"أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية".. أسئلة المثاقفة وتجلياتها
إدريس بنجدو
23 مايو 2022
شارك هذا المقال
حجم الخط أهدف من هذه المقالة إلى الوقوف على تجليات المثاقفة في مؤلّف الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو بعنوان: "أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية". ومن المعروف أن هذا الكتاب ينفتح على آفاق معرفية رحبة، لأن المؤلف يدعو فيه إلى المثاقفة والانفتاح على اللغات والآداب الغربية. وقبل الشروع في تحليل ومناقشة هذه الفكرة، من خلال بعض تجلياتها في النص، لا بد في البداية من تحديد مفهوم المثاقفة.
يقدّم الإسلام المثاقفة كشكل من أشكال التفاعل والتثاقف والتعارف بين الحضارات والشعوب. ولقد أسّس الإسلام منهجًا يقوم على الوعي بالآخر، وحـدّد السبيل إلى المثاقفة، ورفض المركزية الحضارية، ودعا إلى عالم منفتح على الثقافات، باعتبار أن الثقافة البشرية واحدة، وأن استيعاب تلك الثقافات ونقدها هو أساس بناء الكيان الثقافي الخاص. وهذا ما أكّده القرآن الكريم في سورة الحجرات: "يا أيهـا الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائـل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[1]. وهي دعوة صريحة إلى التثاقف، وربط أواصر التعارف والتواصل بين الشعوب، ونبذ التفاضل والتمايز والتمركز الحضاري.
في السياق نفسه، عرّف قاموس المورد المثاقفة بأنها "تبادل ثقافي بين شعوب مختلفة، وبخاصة تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها بمجتمع أكثر تقدمًا"[2]. وعرّفها الباحث الاجتماعي الفرنسي، ميشيل دو لاكوست/ Michel de Coster، بأنها "مجموع التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة، كالتأثير والتأثر والاستيراد والحوار والرفض والتمثل، وغير ذلك"[3]. وفي تعريف واضح ودقيق للباحث المغربي، محمد برادة، يقول "إن المثاقفة تطلق على دراسة التغير الثقافي الذي يكون بصدد الوقوع نتيجة شكل من أشكال اتصال الثقافات، وتؤدي المثاقفة إلى اكتساب عناصر جديدة بالنسبة لكلتا الثقافتين المتصلتين"[4]. ويحدد الكاتب والباحث الفلسطيني، عز الدين المناصرة، معاني متعددة لأشكال وتمظهرات هذا المصطلح، فيقول: "تحمل المثاقفة معنى التأقلم مع ثقافة الآخر، والاندماج فيها، فيساعد ذلك على إضافة عناصر جديدة إلى ثقافة الآخر"[5]. وفي تعريف آخر يجمع بين الترجمة والمثاقفة، ينفي عبد السلام بنعبد العالي أن تكون المثاقفة خضوعًا "عولميًا" يرمي إلى إقصاء التعدد اللغوي والثقافي، ويهدف إلى الإلغاء والتفاضل. وهو هنا يؤكد حتمية الترجمة كجسر للتواصل والتفاعل والتثاقف. يقول الباحث في هذا الصدد: "بهذا المعنى، تكون الترجمة، لا علامة على تبعية ونقل وتجمد وموت، وإنما على انفتاح وغليان وتلاقح وحياة"[6].
