"صُور" لعباس بيضون في طبعة جديدة.. الشعر يتحدّى الزمن
حسين بن حمزة
3 مايو 2022
شارك هذا المقال
حجم الخط
أحيانًا نقرأ خبرًا عن صدور طبعة جديدة لكتاب شعري سبق له أن نُشر قبل سنوات أو عقود، فنشعر أن الكتاب لا يزال جديدًا، وأن صدوره مرة ثانية أو ثالثة لا يعدو كونه وهمًا أو إيهامًا بمرور الزمن، وتصديق فكرة أن الكتاب قديمٌ فعلًا، بينما هو لا يزال قادرًا على أن يوحي لنا بأنه يصدر، في كلّ مرة، أول مرة.
هذه هي الحال، ونحن نقرأ خبر نشر طبعة ثانية لديوان "صُور" لعباس بيضون عن "دار النهضة" في بيروت، وهو في الحقيقة، وكما هو معروف، ليس ديوانًا بل قصيدة وحيدة وطويلة في ثلاث مقاطع كُتبت سنة 1974 ونُشرت طبعتها الأولى سنة 1985.
ما أن نرى عنوان القصيدة / الديوان في سياق الخبر المنشور عن قُرب صدورها، حتى تعود إلينا الروح الإنشادية لتلك القصيدة وعوالمها المائية واستعاراتها التي تمزج مرئيات المدينة ومكوناتها مع معجمها الساحلي.
سريعًا تهجمُ على خيالنا تلك المتعة وذاك الافتتان اللذين قرأنا القصيدة سابقًا بهما، وتعود إلى ذاكرتنا مقاطع وسطور وصور لا نحتاج إلى جهد أو معاينة إضافية كي نتأكد أنها لا تزال أخاذة وثمينة وطازجة كأنها مكتوبة للتوّ. يبدأ ذلك من أول مقطع فيها، ذاك الذي يحفظه البعض مطلعه عن ظهر قلب: "من أنا حتى أقفَ بين المُنشدين، صانعي النعال الذين جاؤوا على خيولٍ هزيلة من الوَعْر. الحطابين الذين خنقوا الكلس بالنيران الصغيرة. صبيان الفرّانين الذين أشعلوا في الأحياء المستديرة أكياس القشّ والخيش وحشرات الجدران. الفلاحين الذين حملوا نساءهم وأطفالهم على أكتاف الحمير وعبروا بها تحت بدر الحقول وديانًا كالخدوش الجّافة".
بهذا المعنى، تبدو فكرة أن القصيدة جديدة أو محتفظة بجِدّتها قابلة للتصديق والتداول. ليس المقصود هنا أن لغة هذه القصيدة تُشبه الجديد والجيّد الذي يُكتب الآن، بل القصد أن انتماءها إلى زمنها الخاص الذي كُتبت فيه، لا يمنعها – في الوقت نفسه – من أن تكون قادرة على تحدي الزمن العام، وإحضار زمنها معها إلى الزمن الحاضر، وأن تحتفظ بجاذبيتها وقدرتها على إدهاش القارئ. كأن القصيدة تعبر الزمن باتجاه الحاضر والمستقبل من دون أن يترك الزمن آثاره عليها. كأنها تُنجز هذا العبور وهي داخل فقاعتها الزمنية الخاصة بها. كأن الكتابة تتقدم في السّن، ولكن باتجاه شبابها. الأمر يشبه ما يحدث في عالم الطب، حين يتم اللجوء إلى تجميد الخلايا وحفظها حيةً لغاية علميّة ما في المستقبل.
