"الشاعر والملك".. رؤية إبستمولوجية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "الشاعر والملك".. رؤية إبستمولوجية

    "الشاعر والملك".. رؤية إبستمولوجية

    جهاد إبراهيم

    24 يوليه 2022
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    الغاية من هذا المقال تسليط الضوء على هذا العمل الإبداعي، رواية وليد سيف الصادرة أخيرًا، "الشاعر والملك" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2022)، من زاوية "نظرية المعرفة"، وذلك على مستويي "العلاقة المعرفية" بين كاتب النص والمادة التاريخية و"العلاقة السردية" بين شخوص النص وواقعهم التاريخي.
    مبدئيًا، يتعلق جانبٌ أساسيٌّ من "نظرية المعرفة" بعملية تحويل "المعلومات" إلى "معرفة". وبالطبع، لا تكتمل هذه العملية من دون وجود ذاتٍ واعيةٍ تقوم بتلقي المعلومات وجمعها وهيكلتها وصياغتها (ذهنيًا ولغويًا)، وتحديد ترابطاتها الداخلية والخارجية، ومن ثم إنتاجها في سياق خطاب محدّد. طبعًا، المعلومات بذاتها (أو بشكلها الفجّ) لا تشكل بالضرورة "بناءً معرفيًا"، حتى يتم احتواؤها ضمن منظومة الوعي المعرفي البشرية. وهنا، وكما يقول إدوارد دي بونو، في كتابه "أنا محق، وأنت مخطئ": "العقل البشري، وبشكل لا واع، يقوم، في الغالب، بإعادة قولبة المعلومات وتشكيلها بشكل يتفق مع قناعته المسبقة ومرجعياته الخاصة ابتداء من مرحلة استقبال المعلومة إلى مرحلة إعادة إنتاجها".

    "المعلومات بذاتها (أو بشكلها الفجّ) لا تشكل بالضرورة "بناءً معرفيًا"، حتى يتم احتواؤها ضمن منظومة الوعي المعرفي البشرية"


    لعل كثيرين ممن تتبعوا أعمال الشاعر والروائي وكاتب الدراما، وليد سيف، قد لاحظوا فيها تلك الجدلية المستمرة بين ما اصطلح على تسميته "واقع موضوعي" (إذا صحّ التعبير) ورؤية شخوص العمل الفني إلى هذا الواقع (أو ما ينبغي عليه أن يكون). ولعل أبرز دليل على ذلك عنوان سيرته الذاتية "الشاهد المشهود" (ولم تكن الشاهد "و" المشهود)، لأنه من المنظور المعرفي لوليد سيف، وكما صرّح أكثر من مرّة، ليس هنالك حد فاصل بين ذات الموضوع من جهة، وذات المتلقي والراوي الذي يخلق السردية من جهة أخرى.
    انطلاقًا مما سبق، ولدى قراءتي رواية "الشاعر والملك"، لا أبالغ إذا قلت إنني قد ذهلت بهذا النص الذي اعتبرته نمطًا أدبيًا فريدًا، من حيث انطلاق رؤيته وأحداثه من ذات البطل/ الشاعر إلى العالم الخارجي، وليس العكس، كما تعودنا في فن الرواية، فأصبحنا نتابع الوقائع والأحداث، كما تتشكل في وعي طرفة بن العبد، ووفقًا لمرجعيته الشاعرية، وكأن الواقع الموضوعي خارج وعيه ليس سوى نتاج له.
    بالتأكيد، يتمايز هذا الأسلوب، وإن كان لا يتناقض، بالضرورة، عن مدرسة "الواقعية السحرية" (التي تبناها ماركيز وبورخيس) باشتراكهما في الابتعاد عن نمط "السرد المحايد"، وإن كان الأخير (والأكثر إغراقًا في الخيال) هو الشكل الأكثر تطرّفًا للمفهوم ذاته، من حيث تجاوزه حدود الواقع المحسوس إلى الواقع المتخيّل.
    تتعمّق هذه الرؤية في موضوع الرواية ذاته، فيظهر أن طرفة بن العبد هو من الشخوص الذين تنتمي نفوسهم إلى عالم "المثال" (كما وصفه أفلاطون)، لا إلى عالم الواقع المادي، والذي وإن "تلوّث" به طرفة، فإنه سرعان ما كان يعود إلى قاعدته الشعرية المثالية التي تعيد تعريف العالم بالنسبة له بما يتوافق معها. إذًا، طرفة هو صنيع شعره الذي طوّقه من كل جانب (كما هو كذلك صريع شعره الذي فرض عليه التطهّر من رجس الواقع بالاستسلام للموت القابع في رسالة ملكية). وهنا، فإن الرؤية المعرفية والشعرية هي التي صنعت صاحبها، وصاغت سرديته، وليس العكس. وكي يتّضح المقصد هنا، ربما من المناسب الحديث عن الشخصية النقيضة لطرفة في الرواية، والمتمثلة في خاله المتلمّس، والذي وإنْ لا يخلو من مثاليّة شعرية، إلا أن جذوره كانت ضاربة في أرض واقعه المادي المحسوس، وما يرتبط به من إرثٍ قبليّ ومنفعيّ، فما رأى في موهبته الشعرية إلا أداة للتكسّب، وسرعان ما أسرع هاربًا، عندما علم بأمر "الإعدام" في رسالته.