يثير كيليطو في كتابه "أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية" موضوع المثاقفة "بوصفها إشكالية تطرح نفسها على الأدب العربي بإلحاح"، ويدعو إلى التفاعل والتثاقف مع ثقافات وآداب الآخر، كمطلب لا بد منه من أجل ضخ دماء جديدة في الأدب العربي، ويركز على وسيلتين اثنتين يعدهما جسرين يمكن للمثقف العربي من خلالهما أن يطرق باب الثقافات الأخرى، وهما اللغة والترجمة. فكيف ثم استدعاء اللغة والترجمة؟ وكيف وظفهما كيليطو كأداتين للتثاقف؟
اللغة كوسيلة للتثاقف
يفتتح كيليطو هذا الكتاب النقدي الهام بتساؤل عريض: كيف للمرء أن يكون أحادي اللسان؟ وكأن لسان حاله يقول لا مكان لأحادي اللسان في عصرنا هذا، وخاصة دارس الأدب، لينتقل في الفصل الثاني من الكتاب إلى الحديث عن صاحب "اللسان المشطور"، وهي عبارة تدل على ازدواجية اللسان، فينتصر لصاحب اللسان المشطور "للحديث عن اللغة من الضروري معرفة اثنين على الأقل[7]"، وهي دعوة صريحة لتعلم اللغات لدراسة الأدب وولوج عوالمه. ويتساءل أيضًا: هل يمكن أن نتحدث عن أدب ما من دون أن نكون على اطلاع على آداب أخرى. يبدو أن كيليطو لا يكاد يستسيغ أن نجد دارسًا للأدب في عصرنا هذا لا يتكلم أكثر من لغة، ويتساءل بمرارة عن "جدوى دراسة الأدب إذا كان الدارس لا يعرف إلا أدبه". ويضيف: "هل هنالك منظّر للأدب لا يعرف إلا أدبه؟"[8]. وهذه التساؤلات كلها تروم الدعوة إلى التلاقح الثقافي بين الأمم، وتحثّ الدارس العربي على الانكباب على تعلم اللغات الأجنبية، كوسيلة للتعرف على الثقافات والآداب الأخرى.
يستحضر كيليطو في هذا الإطار سيرته العلمية حينما أشرف على مناقشة رسالة جامعية حول الشعر المغربي اقتصر فيها الطالب الباحث على ذكر الشعراء ممن يكتبون بالعربية فقط، وكيف عمّ الصمت القاعة حينما سأل الأستاذ الطالب الباحث عن مصير الشعراء الذين يكتبون بالفرنسية. ومن هنا، يوجه هذه الدعوة إلى دارس الأدب في الوطن العربي منبّهًا إياه إلى دراسة وتعلم اللغات والانفتاح على الآخر، وخاصة الأدبين الفرنسي والإنكليزي. إن هذه الدعوة الذكية من الناقد تتسم ببعد النظر، وتستلهم العبرة من التاريخ الحضاري للإنسانية، التي ظلت على الدوام تتلاقح في ما بينها. ولنا في تاريخ الإنسانية شواهد مهمة لأشكال التلاقح، والحوار الحضاري، والتبادل الثقافي بين الأمم، رغم الاختلافات العرقية والدينية واللغوية والمعرفية والبعد الجغرافي. لقد لعب التبادل الثقافي والأدبي والمعرفي دورًا طلائعيًا في إغناء وإثراء الحضارات، بما تختزنه سابقاتها من خبرة وتقدم في مجالات وحقول معرفية وفكرية وثقافية مهمة. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار دعوة كيليطو إلى تعلم اللغات والآداب الأخرى بمثابة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة، مما يغني الثقافات، ويؤدي بالتالي إلى ظهور عناصر جديدة في اللغة والأدب المستورد الذي سيستفيد بدوره من هذا التفاعل.
لذا نجد الناقد يدعو الدارس العربي إلى الاستفادة من الآداب الغربية، حيث يرى أنه لا يمكن للباحث العربي اليوم أن يدرس الأدب إلا في مقابل أدب آخر، وهو الأدب الغربي انطلاقًا من معرفته بما يمكن أن يسديه الأدب الغربي للأدب العربي، خاصة في ما يتعلق بالأجناس الأدبية الحديثة، كالرواية والمسرح، وهي كلها فنون جديدة على الأدب العربي. فهذه الدعوة إلى الانفتاح على المعارف الغربية الجديدة هي دعوة إلى التبادل الثقافي تستمد شرعيتها من التاريخ الإنساني الذي يحفل بكثير من الأمثلة والتجارب الحية الدالة على التلاقح والتبادل الثقافي الحضاري بين الشعوب. فالحضارة العربية الإسلامية مثلًا في لحظة من لحظات بناء صرحها لم تتقوقع على نفسها، بل حاولت أن تتفاعل مع الحضارات الأخرى، حيث نجد بصمات الحضارة اليونانية والفارسية والهندية حاضرة فيها، وكان لا بد كذلك للحضارة الغربية في لحظات النهضة الحديثة كي ترتقي إلى ما وصلت إليه، أن تتزود هي الأخرى من معين الحضارة العربية الإسلامية، وتضيف إليه فعلًا إبداعيًا جديدًا يغني الحضارة الإنسانية. وهذا ما تنبّه إليه كيليطو، وعمل على الحث عليه في هذا العمل النقدي الشيق. هكذا، وبوعي وتبصر، يدعو الناقد الدارس العربي إلى أن ينكبّ على اللغات والآداب الغربية، ويغترف من هذا الفعل الإبداعي المغاير والجديد. إنها دعوة صريحة إلى المثاقفة تتجلى واضحة في جلّ فصول الكتاب، وخاصة في الفصلين الثاني والثالث.
