"موت موظَّف".. الموظَّفُ الذي ماتَ من الشجاعة!
أنور محمد
مسرح
من مسرحية "موت موظف"
شارك هذا المقال
حجم الخط
الإخراج في المسرح يتطلَّبُ شجاعة المواجهة مع الجلاَّد أيًا كان شكله أو لونه، وليس الاستزلام له. وهذا ما افتقده، برأيي، العرض المسرحي "موت موظَف" عن قصة قصيرة للكاتب المسرحي والقاص الروسي أنطون تشيخوف (1860 ـ 1904)، والتي سبق أن أخرجها لؤي شانا عام 2003 للمسرح القومي في اللاذقية، ويعيد إخراجها، الآن، بعد مرور ما يقارب من عشرين عامًا لتعرض على مسرح الحمراء في دمشق.
عشرون عامًا مرَّت ولم يتغيَّر شيء في تفكير وخطط المخرج. لقد بقي كما تركَ نفسه منذ تلك الأعوام على خشبة المسرح القومي في اللاذقية، يتوكّأعلى ذات العكاكيز. أنطون تشيخوف في الموظَّف الذي ماتَ من الشجاعة وليس من الخوف، قدَّم في قصته "موت موظَّف" ايفان ديمتريتش كريبكوف الذي عطسَ عطسة الشجاعة، شخصيةً ذات جدلٍ ساخر لا تتكيَّف مع الجلاَّد، الذي هو الجنرال شبريتسالوف الذي عطسَ عليه وهو يقعد أمامه في دار الأوبرا عندما كانا مع جمهورٍ يتفرَّجون على عرض مسرحي. لؤي شانا في عرضه المكرَّر هذا استضعف، واستخرب، يوسف، الذي هو في القصة التشيخوفية إيفان، وما إصرار إيفان على الاعتذار من الجنرال إلاَّ لينتقدَ وينقدَ الحشمة والوداعة والتسامح الذي يتزيِّن به مسؤولو الدولة فيما يُخفون توحشهم وعنفهم ـ جرائمهم.
أنطون تشيخوف في قصته، نحنُ مع بطلٍ، وإن بدا كلاسيكيًا، ولكنَّ موته يمثِّل مأساةً أخلاقية ـ سياسية. هذه رمى بها المخرج شانا، وذهب إلى السخرية من (الضحية) الموظَّف بدل أن يُطالب بدمه حين لم يكن في مقدوره الثأر له. الموظَّف في القصة لم يمت تطوعًا، أو فداءً للسلطة، فموته، وإن كان مُباغتًا، وبالسكتة القلبية، أو الدماغية، إنَّما كان احتجاجًا على الديكتاتورية والإرهاب الذي تجسده السلطة في مسؤوليها بدرجاتهم ومراتبهم المتنوعة. مسؤولون بالتأكيد ليسوا من درجة الثوار، ولا ممَّن يطغى عليهم الحماس بالتآخي الإنساني؛ بل وحوشٌ فظَّة. تشيخوف يسخر ويتهكَّم من هذه الوحوش المتزنِّرة بهيبة الدولة. المُخرج شانا استسهل القصة، قصة تشيخوف، ولوى عنقها لصالح التنكيت والتهريج. وبدل أن يقدِّمها برؤية جديدة بعد كل هذه السنين عن موظَّف ـ موظَّفين حوَّلوا الدولة إلى عجل ذهبي في كوميديا ـ مأساوية لصالح أنانيتهم، نراه استلَّها من الثلاجة التي ما تزال تحفظها له كما لو إنَّنا نتفرَّج على نسختها الأولى قبل عشرين عامًا، ولكن مع كادر فني آخر، ما يعني أنَّ العرض المسرحي عنده بضاعة أو موقف من جمود وتصلُّبٌ عقلي، وليس من عملية شعورية عقلانية، أو إنَّه فعل استرزاقي، وليس فعلًا فنيًا يشرح ويحلِّل أسباب انكسار وموت الموظَّف، موت الناس.