    "في الرواية، نتابع الوقائع والأحداث، كما تتشكل في وعي طرفة بن العبد، ووفقًا لمرجعيته الشاعرية، وكأن الواقع الموضوعي خارج وعيه ليس سوى نتاج له"


    ولعل هنالك ما يعزّز هذا الطرح في مجالات فنية أخرى، كما هي الحال في الفنون التشكيلية، وبالتحديد رسومات الفنان، فنسنت فان غوخ، الذي أذهل العالم بتمثيله الواقع بشكل موجاتٍ لونية متداخلة ومترابطة، تجذب الناظر إلى لجّتها، وكثيرًا ما قيل إن فان غوخ لم يكن يعيد تشكيل العالم بفُرشاته، ولكنه كان يرسم العالم كما أحسّ به من مخيلته الفنية (كما رأى طرفة العالم من مخيلته الشعرية). ومن الغريب أن هذا الفنان قد "بادر منيّته بما ملكت يده"، كما فعل طرفة، حين عجز عن جسر الهوة بين رؤيته الفنية والواقع البصري للآخرين (وفي مقدّمتهم المرأة التي أحب)!
    ولعل من المناسب في هذا السياق مقارنة هذا العمل بأعمال أخرى تنضوي تحت مظلة "الرواية التاريخية"، وبالتحديد روايات الكاتب اللبناني الفرنسي، أمين معلوف، الذي ينطلق فيها من فكرة ما (غالبًا ما تكون ذات طابع حداثي، كالعولمة، أو الهوية المزدوجة، أو التفاعل الحضاري)، ثم يبني الأحداث والحوارات، ويرسم الشخصيات بشكل "إسقاطي"، أو "تقمّصيّ"، لإيصال رسالته الفكرية، أو الأخلاقية، إلى القارئ. وعلى الرغم من حرص معلوف على توضيح تمايز الرؤى، طبقًا لمرجعية الرائي الحضارية والإنسانية (كما هي الحال في سرديته للحروب الصليبية)، إلا أنه كثيرًا ما كان يلوي عنق التاريخ، كي تصبح شخوصه إناءً مثاليًا لأفكاره الخاصة، أو لقوالب تاريخية نمطية تخدمه في إيصال رسالته. كان أسلوب وليد سيف دائمًا أقل "تداخلية" في رسم الشخوص ورواية الأحداث في هذه الرواية، كما في أعماله الأخرى، فهو، كما صرّح في محاورته أخيرًا في برنامج "المقابلة" مع قناة الجزيرة، يلتزم بالحقائق التاريخية أولًا، ثم يعمل ضمن مساحة "المسكوت عنه" في التاريخ، لإضافة البعد الدرامي في أعماله. هو، إذًا، يسلط الضوء على البعد الإنساني، أو يبنيه تحت ظل التاريخ، فيظهر "تسامي" شخوصه نحو عالم المثال الفكري والأخلاقي والفني، أو انطلاقها منه (كما في طرفة بن العبد)، عوضًا عن "إسقاط" المُثُل والأفكار الخاصة به على تلك الشخصيات.
    في سياقٍ أعم، قد يمثل مثل هذا الطرح مدخلًا لإعادة النظر بأساسيات نظرية المعرفة نفسها، والتي تفترض تقليديًا حيادية المعرفة واستقلاليتها ومحدودية قنواتها، لكن الخوض في تفاصيل هذا الموضوع الشائك ليس غاية هذا المقال (علمًا أن جهودًا فلسفية كبرى بُذلت وتبذل حديثًا في موضوع الربط بين المعرفة والقناعات الفكرية ضمن إطار الوعي المعرفي).
    ختاماً، ما سلطت الضوء عليه السطور أعلاه جانب "فكري" محدود من جوانب الرواية الفنية. ويبقى هناك حديثٌ كثير عن الجوانب الأدبية والتاريخية والاجتماعية التي شملتها، وخصوصًا أن الرواية قد سردت على خلفية تغيير تاريخي اجتماعي مفصلي شهد بداية الانتقال من المجتمع القبلي "المشاعي"، وما يتعلق به من ولاءات، إلى شكل من الملكية "البدائية" التي مثّلتها دولة المناذرة، والتي كانت بذاتها خليطًا من الإرث القبلي والمملكة المركزية. وهذا بالمناسبة ليس بعيدًا عن واقع بعض الأنظمة العربية إلى اليوم (ربما مع تغيير شكلي في تعريف القبيلة ومفهومها)!


    *كاتب ومحاضر في فلسفة العلوم/ الأردن.
    • عنوان الكتاب: الشاعر والملك
    • المؤلف: وليد سيف
يعمل...
X