية أمر لا يطاق. إلا إن أكثر ما كان يرعبني هو أنني كنت سأتشظى وأنهار وأفقد مهنتي كفنان. كان من الممكن أن أُصبح مجرماً في هذا الوسط. كان ثمة سجناء ذو سجلات جنائية طويلة الأمد. أناس ساقطون وخطرون. لقد وقعت وسط تلك البيئة، ولم ينقذني سوى فني. لقد بدأت أرسم. وبعد أربعة سنوات وأحد عشر يوماً تمَّ إطلاق سراحي. لقد نلتُ حريتي بفضل لويس أراغون وزوجته إلزا تريرليت، وكذلك بفضل صديقي الطيب هيريرت مارشال وجون أبدايك. لقد أُعفيت أحد عشر شهراً وثمانية عشر يوماً قبل انتهاء العقوبة الكاملة. إلى جانب ذلك، أحبني السجناء. لقد اتخذت على عاتقي مَهَّمة سماع اعترافاتهم. كل الاعترافات الجرمية وكل المآسي والجرائم همسوها في أذني. كان أشبه بسيناريو عظيم أو رواية رائعة. لقد كان أولئك السجناء بمثابة هدايا قُدِّمت لي. لقد أنجزت مائة قصة قصيرة وستة سيناريوهات من تلك الاعترافات... أربعة منها سيتم تصويرها في المستقبل القريب، أما الباقي فسيبقى أحد أسراري الخاصة. من الممكن أن تنشر يوماً من الأيام وممكن أن تظهر على الشاشة، أو ربما ستُدفن معي إلى الأبد. كان الوقت في السجن قاسياً. لكن، بدلاً من أن أتشظى وأنهار، غادرت السجن وأنا أكثر ثراء. فقد خرجت بحصيلة كتابة أربعة سيناريوهات. أحدهم سيتم انتاجه للسينما. المخرج يوري إيلينكو سيقوم باخراج فيلم "بحيرة البجع... المنطقة المعزولة" (١٩٩٠) وهو السيناريو الذي كتبته عن البيئة الإجرامية في السجن وعلم أمراضها، العزلة التي تجعل من الناس مرضى. السجن كارثة حقيقية. إنهم يحتجزونك لمدة عشرة أيام لتصبح مريضاً عقلياً وجنسياً لمجرد البقاء على قيد الحياة. العزلة مرعبة ورهيبة. إذا وضعت ألفين شخص في معسكر اعتقال في "منطقة معزولة" تحدث أمور مأساوية. س: وماذا فعلت؟ ج: بدأت أرسم. لقد اتجّهت صوب فن الغرافيك. لقد ابتكرت أعمالاً تم خلقها في تلك العزلة. جلبت معي بعض اللوحات المثيرة للاهتمام حقاً. ويعتقد أصدقائي أنني في خضم كل تلك القذارة قد أنجزت النقاء المذهل في عملي وفي روحيتي. عندما وقعت في أسوأ ظروف سجن أدركت أن لدي خيار بين أمرين، إما أن أهلك وأموت، أو أن أصبح فناناً. لذا ابتدأت أرسم. لقد أحضرت معي ثمانمائة عمل فني حين خرجت من السجن. س: بعدها غادرت أوكرايينا لعمل فيلم (سيات نوفا، أو لون الرمان) في أرمينيا.. ج: أنا أعشق جداً هذا الفيلم، بل أفتخر به. أفتخر به في المقام الأول لأنه لم يفز بجائزة الأسد الذهبي أو الطاووس الفضي. هذا الأمر الأول. الأمر الآخر هو أنني اضطررت أن أعمل هذا الفيلم تحت ظروف غاية في الصعوبة، فلم تكن لدي المتطلبات التقنية اللازمة ولا أفلام خام كوداك ولا أفلام خام مصنوعة في موسكو، وليس هناك إضاءة كافية ولا ماكينة لإثارة الريح، ولا إمكانيات لاستخدام المؤثرات الخاصة، ولا ولا ولا.. لا شيء على الإطلاق. ومع