الترجمة بوصفها آلية للتثاقف
بالإضافة إلى اللغة، تعتبر الترجمة أيضًا آلية للمثاقفة والتواصل بين الأمم والحضارات. من هنا استدعاء كيليطو الترجمة في هذا العمل، حيث يقطع أنه لولا الترجمة لضاع الأدب العربي ومات. يقول: "إن الترجمة قد أنقذت الأدب العربي، وواكبته باستمرار، وساهمت في تجديده، وذلك بالانفتاح على أجناس أخرى جديدة". ويضيف أنها "ساهمت (أي الترجمة) في بعث روح جديدة في اللغة الأدبية، تلك اللغة التي عرفت تطورًا هائلًا. وهذا بالضبط لأننا وراء ما يكتب نلمس لغة أوروبية[9]". كيف تتحول الترجمة، إذًا، إلى وسيلة لبعث روح جديدة في أدب آخر؟ (في هذه الحالة الأدب العربي)، وكيف يمكن أن تساهم الترجمة في التثاقف بين الأمم؟ وإلى أي حد استطاع كيليطو أن يعيد النقاش حولها كاستراتيجية ناجعة للتثاقف؟
يشهد التاريخ على أن الترجمة ظلت على مر العصور جسرًا للتواصل والتبادل بين مختلف الثقافات، فلا يمكن، مثلًا، تصور وجود الثقافة اليونانية القديمة من دون المثاقفة التي تمت في وقت من الأوقات مع ثقافة مصر الفرعونية، كما لا يمكن معرفة الحضارة العربية الإسلامية من دون معرفة الروافد الثقافية اليونانية. والأمر نفسه في ما يتعلق بالحضارة الأوروبية الحديثة، التي تدين بقوة للحضارة والتراث الفكري العربي في عملية تثاقف واسعة النطاق. لقد لعبت الترجمة دورًا طلائعيًا في تبادل المعارف والتعرف على الثقافات الأخرى عبر العصور، ودفعت أهميتها الناقد المغربي، عبد الفتاح كيليطو، في منجزه هذا، إلى إعادة النقاش من جديد حول عملية الترجمة بإيجابياتها وسلبياتها إلى الواجهة كآلية واستراتيجية لا بد منها لتكريس لغة المثاقفة، ولغة الحوار، بين الثقافات والحضارات والآداب المتنوعة.
بالنسبة لكيليطو لا يمكن تصور إبداع أدبي من دون استحضار عملية الترجمة. يقول: "الإبداع الأدبي يسير جنبًا إلى جنب مع الترجمة[10]". ويضيف: "من المؤسف أن المترجمين لا يحظون باهتمام كبير"[11]. يؤكد الناقد، إذًا، على الدور الطلائعي للترجمة والمترجمين بالنسبة للأدب العربي، وخاصة المساهمة الثمينة التي قدمتها الترجمة في مجال الأجناس الأدبية الجديدة، كالرواية والمسرح، التي ما كان ليعرفها الجمهور العربي لولا عملية الترجمة. يقول الناقد: "وساهمت ـ أي الترجمة ـ في تجديده، وذلك بالانفتاح على أجناس أخرى جديدة"[12]. ويلاحظ الناقد بأن أهم شيء هو العلاقة "الترجمية" بين الأدب العربي الحديث والأدبين الفرنسي والإنكليزي، وتظهر عملية الترجمة ليس فقط في المحاولات الفردية لكتاب عرب بعينهم، كالمنفلوطي الذي قام بتحويل نصوص أوروبية إلى العربية، ولكن أيضًا في تملك جنس الرواية الذي استنبت في الوطن العربي في إثر هذه العملية الترجمية التي تمت مع الأدب الغربي. يؤكد كيليطو على الدور الطلائعي الذي لعبته الترجمة في إحياء وبعث وتطوير الأدب العربي الحديث، مستشهدًا في زعمه هذا بما قاله الشاعر الألماني الكبير غوته: "ينتهي كل أدب بأن يمل نفسه، ما لم ينعشه إسهام أجنبي"[13]. هذا بالضبط ما ينطبق على الأدب العربي الذي انتعش في إثر اللقاء مع الأدب الغربي الذي بثّ فيه دماء جديدة، من خلال عملية الترجمة التي ساهمت أيضًا، حسب رأي الناقد "في بعث روح جديدة في اللغة الأدبية، تلك اللغة التي عرفت تطورًا هائلًا"[14].