إذًا، نحن وعلى طول الزمن المسرحي مع ضحك مُفتعل، وضحك مُركَّب يستفيد من تَعدُّدُ اللهجاتِ السورية؛ بتشويه وتقبيح فعل العطس الذي كان مفاجئًا للسيد إيفان في القصة الروسية ـ يوسف في العرض السوري الذي كان من تمثيل: علي القاسم، وباسل حيدر، ومحمد سالم، وماجد عيسى، ولميس عباس، ونجاة محمد، وأحمد العبود، وأليسار صقور، وباسل كربوج، وبراء سمكري، وصلاح الطوبجي، وخالد القصير، وعماد يوسف، وزين العابدين شعبان، وزينب عيد، ومصطفى خطيب، ومرح إسماعيل، وملاك خطيب، ونور كباريتي. وديكور: سنان إسبر، وإضاءة: بسام حميدي، وأزياء: سامر لوباني، ومكياج: خولة ونوس، وموسيقى: إياد اسمندر.
عرضٌ شاذ يعكس الرؤية الواحدية لفعلٍ ما هو بجريمة ولا ذَنْب. رجلٌ؛ مواطنٌ جلس بالصدفة خلف الجنرال/ المسؤول في عرضٍ سينمائي، كما في النسخة الأولى والثانية لموت الموظَّف السوري، حسب إخراج لؤي شانا، وفاجأته العطسة فطار رذاذها على رقبته وصلعته. اعتذرَ الموظف من الجنرال/ المسؤول. لكن الموظَّف عاد إلى البيت قلِقًا ومُرتابًا. وبعد أن تفهَّمت زوجته فِعْلتَه التي بدت غبيةً أوَّل الأمر (أدت دورها لميس عباس)، شجَّعته على الذهاب إلى الجنرال في مقرِّ عمله والاعتذار منه، مع إنَّه ليس رئيسه، فوجدَ عددًا من المُراجعين يقدِّمون له الاعتذارات، فأحدهم تجشَّأ في وجهه، وآخر لوَّث سيارته باللبن، وثالث ورابعٌ اصطدم به عن غير قصد وهو يمشي في الشارع، فيعاود الاعتذار مرَّةً أخيرة متذللًا، لكن الجنرال/ المسؤول يطرده، فيعود إلى البيت ويموت.
مات الموظَّف؛ والموت مأساة، ما يكشفُ عن الرهبة عند الناس الأدنى إنْ قاموا بفعلٍ غير قصدي مثل (العطس) على قفا، أو في وجه مسؤول من الناس الأعلى الذي يملكون صلاحيات واسعة للبطش بمن يجترئ عليهم، فما بالك بمن يخالفهم في الرأي، أو يُعارضهم؟ أنطون تشيخوف يكشف في قصته عمق الهوَّة بين الدولة البوليسية ومواطنيها. وما اعتذار، أو إصرار الموظَّف على الاعتذار، إلا لتحقيق ذروة درامية. طبعًا هنالك تصعيد في الصراع النفسي انتهى إلى موت الموظَّف. ثمَّة ضحكات سوداء تكشف عن القوَّة التي يمتلكها المسؤول بالبطش بالناس الذين أدنى منه، وهذا ما أراد أن يكشف عنه أنطون تشيخوف في قصته. لكن مُعد، أو كاتب النص، ومن ثمَّ المُخرج، لؤي شانا، مدَّدها، مطَّها، وهذا حقُّه كمُؤلفٍ ومُخرجٍ، وصنع لها (مأتمًا) لتقبُّل التعازي بموت الموظَّف. هذا التمديد ذهب إلى التهريج والتضحيك، لم يعمِّق أو يشتغل على الفكرة/ الفعل الذي اجترحه تشيخوف، بل وقف أمامه وصار ينحت منه طلاسم لضحكاتٍ فاقعة من الملافظات وشيء من حركات، في حين لو أنَّه شغَّلَ مبضعه المسرحي لصنعَ مسرحيةً من (الجروتسك) الاحتفالي التهكمي، من خلال إحاطته بحقيقة الموت الذي كان سببه عطسة!
أُمَّةٌ بكاملها تعطسُ وتموتُ من البردِ والحرِّ والفقرِ والجوعِ والأمراض والقهر؛ يعطسون ويموتون ولا أحدَ يعتذر منهم لما سبَّبَ لهم من مآسٍ. تشيخوف أرانا في الحكاية ما عاناه "إيفان" من إرباكٍ وارتباك وتناقض وعذاب ضمير كونه (مُربَّى تربية أخلاقية إنسانية) دفعته إلى الاعتذار عن عطسته من دون أن يعرف أنَّه عطسَ على مسؤول برتبة جنرال. هنا التشريق والإشراق والفهم المفاجئ والاستبصار الذي كشفه تشيخوف؛ والمخرج شانا ضيَّعه، لقد ذهب إلى التنكيت، وإلى مطمطة وتطويل التمثيل في الإلقاء والحركة، فماتت المشاعر البطولية بتعذيب الضمير عند يوسف، لولا المشهد الأخير الذي شفع له بعض الشيء في قيام الممثلين بإنشاد سيمفونية من مقطعين "ها" و"تشي"، حيث يظهر طيف الموظَّف الميِّت كقائد أوركسترا تَعطُس وتَعطُس.