صدور طبعة جديدة من ديوان "صور" مناسبةٌ لكي نُعيد تقليب صفحات تلك القصيدة الفريدة، والتلذّذ مجددًا بتلك اللغة الملحمية والدرامية التي كُتبت بها، والانتباه مجددًا كيف أن كتابة القصيدة بضمير الجماعة منحها مذاقًا ملحميًا وإنشاديًا إضافيًا: "يا صُور.. حين نزلنا إليك انتزعتِ من حناجرنا الوتر الفلاّحي، وها نحن بالكلمات التي تعلمناها منكِ لا نستطيع أن نصِفَكِ". صُور هي المدينة التي نزل إليها الشاعر نفسه من قريته الصغيرة كي يُكمل الدراسة المتوسطة فيها، ثم استقر فيها. هي المدينة التي يخاطبها أصالةً عن نفسه ونيابة عن الجموع: "لا نصفُكِ لأنك ما زلتِ تبحثين في جلدكِ عن فمكِ المندمل/ ولأتك تنطقين بزفيرٍ ساخنٍ/ على وجوه مُخاطبيكِ القليلين/ لأنك بلا صوتٍ تحكّين يابستكِ ورملكِ/ وتُلقين بلا تحيةٍ/ يدكِ على شمال البحر". وفي مكان آخر: "لكِ قلبُ سمكة وروحُ طيرٍ بحريّ/ أنتِ حذاءُ البرّ المندسّ بين شقوق البحر".
استعارات وتشبيهات مُدهشة مثل هذه، نجدها في سطور عديدة، حيث يمكننا أن نقرأ: "البحر يصخبُ فينا. نتأمله وهو يتسلّق كحصانٍ، ويطير كجناحين مُقبلين من غير ما طائر".
هذه الصور الثمينة، وهذه اللغة التي تغلي كلماتها ولا تهدأ، لا تمنح القصيدة، ولا قارئها، الفرصة كي يلتقط أنفاسه. إنها لغة احتشادية سيّالة متدفقة تجرف في طريقها الصورة العمومية للمدينة، وتتسرب إلى دواخلها وأزقتها وبيوتها، وتكشف ندوبها وروحها البحرية الحزينة: "حيثُ تخرجُ كل لحظةٍ مداخنُ وحجارةٌ ملطخة/ وحيثُ يبقى البحر وراء الساحل/ حشرجةً واسعةً لغاباتٍ مطحونة".
أن تكون المدينة "حذاء البر المندسّ في شقوق البحر"، وأن يطير البحرُ "بجناحين مقبلين من غير طائر"، وأن يُسمع هديرُه كـ "حشرجة واسعة لغاباتٍ مطحونة". تلمسنا عميقًا هذه الصور والاستعارات، ونفكر أنها هي التي تُساهم ربما بالحصة الأكبر في بقاء هذا الديوان حيًا، وفي بقاء لغته نابضة وطازجة. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى إشكالية مهمة تخص تجربة عباس بيضون كلها، إذْ يظل يمتدح اللغة النثرية المسنّنة والدقيقة والملموسة، متجنّبًا أي غنائية مجانية أو ميوعة عاطفية، ومتجنّبًا حتى الشعرية الجيدة الجاهزة في اللغة. بطريقة ما، تبدو قصيدة "صُور" وكأنها مكتوبة ضد المزاج النثري المحض لصاحب "الوقت بجرعات كبيرة"، ولكنّ قراءة متأنية للقصيدة سرعان ما تُبدّد هذا الوهم. والحقيقة أنها لا تبدد الوهم فقط، بل تؤكد كيف برع الشاعر – مع أنه كان لا يزال في بداياته – في الجمع بين الطابع النشيدي للغة الذي قد يسهّل وقوع أي قصيدة من هذا النوع في قبضة الإيقاع العالي والتحليق اللغوي الفضفاض والسيولة غير المسؤولة للصور والتشبيهات، وبين عنايته الفائقة بأن يتألف هذا النشيد بلغة واضحة وملموسة خالية من الدسامة الشعرية التقليدية، وبصور واستعارات هي حصيلة النثر الملموس. إنها لغة محلّقة نعم، ولكنها تحلّق على ارتفاعات منخفضة، تُثقلُ جناحيها تلك الصور والتشبيهات المدهشة، وتجعلها لصيقةً بالأرض.
أخيرًا، نشير إلى أن ديوان "صُور" كان يمكن أن يضيع ولا يُنشر أبدًا، ففي حوار لي مع عباس بيضون عام 2002 نُشر في مجلة "الوسط"، قال إنه كان مدهوشًا بقصيدته لحظة كتابتها، وإنه اعتقد أنه عثر على ما يشبه فكرته عن الشعر، ولكنّ "الحرب الأهلية (1975) جاءت ومحت القصيدة في طريقها". وقال إنه كره القصيدة.. وتوقف مجددًا عن كتابة الشعر، وإنه لم يعد يُطيق "اللغة الملحمية الفصيحة الانشادية لـ "صور" التي لم تعد تهمني، ولم أُعن حتى بنشرها وبدا فجأة أنها تخلّفت عن الزمن وباتت خارجه".