واضح أن عبد الفتاح كيليطو من النقاد القلائل في الوطن العربي الذين التفتوا إلى أهمية الانفتاح على دراسة اللغات والآداب الأخرى، خاصة الأوروبية منها، من خلال تتبع وترجمة أعمالهم، والانكباب على دراستها، حتى يتسنى للأدب العربي أن يواكب المستجدات، ويساهم في إثراء الفكر الإنساني. إلاّ أنّ هنالك من النقاد من ينظر إلى دعوة كيليطو إلى الانفتاح على دراسة اللغات والآداب الغربية، والاندفاع نحو المثاقفة، بكثير من التحفظ، إذ يذهب بعضهم إلى أن مفهـوم المثاقفة قد يفيد أيضًا تأثير ثقافة قوية، أو مستقوية وغازية وقاهرة، على ثقافة ضعيفة، أو مستضعفة ومغزوة ومقهورة، وكانت هذه هي حال الثقافة الغربية الاستعمارية، في بلدان الشمال في علاقتها بالثقافات القومية والوطنية المحليـة في بلدان الجنوب، مما يؤكد هيمنة ثقافة على أخرى، وهـو جـوهر الخطاب الكولونيالي وما بعده، وقد أوضحه بجلاء إدوارد سعيد، فـي كتابيه المميزين "الاستشراق"[15]، و"الثقافة والإمبرياليـة"[16]. وهما عملية نقد للتبعية والهيمنة الثقافيـة التي انتهجها الاستشراق الذي اتخذ من مفهوم المثاقفة جسرًا للغزو والهيمنة الثقافية.
هوامش:
[1] ـ سورة الحجرات، آية 14.
[2] ـ منير البعلبكي، قاموس المورد الحديث إنكليزي ـ عربي، دار العلم للملايين بيروت، 1967، ص27.
.[3]- Michel de coster : L’acculturation, diogène (Revue) N° 73 1971 p 28 et suite
[4] ـ محمد خرماش، أبعاد المثاقفة في النقد المعاصر، مكناس ـ المغرب، ينظر :manahijnakdia.uloum.org-montada-f4.t8htm
[5] عزالدين مناصرة، المثاقفة والنقد المقارن.. منظور إشكالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1996، ص74.
[6] ـ عبد السلام بنعبد العالي، الترجمة والمثاقفة، مجلة الوحدة السنة 6، العددان 61 ـ 62/ 1989 المجلس القومي للثقافة العربية، ص 8.
[7] ـ كيليطو عبد الفتاح، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر ط1، 2015، ص 207.
[8] ـ نفسه، ص208.
[9] ـ نفسه، ص211.
[10] ـ نفسه، ص 210.
[11] ـ نفسه، ص208.
[12] ـ نفسه، ص211.
[13] ـ نفسه، ص211.
[14] ـ نفسه، ص 211.
[15] ـ ينظر: الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنـشاء، إدوارد سعيد، ترجمة: كمال أبـو ديـب، بيـروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981.
[16] ـ ينظر: إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، دار الآداب، بيروت 1994.
*طالب باحث في الدكتوراة، جامعة ابن طفيل ـ القنيطرة (المغرب).
إدريس بنجدو
23 مايو 2022
شارك هذا المقال
حجم الخط أهدف من هذه المقالة إلى الوقوف على تجليات المثاقفة في مؤلّف الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو بعنوان: "أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية". ومن المعروف أن هذا الكتاب ينفتح على آفاق معرفية رحبة، لأن المؤلف يدعو فيه إلى المثاقفة والانفتاح على اللغات والآداب الغربية. وقبل الشروع في تحليل ومناقشة هذه الفكرة، من خلال بعض تجلياتها في النص، لا بد في البداية من تحديد مفهوم المثاقفة.
