نقيق".. أين الرفق بالإنسان؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نقيق".. أين الرفق بالإنسان؟

    نقيق".. أين الرفق بالإنسان؟
    أنور محمد
    مسرح
    ملصق مسرحية "نقيق"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، ومن إنتاج مديرية المسارح والموسيقى، تُعرض حاليًا مسرحية "نقيق"، من إعداد وإخراج د.عجاج سليم، وتأليف روعة سنبل. وكان النص قد فاز بمسابقة الهيئة العربية للمسرح عام 2020 بعنوان "الخيال والكتابة خارج النمط"!!. إنه عرضٌ عن أمٍّ مقعدة (مَيْ) جرَّاء إصابتها بقذيفة في سنوات الحرب السورية، راح ضحيتها طفلها (فراس)، الذي كانت تخفي خبر موته عن والده الطبيب الذي هرب من ويلات الحرب كلَّما اتصل بها. تعيش مي مع حماتها وفاء. عرضٌ ذهب إلى غير ما يرمي إليه النص "نقيق". فالمخرج عجاج أخذ النص كما العرض إلى الكارثة المسرحية، فلا شاهدنا مسرحية، ولا سمعنا حكاية. لوحات تمثيلية لثلاثة ممثلين: وليد الدبس بدور الضفدع، ندى العبد الله بدور وفاء، ريم زينو بدور ميّْ. يُلقون جُمَلًا ليس لها أي ثقل على نمو الفعل الدرامي؛ نحن مع ألفاظ يتراشق بها الممثلون رغم حركاتهم/ تحركاتهم على الخشبة. المخرج بدأ مشهده بتبديل الأدوار: والدة الزوج وفاء بدور المُقعدة التي تعتني بها كنَّتها مي، ثمَّ في آخر العرض تسترجع مَيّْ دورها كمشلولة، فيما يقوم الضفدع بملاحقة ميّْ، وليس الممثلة ندى العبد الله وفاء التي كانت تؤدي دورها رغم هشاشته بلا خبرةٍ، ولا مهارة وموهبة. كانت تُلقي، تتكلم، ربَّما يعود ذلك إلى سوء اختيار المخرج وتقديراته ـ بالمناسبة يبدو أنَّ المخرج عجاج وهو يشتغل عرضه لم يكن يحسب أنَّه سيقدِّمه لجمهور بدا من خلال ما شاهدنا في مسرحيته أنَّه كان يستصغره. إنَّ للجمهور رهبة، ومواجهته لا تكون بعرض مفكَّك البُنية الدرامية، لا صراعات بين الممثلين، بل تهويمات ظنَّ فيها المخرج أنَّه يحاكم بالحكي، وليس بالحركة، الموظَّفة ميّْ في مخبر التشريح الجامعي التي أقامها الضفدع لها. والضفدع كان يدافع عن جنسه من الضفادع التي يُستهان بحيوانيتها ـ حياتها، لتصبح ضفادع تجارب مخبرية لطلاب الطب. ما هذه اللفَّة الطويلة للإشارة للقاتل البريء، وما هذا الرفق بالحيوان؟ أين الرفق بالإنسان؟ ثمَّ ما هذا الدفاع أكانَ منْ كاتب النص، أو مُخرج العرض، عن حيوان الضفدع رغم وضوح رمزيته؟ أليس البشر الذين يتأذون من أمراء الحرب وتُراق دماؤهم وتُهدر كرامتهم وتُدمَّر عماراتهم الروحية والمادية أولى بالدفاع عنهم، مع الاحتفاظ بحق الدفاع عن حقوق الحيوان؟؟
    لقطة من مسرحية "نقيق"
    سنأخذ بالترميز والتأويل والكناية والاستعارة... إلخ، وبأشعار رياض الصالح الحسين، وبالمقطع الشعري باعتباره كان محفزًا، أو لنقل نواةً لكتابة النص. ما الأثر الذي تركه، وكم صرنا شجعانًا، أو سعداء، وكم هي المسافة التي قطعناها من العبودية إلى الحرية. و.. ولماذا إدراج بعض مقاطع من الأشعار لتؤدَّى غناءً كفواصل بدت (ترفيهية) بين المَشَاهِد؟
    هذا العرض "نقيق" لا يوحي بأنَّ مخرجه ابن مسرح، حتى ولا حِرَفيًا، أو تقنيًا. لقد بقي أسير الإنشاء الأدبي، رغم كل ما على خشبة المسرح من ممثلين وديكور وأثاث؛ لقد بقي كلامًا على ورق. لم نرَ ومضات/ لمعات فكرية من أساسٍ فلسفي جمالي للمخرج، كما كنَّا نرى عند فواز الساجر، أو فرحان بلبل، أو جهاد سعد، أو سمير عثمان الباش، وآخرين. هذا العرض سبقه هديرٌ إعلامي حُشِرت فيه أشعار رياض الصالح الحسين، أو حُشيَت به رغم الأداء الغنائي المثير لإيناس رشيد التي كانت تشدو بقوَّة انفعالية وذات نفسٍ عميق. والرقص التعبيري لأليس رشيد كان ذا بُنية جدلية ممتلئة بالإشارات والإحالات، ومتناغمة مع الموسيقى ـ توليف إياد عبد المجيد، كما لو إنَّ الموسيقى تنسرب من على جسدها وبأسلوب هادئ بعيد عن الانفعال.