الفضل في بقاء هذه القصيدة – يقول بيضون – يعود للروائي الياس خوري لأنه قرأها في حينها وأُعجب بها ونشر جزءًا منها في مجلة "شؤون فلسطينية" واحتفظ بنسختها الوحيدة، وبقيت لديه سنوات حتى تاريخ نشرها في كتاب سنة 1985!!
حسين بن حمزة
3 مايو 2022
شارك هذا المقال
حجم الخط
أحيانًا نقرأ خبرًا عن صدور طبعة جديدة لكتاب شعري سبق له أن نُشر قبل سنوات أو عقود، فنشعر أن الكتاب لا يزال جديدًا، وأن صدوره مرة ثانية أو ثالثة لا يعدو كونه وهمًا أو إيهامًا بمرور الزمن، وتصديق فكرة أن الكتاب قديمٌ فعلًا، بينما هو لا يزال قادرًا على أن يوحي لنا بأنه يصدر، في كلّ مرة، أول مرة.
هذه هي الحال، ونحن نقرأ خبر نشر طبعة ثانية لديوان "صُور" لعباس بيضون عن "دار النهضة" في بيروت، وهو في الحقيقة، وكما هو معروف، ليس ديوانًا بل قصيدة وحيدة وطويلة في ثلاث مقاطع كُتبت سنة 1974 ونُشرت طبعتها الأولى سنة 1985.
ما أن نرى عنوان القصيدة / الديوان في سياق الخبر المنشور عن قُرب صدورها، حتى تعود إلينا الروح الإنشادية لتلك القصيدة وعوالمها المائية واستعاراتها التي تمزج مرئيات المدينة ومكوناتها مع معجمها الساحلي.
سريعًا تهجمُ على خيالنا تلك المتعة وذاك الافتتان اللذين قرأنا القصيدة سابقًا بهما، وتعود إلى ذاكرتنا مقاطع وسطور وصور لا نحتاج إلى جهد أو معاينة إضافية كي نتأكد أنها لا تزال أخاذة وثمينة وطازجة كأنها مكتوبة للتوّ. يبدأ ذلك من أول مقطع فيها، ذاك الذي يحفظه البعض مطلعه عن ظهر قلب: "من أنا حتى أقفَ بين المُنشدين، صانعي النعال الذين جاؤوا على خيولٍ هزيلة من الوَعْر. الحطابين الذين خنقوا الكلس بالنيران الصغيرة. صبيان الفرّانين الذين أشعلوا في الأحياء المستديرة أكياس القشّ والخيش وحشرات الجدران. الفلاحين الذين حملوا نساءهم وأطفالهم على أكتاف الحمير وعبروا بها تحت بدر الحقول وديانًا كالخدوش الجّافة".
"تبدو فكرة أن القصيدة جديدة أو محتفظة بجِدّتها قابلة للتصديق والتداول. ليس المقصود هنا أن لغة هذه القصيدة تُشبه الجديد والجيّد الذي يُكتب الآن، بل القصد أن انتماءها إلى زمنها الخاص الذي كُتبت فيه، لا يمنعها – في الوقت نفسه – من أن تكون قادرة على تحدي الزمن العام، وإحضار زمنها معها إلى الزمن الحاضر" |
صدور طبعة جديدة من ديوان "صور" مناسبةٌ لكي نُعيد تقليب صفحات تلك القصيدة الفريدة، والتلذّذ مجددًا بتلك اللغة الملحمية والدرامية التي كُتبت بها، والانتباه مجددًا كيف أن كتابة القصيدة بضمير الجماعة منحها مذاقًا ملحميًا وإنشاديًا إضافيًا: "يا صُور.. حين نزلنا إليك انتزعتِ من حناجرنا الوتر الفلاّحي، وها نحن بالكلمات التي تعلمناها منكِ لا نستطيع أن نصِفَكِ". صُور هي المدينة التي نزل إليها الشاعر نفسه من قريته الصغيرة كي يُكمل الدراسة المتوسطة فيها، ثم استقر فيها. هي المدينة التي يخاطبها أصالةً عن نفسه ونيابة عن الجموع: "لا نصفُكِ لأنك ما زلتِ تبحثين في جلدكِ عن فمكِ المندمل/ ولأتك تنطقين بزفيرٍ ساخنٍ/ على وجوه مُخاطبيكِ القليلين/ لأنك بلا صوتٍ تحكّين يابستكِ ورملكِ/ وتُلقين بلا تحيةٍ/ يدكِ على شمال البحر". وفي مكان آخر: "لكِ قلبُ سمكة وروحُ طيرٍ بحريّ/ أنتِ حذاءُ البرّ المندسّ بين شقوق البحر".