ذلك فإن جودة الفيلم كانت شيء غير قابل للجدل. كانت النتائج كما لو أننا وسط بيئة واقعية بدائية أو قرية نموذجية أو سهب عادي. حكاية جِن مُصاغة بمفردات واقعية... طرق متباينة لإعطاء انطباع أننا أمام "ما فوق واقعية". فإذا احتجتُ إلى نمر مثلاً فسأصنع نمراً أشبه بلعبة.. وسيكون ذلك أكثر وقعاً وتأثيراً من نمر حقيقي. إن تأثير صورة نمر مرسوم على خرقة لإثارة خوف البطل سيكون لها أهمية أكبر مما نظن. لقد خاطت لنا والدة البطل خمسة عشر تنورة كردية. إنها امرأة كردية وربّة بيت. كانت تلك التنانير المزركشة تُسحب إلى الأعلى فوق الرؤوس والأسلحة، وكان تأثير ذلك يكاد يتماهي وتأثير سينما بازوليني وهذا ما لا أريد إخفاءه، بل بالعكس أريد أن أشدّد عليه. س: هل توافق أن فيلم سايات نوفا، أو لون الرمان (١٩٦٦) هو فيلم عن القفقاس؟ ج: أعتقد أن فيلم سايات نوفا شبيه إلى حدٍّ ما بالمجوهرات الفارسية. فجمال منمنماتها البلورية الجميلة يملأ العينين من الخارج، وحين تفتحها سترى أن لا زال في الداخل الكثير من الزينة الفارسية. س: يبدو أن فيلمك هذا كان قد تأثر ببازوليني. ج: العديد يحبون تقليد ما هو جديد، ولكن بمجرد أن يبدأوا بتقليد ذلك، يتحولون إلى مخلوقات بائسة فقيرة حد التسّول. ومع ذلك، على المرء أن يتبع خطى الآخر. إذا قال أحدهم: "أفلامك تشبه أفلام بازوليني"، حينها سينتابني شعور أنني أكبر سعة من الحياة ذاتها، ويمكنني أن أتنفس بشكل أكثر يسراً. بازوليني بالنسبة لي هو أشبه بإله، إله الجمال، سيد الأسلوب، الشخص الذي علمّنا أمراض العصر. لقد تخطى نفسه في الأزياء، تجاوز نفسه في الإيماءات. أنظر إلى فيلمه (أوديب) ١٩٦٧. أعتقد أنه عمل بارع بشكل مطلق. ممثليه، مشاعره إزاء الأنوثة، الرجولة. بازوليني ليس إله فحسب، إنه الأقرب إلى الله. وهو أيضاً الأقرب إلى علم أمراض وجودنا على الأرض، الأقرب إلى جيلنا. لقد شاهدت تواً فيلمه (ألف ليلة وليلة) ١٩٧٤. هذا الفيلم بالنسبة لي تفسير جبار ومؤثر للإنجيل. إنه مجبول من التكوين نفسه، مصاغ من الشكل البلاستيكي نفسه كما هو موجود في الكتاب المقدس. س: هل أنت معجب بأفلام فيليني؟ ج: السحر في أفلام فيليني شيء مدهش. موهبته التخييلية أمر مذهل، إلا أنها تتجه صوب وجهة واحدة فقط. صوب التعمية والغموض. فيليني يمتلك شغف عنيد لجعل شخصياته أكبر من الحياة ذاتها. أنظر إلى فيلمه (والسفينة تبحر) ١٩٨٤ وهو فيلم مذهل يتحدث عن مأساة الزمن... عن مغنية الأوبرا (Edmea Tetua) عن الحرب (الحرب العالمية الأولى). كل شيء يحدث على ظهر سفينة: نثر رماد مغنية مشهورة من لاسكالا - عبقري! كيف يمكن للناس القول إنه أحرق نفسه بعمله هذا؟ على العكس، إنه أحد أفضل أفلامه. أنظر إلى فيلمه (كازانوفا) ١٩٧٦!. (*) تم أختيار وتوليف الصور من فيلم "لون الرمان" (الحلقة الخامسة) تتبع