يقدّم الإسلام المثاقفة كشكل من أشكال التفاعل والتثاقف والتعارف بين الحضارات والشعوب. ولقد أسّس الإسلام منهجًا يقوم على الوعي بالآخر، وحـدّد السبيل إلى المثاقفة، ورفض المركزية الحضارية، ودعا إلى عالم منفتح على الثقافات، باعتبار أن الثقافة البشرية واحدة، وأن استيعاب تلك الثقافات ونقدها هو أساس بناء الكيان الثقافي الخاص. وهذا ما أكّده القرآن الكريم في سورة الحجرات: "يا أيهـا الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائـل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"[1]. وهي دعوة صريحة إلى التثاقف، وربط أواصر التعارف والتواصل بين الشعوب، ونبذ التفاضل والتمايز والتمركز الحضاري.
في السياق نفسه، عرّف قاموس المورد المثاقفة بأنها "تبادل ثقافي بين شعوب مختلفة، وبخاصة تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها بمجتمع أكثر تقدمًا"[2]. وعرّفها الباحث الاجتماعي الفرنسي، ميشيل دو لاكوست/ Michel de Coster، بأنها "مجموع التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة، كالتأثير والتأثر والاستيراد والحوار والرفض والتمثل، وغير ذلك"[3]. وفي تعريف واضح ودقيق للباحث المغربي، محمد برادة، يقول "إن المثاقفة تطلق على دراسة التغير الثقافي الذي يكون بصدد الوقوع نتيجة شكل من أشكال اتصال الثقافات، وتؤدي المثاقفة إلى اكتساب عناصر جديدة بالنسبة لكلتا الثقافتين المتصلتين"[4]. ويحدد الكاتب والباحث الفلسطيني، عز الدين المناصرة، معاني متعددة لأشكال وتمظهرات هذا المصطلح، فيقول: "تحمل المثاقفة معنى التأقلم مع ثقافة الآخر، والاندماج فيها، فيساعد ذلك على إضافة عناصر جديدة إلى ثقافة الآخر"[5]. وفي تعريف آخر يجمع بين الترجمة والمثاقفة، ينفي عبد السلام بنعبد العالي أن تكون المثاقفة خضوعًا "عولميًا" يرمي إلى إقصاء التعدد اللغوي والثقافي، ويهدف إلى الإلغاء والتفاضل. وهو هنا يؤكد حتمية الترجمة كجسر للتواصل والتفاعل والتثاقف. يقول الباحث في هذا الصدد: "بهذا المعنى، تكون الترجمة، لا علامة على تبعية ونقل وتجمد وموت، وإنما على انفتاح وغليان وتلاقح وحياة"[6].
"عرّف قاموس المورد المثاقفة بأنها "تبادل ثقافي بين شعوب مختلفة، وبخاصة تعديلات تطرأ على ثقافة بدائية نتيجة لاحتكاكها بمجتمع أكثر تقدمًا"" |
يثير كيليطو في كتابه "أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية" موضوع المثاقفة "بوصفها إشكالية تطرح نفسها على الأدب العربي بإلحاح"، ويدعو إلى التفاعل والتثاقف مع ثقافات وآداب الآخر، كمطلب لا بد منه من أجل ضخ دماء جديدة في الأدب العربي، ويركز على وسيلتين اثنتين يعدهما جسرين يمكن للمثقف العربي من خلالهما أن يطرق باب الثقافات الأخرى، وهما اللغة والترجمة. فكيف ثم استدعاء اللغة والترجمة؟ وكيف وظفهما كيليطو كأداتين للتثاقف؟
اللغة كوسيلة للتثاقف
يفتتح كيليطو هذا الكتاب النقدي الهام بتساؤل عريض: كيف للمرء أن يكون أحادي اللسان؟ وكأن لسان حاله يقول لا مكان لأحادي اللسان في عصرنا هذا، وخاصة دارس الأدب، لينتقل في الفصل الثاني من الكتاب إلى الحديث عن صاحب "اللسان المشطور"، وهي عبارة تدل على ازدواجية اللسان، فينتصر لصاحب اللسان المشطور "للحديث عن اللغة من الضروري معرفة اثنين على الأقل[7]"، وهي دعوة صريحة لتعلم اللغات لدراسة الأدب وولوج عوالمه. ويتساءل أيضًا: هل يمكن أن نتحدث عن أدب ما من دون أن نكون على اطلاع على آداب أخرى. يبدو أن كيليطو لا يكاد يستسيغ أن نجد دارسًا للأدب في عصرنا هذا لا يتكلم أكثر من لغة، ويتساءل بمرارة عن "جدوى دراسة الأدب إذا كان الدارس لا يعرف إلا أدبه". ويضيف: "هل هنالك منظّر للأدب لا يعرف إلا أدبه؟"[8]. وهذه التساؤلات كلها تروم الدعوة إلى التلاقح الثقافي بين الأمم، وتحثّ الدارس العربي على الانكباب على تعلم اللغات الأجنبية، كوسيلة للتعرف على الثقافات والآداب الأخرى.