"تبدو قصيدة "صُور" وكأنها مكتوبة ضد المزاج النثري المحض لصاحب "الوقت بجرعات كبيرة"، ولكنّ قراءة متأنية للقصيدة سرعان ما تُبدّد هذا الوهم" |
هذه الصور الثمينة، وهذه اللغة التي تغلي كلماتها ولا تهدأ، لا تمنح القصيدة، ولا قارئها، الفرصة كي يلتقط أنفاسه. إنها لغة احتشادية سيّالة متدفقة تجرف في طريقها الصورة العمومية للمدينة، وتتسرب إلى دواخلها وأزقتها وبيوتها، وتكشف ندوبها وروحها البحرية الحزينة: "حيثُ تخرجُ كل لحظةٍ مداخنُ وحجارةٌ ملطخة/ وحيثُ يبقى البحر وراء الساحل/ حشرجةً واسعةً لغاباتٍ مطحونة".
أن تكون المدينة "حذاء البر المندسّ في شقوق البحر"، وأن يطير البحرُ "بجناحين مقبلين من غير طائر"، وأن يُسمع هديرُه كـ "حشرجة واسعة لغاباتٍ مطحونة". تلمسنا عميقًا هذه الصور والاستعارات، ونفكر أنها هي التي تُساهم ربما بالحصة الأكبر في بقاء هذا الديوان حيًا، وفي بقاء لغته نابضة وطازجة. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى إشكالية مهمة تخص تجربة عباس بيضون كلها، إذْ يظل يمتدح اللغة النثرية المسنّنة والدقيقة والملموسة، متجنّبًا أي غنائية مجانية أو ميوعة عاطفية، ومتجنّبًا حتى الشعرية الجيدة الجاهزة في اللغة. بطريقة ما، تبدو قصيدة "صُور" وكأنها مكتوبة ضد المزاج النثري المحض لصاحب "الوقت بجرعات كبيرة"، ولكنّ قراءة متأنية للقصيدة سرعان ما تُبدّد هذا الوهم. والحقيقة أنها لا تبدد الوهم فقط، بل تؤكد كيف برع الشاعر – مع أنه كان لا يزال في بداياته – في الجمع بين الطابع النشيدي للغة الذي قد يسهّل وقوع أي قصيدة من هذا النوع في قبضة الإيقاع العالي والتحليق اللغوي الفضفاض والسيولة غير المسؤولة للصور والتشبيهات، وبين عنايته الفائقة بأن يتألف هذا النشيد بلغة واضحة وملموسة خالية من الدسامة الشعرية التقليدية، وبصور واستعارات هي حصيلة النثر الملموس. إنها لغة محلّقة نعم، ولكنها تحلّق على ارتفاعات منخفضة، تُثقلُ جناحيها تلك الصور والتشبيهات المدهشة، وتجعلها لصيقةً بالأرض.
"هذه الصور الثمينة، وهذه اللغة التي تغلي كلماتها ولا تهدأ، لا تمنح القصيدة، ولا قارئها، الفرصة كي يلتقط أنفاسه. إنها لغة احتشادية سيّالة متدفقة تجرف في طريقها الصورة العمومية للمدينة" |
الفضل في بقاء هذه القصيدة – يقول بيضون – يعود للروائي الياس خوري لأنه قرأها في حينها وأُعجب بها ونشر جزءًا منها في مجلة "شؤون فلسطينية" واحتفظ بنسختها الوحيدة، وبقيت لديه سنوات حتى تاريخ نشرها في كتاب سنة 1985!!