    "أليس البشر الذين يتأذون من أمراء الحرب وتُراق دماؤهم وتُهدر كرامتهم وتُدمَّر عماراتهم الروحية والمادية أولى بالدفاع عنهم، مع الاحتفاظ بحق الدفاع عن حقوق الحيوان؟؟"


    الراقصة أليس رشيد كانت تذهب إلى تحقيق جوهر الرقص؛ كانت تبني عمارةً، أشكالًا بعيدة عن النمطية. كانت تؤلف، كأنَّما ترينا قصيدة فننخطف حتى تعود في مشهدٍ تالٍ لاعلاقة له بالعرض المسرحي، وأعتقد أن أليس رشيد والمغنية إيناس رشيد هما مَنْ تركتانا نبقى نتفرَّج حتى الدقيقة الخامسة والخمسين من زمن العرض على خشبة مسرح الحمراء بدمشق. بينما الممثلتان ندى العبد الله، وريم زينو، كان أداؤهما تقليديًا، كانتا تقلدان مشاعر الشخصيتين مَيّْ ووفاء بصورة تقريرية ـ ليس تقصيرًا منهما، بل تقصير المخرج، مع أنَّهما في بعض المشاهِد حاولتا معايشة مشاعر الشخصية المشلولة في تبادلهما الدور. في حين كان الضفدع ـ أدَّى دوره الممثل وليد الدبس ـ يصنع انفعالات وحركات شخصيته، يقفز، ينط، يقلب، يتقلَّب فيما صوته يتحوَّل إلى صراخ صاخب، وهو يحاكم مُطارِدًا جلاَّده "مَيّْ" كما استنتج من خلال قيامها بوظيفتها بشلِّ قوَّة بني جنسه، ومن ثمَّ تشريحهم بقصد إعطاء درس تعليمي لطلاب الطب في الجامعة ـ وكان درسًا مُمِلًا وممجوجًا لنا كمتفرجين. الدبس كان الدور صعبًا عليه، كما كانت المسرحية صعبة الإخراج، فيحتاط ويحيط نفسه بمعايشة شخصية الضفدع التي ناب فيها عن ضفادع التجارب التي ماتت للانتقام من مَيّْ، فيتدرَّب حتى يصل في تمثيله إلى تجسيدٍ عضوي لشخصية الضفدع، وتحقيق حالة التجلي؛ حالة الصدق الفني. فالجسد ـ جسد الممثل وهو يؤدِّي أدوار شخصياته كانت نباتًا أو جمادًا أو حيوانًا أو إنسانًا؛ إنَّما هو يقوم بدور مصيدة الشعور ـ شعور شخصياته.
    من العرض المسرحي "نقيق" للمخرج عجاج سليم عن نص لروعة سنبل
    الإضاءة لليوناردو الأحمد كانت طوال زمن العرض عاتمة، كأنَّ لا نهار، لا زمن يمر. ثمَّة بُنى معمارية لكل مسرحية: من الألفاظ/ الحوار، الحركة ـ حركة الممثلين، اللباس والأثاث، والسينوغرافيا والديكور ـ إنجي سلامة وأحمد العلبي، والموسيقى، والرقص، والشعر ـ رياض الصالح الحسين. وهذه في عرض "نقيق" تمَّ خلطها، فما عادت مكانًا دراميًا، ولا أفعالًا درامية ـ كانت خلطًا لعجينة بصرية. في العرض المسرحي، يمكننا أحيانًا الاستغناء عن الممثل ـ قد نحرِّك ضفدعًا خشبيًا أو بلاستيكيًا، ونلقي فيه على الخشبة أصواتًا تتحاور، تتجادل، ومن ثمَّ تتصارع. هنا يستوقفنا الشعر، والذي كان مُغنىَّ بصوت إيناس رشيد، فإن لم يكن صوت الجوقة التي تعبر عن صوت الضمير الإنساني كما في المسرح الإغريقي، فليكن هنا في "نقيق" عتبةً محفِّزة لتقوية أو للتمهيد للصراع أو تأزيمه. لقد كان الشعرُ ـ والمخرج حاول جمع التمثيل مع الشعر والموسيقى والرقص التعبيري أو ما يسمى بالتركيبة الجامعة ـ خارجَ العرض، لقد بدا لصقة حُشيت بين المشاهِد لولا الأداء الغنائي المتميز لأليس رشيد، ومن ثمَّ الرقص اللافت لإيناس رشيد، والذي حقَّق أثرًا فعالًا فبدت شخصية درامية.