يستحضر كيليطو في هذا الإطار سيرته العلمية حينما أشرف على مناقشة رسالة جامعية حول الشعر المغربي اقتصر فيها الطالب الباحث على ذكر الشعراء ممن يكتبون بالعربية فقط، وكيف عمّ الصمت القاعة حينما سأل الأستاذ الطالب الباحث عن مصير الشعراء الذين يكتبون بالفرنسية. ومن هنا، يوجه هذه الدعوة إلى دارس الأدب في الوطن العربي منبّهًا إياه إلى دراسة وتعلم اللغات والانفتاح على الآخر، وخاصة الأدبين الفرنسي والإنكليزي. إن هذه الدعوة الذكية من الناقد تتسم ببعد النظر، وتستلهم العبرة من التاريخ الحضاري للإنسانية، التي ظلت على الدوام تتلاقح في ما بينها. ولنا في تاريخ الإنسانية شواهد مهمة لأشكال التلاقح، والحوار الحضاري، والتبادل الثقافي بين الأمم، رغم الاختلافات العرقية والدينية واللغوية والمعرفية والبعد الجغرافي. لقد لعب التبادل الثقافي والأدبي والمعرفي دورًا طلائعيًا في إغناء وإثراء الحضارات، بما تختزنه سابقاتها من خبرة وتقدم في مجالات وحقول معرفية وفكرية وثقافية مهمة. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار دعوة كيليطو إلى تعلم اللغات والآداب الأخرى بمثابة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة، مما يغني الثقافات، ويؤدي بالتالي إلى ظهور عناصر جديدة في اللغة والأدب المستورد الذي سيستفيد بدوره من هذا التفاعل.
"يفتتح كيليطو هذا الكتاب النقدي الهام بتساؤل عريض: كيف للمرء أن يكون أحادي اللسان؟ وكأن لسان حاله يقول لا مكان لأحادي اللسان في عصرنا هذا" |
لذا نجد الناقد يدعو الدارس العربي إلى الاستفادة من الآداب الغربية، حيث يرى أنه لا يمكن للباحث العربي اليوم أن يدرس الأدب إلا في مقابل أدب آخر، وهو الأدب الغربي انطلاقًا من معرفته بما يمكن أن يسديه الأدب الغربي للأدب العربي، خاصة في ما يتعلق بالأجناس الأدبية الحديثة، كالرواية والمسرح، وهي كلها فنون جديدة على الأدب العربي. فهذه الدعوة إلى الانفتاح على المعارف الغربية الجديدة هي دعوة إلى التبادل الثقافي تستمد شرعيتها من التاريخ الإنساني الذي يحفل بكثير من الأمثلة والتجارب الحية الدالة على التلاقح والتبادل الثقافي الحضاري بين الشعوب. فالحضارة العربية الإسلامية مثلًا في لحظة من لحظات بناء صرحها لم تتقوقع على نفسها، بل حاولت أن تتفاعل مع الحضارات الأخرى، حيث نجد بصمات الحضارة اليونانية والفارسية والهندية حاضرة فيها، وكان لا بد كذلك للحضارة الغربية في لحظات النهضة الحديثة كي ترتقي إلى ما وصلت إليه، أن تتزود هي الأخرى من معين الحضارة العربية الإسلامية، وتضيف إليه فعلًا إبداعيًا جديدًا يغني الحضارة الإنسانية. وهذا ما تنبّه إليه كيليطو، وعمل على الحث عليه في هذا العمل النقدي الشيق. هكذا، وبوعي وتبصر، يدعو الناقد الدارس العربي إلى أن ينكبّ على اللغات والآداب الغربية، ويغترف من هذا الفعل الإبداعي المغاير والجديد. إنها دعوة صريحة إلى المثاقفة تتجلى واضحة في جلّ فصول الكتاب، وخاصة في الفصلين الثاني والثالث.
الترجمة بوصفها آلية للتثاقف
بالإضافة إلى اللغة، تعتبر الترجمة أيضًا آلية للمثاقفة والتواصل بين الأمم والحضارات. من هنا استدعاء كيليطو الترجمة في هذا العمل، حيث يقطع أنه لولا الترجمة لضاع الأدب العربي ومات. يقول: "إن الترجمة قد أنقذت الأدب العربي، وواكبته باستمرار، وساهمت في تجديده، وذلك بالانفتاح على أجناس أخرى جديدة". ويضيف أنها "ساهمت (أي الترجمة) في بعث روح جديدة في اللغة الأدبية، تلك اللغة التي عرفت تطورًا هائلًا. وهذا بالضبط لأننا وراء ما يكتب نلمس لغة أوروبية[9]". كيف تتحول الترجمة، إذًا، إلى وسيلة لبعث روح جديدة في أدب آخر؟ (في هذه الحالة الأدب العربي)، وكيف يمكن أن تساهم الترجمة في التثاقف بين الأمم؟ وإلى أي حد استطاع كيليطو أن يعيد النقاش حولها كاستراتيجية ناجعة للتثاقف؟
يشهد التاريخ على أن الترجمة ظلت على مر العصور جسرًا للتواصل والتبادل بين مختلف الثقافات، فلا يمكن، مثلًا، تصور وجود الثقافة اليونانية القديمة من دون المثاقفة التي تمت في وقت من الأوقات مع ثقافة مصر الفرعونية، كما لا يمكن معرفة الحضارة العربية الإسلامية من دون معرفة الروافد الثقافية اليونانية. والأمر نفسه في ما يتعلق بالحضارة الأوروبية الحديثة، التي تدين بقوة للحضارة والتراث الفكري العربي في عملية تثاقف واسعة النطاق. لقد لعبت الترجمة دورًا طلائعيًا في تبادل المعارف والتعرف على الثقافات الأخرى عبر العصور، ودفعت أهميتها الناقد المغربي، عبد الفتاح كيليطو، في منجزه هذا، إلى إعادة النقاش من جديد حول عملية الترجمة بإيجابياتها وسلبياتها إلى الواجهة كآلية واستراتيجية لا بد منها لتكريس لغة المثاقفة، ولغة الحوار، بين الثقافات والحضارات والآداب المتنوعة.
"لا يمكن للباحث العربي اليوم أن يدرس الأدب إلا في مقابل أدب آخر، وهو الأدب الغربي انطلاقًا من معرفته بما يمكن أن يسديه الأدب الغربي للأدب العربي" |
بالنسبة لكيليطو لا يمكن تصور إبداع أدبي من دون استحضار عملية الترجمة. يقول: "الإبداع الأدبي يسير جنبًا إلى جنب مع الترجمة[10]". ويضيف: "من المؤسف أن المترجمين لا يحظون باهتمام كبير"[11]. يؤكد الناقد، إذًا، على الدور الطلائعي للترجمة والمترجمين بالنسبة للأدب العربي، وخاصة المساهمة الثمينة التي قدمتها الترجمة في مجال الأجناس الأدبية الجديدة، كالرواية والمسرح، التي ما كان ليعرفها الجمهور العربي لولا عملية الترجمة. يقول الناقد: "وساهمت ـ أي الترجمة ـ في تجديده، وذلك بالانفتاح على أجناس أخرى جديدة"[12]. ويلاحظ الناقد بأن أهم شيء هو العلاقة "الترجمية" بين الأدب العربي الحديث والأدبين الفرنسي والإنكليزي، وتظهر عملية الترجمة ليس فقط في المحاولات الفردية لكتاب عرب بعينهم، كالمنفلوطي الذي قام بتحويل نصوص أوروبية إلى العربية، ولكن أيضًا في تملك جنس الرواية الذي استنبت في الوطن العربي في إثر هذه العملية الترجمية التي تمت مع الأدب الغربي. يؤكد كيليطو على الدور الطلائعي الذي لعبته الترجمة في إحياء وبعث وتطوير الأدب العربي الحديث، مستشهدًا في زعمه هذا بما قاله الشاعر الألماني الكبير غوته: "ينتهي كل أدب بأن يمل نفسه، ما لم ينعشه إسهام أجنبي"[13]. هذا بالضبط ما ينطبق على الأدب العربي الذي انتعش في إثر اللقاء مع الأدب الغربي الذي بثّ فيه دماء جديدة، من خلال عملية الترجمة التي ساهمت أيضًا، حسب رأي الناقد "في بعث روح جديدة في اللغة الأدبية، تلك اللغة التي عرفت تطورًا هائلًا"[14].