    "الممثلتان ندى العبد الله، وريم زينو، كان أداؤهما تقليديًا، كانتا تقلدان مشاعر الشخصيتين مَيّْ ووفاء بصورة تقريرية ـ ليس تقصيرًا منهما، بل تقصير المخرج، مع أنَّهما في بعض المشاهِد حاولتا معايشة مشاعر الشخصية المشلولة في تبادلهما الدور"



    مع ذلك، ورغم مخططات التشكيل الحركي على محدوديتها، والشرطيات التقنية المفترضة، والسينوغرافيا، وغيرها من عناصر العرض المسرحي، لم يحقِّق المخرج فرجة مسرحية. كأنَّ العرض كان فقط على مقاسه هو، وليس على ضرورة تقديم رؤية فلسفية جمالية إنْ لم تدافع عن الضحايا، فعلى الأقل تنتقد الحرب وهذا أضعف الإيمان، والتي سبَّبت شلل ميّْ وقتلَ طفلها، ومن قبل فرار زوجها الطبيب عمار منها؛ ذلك عدا الدور الاجتماعي السياسي الذي يلعبه المسرح.
    المسرح فعلٌ تحريضي، وليس ترويضي، تتشابكُ فيه اللغةُ مع الجسد. ولكن في مثل هذا العرض، وهذا الشكل الإخراجي الذي لم يُثر الاهتمام إلاَّ لكون المخرج تبوأ مناصب إدارية هامة في المسرح السوري، ما أسَّس لعلاقات اجتماعية ومدِّ جسورٍ كي يعبر من عليها إلى (أسواق المسرح) العربي، فإنَّه يكشف عن طبيعة الفكر التلفيقي لموظفي المسرح الذين سطَّحوا العمليات الفكرية في العقل، ما جعلنا نرى مثل هذه العروض المُسطَّحة.
يعمل...
X