واضح أن عبد الفتاح كيليطو من النقاد القلائل في الوطن العربي الذين التفتوا إلى أهمية الانفتاح على دراسة اللغات والآداب الأخرى، خاصة الأوروبية منها، من خلال تتبع وترجمة أعمالهم، والانكباب على دراستها، حتى يتسنى للأدب العربي أن يواكب المستجدات، ويساهم في إثراء الفكر الإنساني. إلاّ أنّ هنالك من النقاد من ينظر إلى دعوة كيليطو إلى الانفتاح على دراسة اللغات والآداب الغربية، والاندفاع نحو المثاقفة، بكثير من التحفظ، إذ يذهب بعضهم إلى أن مفهـوم المثاقفة قد يفيد أيضًا تأثير ثقافة قوية، أو مستقوية وغازية وقاهرة، على ثقافة ضعيفة، أو مستضعفة ومغزوة ومقهورة، وكانت هذه هي حال الثقافة الغربية الاستعمارية، في بلدان الشمال في علاقتها بالثقافات القومية والوطنية المحليـة في بلدان الجنوب، مما يؤكد هيمنة ثقافة على أخرى، وهـو جـوهر الخطاب الكولونيالي وما بعده، وقد أوضحه بجلاء إدوارد سعيد، فـي كتابيه المميزين "الاستشراق"[15]، و"الثقافة والإمبرياليـة"[16]. وهما عملية نقد للتبعية والهيمنة الثقافيـة التي انتهجها الاستشراق الذي اتخذ من مفهوم المثاقفة جسرًا للغزو والهيمنة الثقافية.
هوامش:
[1] ـ سورة الحجرات، آية 14.
[2] ـ منير البعلبكي، قاموس المورد الحديث إنكليزي ـ عربي، دار العلم للملايين بيروت، 1967، ص27.
.[3]- Michel de coster : L’acculturation, diogène (Revue) N° 73 1971 p 28 et suite
[4] ـ محمد خرماش، أبعاد المثاقفة في النقد المعاصر، مكناس ـ المغرب، ينظر :manahijnakdia.uloum.org-montada-f4.t8htm
[5] عزالدين مناصرة، المثاقفة والنقد المقارن.. منظور إشكالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 1996، ص74.
[6] ـ عبد السلام بنعبد العالي، الترجمة والمثاقفة، مجلة الوحدة السنة 6، العددان 61 ـ 62/ 1989 المجلس القومي للثقافة العربية، ص 8.
[7] ـ كيليطو عبد الفتاح، الأعمال، الجزء الأول، جدل اللغات، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر ط1، 2015، ص 207.
[8] ـ نفسه، ص208.
[9] ـ نفسه، ص211.
[10] ـ نفسه، ص 210.
[11] ـ نفسه، ص208.
[12] ـ نفسه، ص211.
[13] ـ نفسه، ص211.
[14] ـ نفسه، ص 211.
[15] ـ ينظر: الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنـشاء، إدوارد سعيد، ترجمة: كمال أبـو ديـب، بيـروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981.
[16] ـ ينظر: إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، دار الآداب، بيروت 1994.
*طالب باحث في الدكتوراة، جامعة ابن طفيل ـ القنيطرة (المغرب).