أنور محمد
مسرح
من مسرحية "موت موظف"
شارك هذا المقال
حجم الخط
الإخراج في المسرح يتطلَّبُ شجاعة المواجهة مع الجلاَّد أيًا كان شكله أو لونه، وليس الاستزلام له. وهذا ما افتقده، برأيي، العرض المسرحي "موت موظَف" عن قصة قصيرة للكاتب المسرحي والقاص الروسي أنطون تشيخوف (1860 ـ 1904)، والتي سبق أن أخرجها لؤي شانا عام 2003 للمسرح القومي في اللاذقية، ويعيد إخراجها، الآن، بعد مرور ما يقارب من عشرين عامًا لتعرض على مسرح الحمراء في دمشق.
عشرون عامًا مرَّت ولم يتغيَّر شيء في تفكير وخطط المخرج. لقد بقي كما تركَ نفسه منذ تلك الأعوام على خشبة المسرح القومي في اللاذقية، يتوكّأعلى ذات العكاكيز. أنطون تشيخوف في الموظَّف الذي ماتَ من الشجاعة وليس من الخوف، قدَّم في قصته "موت موظَّف" ايفان ديمتريتش كريبكوف الذي عطسَ عطسة الشجاعة، شخصيةً ذات جدلٍ ساخر لا تتكيَّف مع الجلاَّد، الذي هو الجنرال شبريتسالوف الذي عطسَ عليه وهو يقعد أمامه في دار الأوبرا عندما كانا مع جمهورٍ يتفرَّجون على عرض مسرحي. لؤي شانا في عرضه المكرَّر هذا استضعف، واستخرب، يوسف، الذي هو في القصة التشيخوفية إيفان، وما إصرار إيفان على الاعتذار من الجنرال إلاَّ لينتقدَ وينقدَ الحشمة والوداعة والتسامح الذي يتزيِّن به مسؤولو الدولة فيما يُخفون توحشهم وعنفهم ـ جرائمهم.
"سبق للمخرج لؤي شانا أن قدم المسرحية نفسها عام 2003 للمسرح القومي في اللاذقية، ويعيد إخراجها، الآن، بعد مرور ما يقارب عشرين عامًا لتعرض على مسرح الحمراء في دمشق" |
أنطون تشيخوف في قصته، نحنُ مع بطلٍ، وإن بدا كلاسيكيًا، ولكنَّ موته يمثِّل مأساةً أخلاقية ـ سياسية. هذه رمى بها المخرج شانا، وذهب إلى السخرية من (الضحية) الموظَّف بدل أن يُطالب بدمه حين لم يكن في مقدوره الثأر له. الموظَّف في القصة لم يمت تطوعًا، أو فداءً للسلطة، فموته، وإن كان مُباغتًا، وبالسكتة القلبية، أو الدماغية، إنَّما كان احتجاجًا على الديكتاتورية والإرهاب الذي تجسده السلطة في مسؤوليها بدرجاتهم ومراتبهم المتنوعة. مسؤولون بالتأكيد ليسوا من درجة الثوار، ولا ممَّن يطغى عليهم الحماس بالتآخي الإنساني؛ بل وحوشٌ فظَّة. تشيخوف يسخر ويتهكَّم من هذه الوحوش المتزنِّرة بهيبة الدولة. المُخرج شانا استسهل القصة، قصة تشيخوف، ولوى عنقها لصالح التنكيت والتهريج. وبدل أن يقدِّمها برؤية جديدة بعد كل هذه السنين عن موظَّف ـ موظَّفين حوَّلوا الدولة إلى عجل ذهبي في كوميديا ـ مأساوية لصالح أنانيتهم، نراه استلَّها من الثلاجة التي ما تزال تحفظها له كما لو إنَّنا نتفرَّج على نسختها الأولى قبل عشرين عامًا، ولكن مع كادر فني آخر، ما يعني أنَّ العرض المسرحي عنده بضاعة أو موقف من جمود وتصلُّبٌ عقلي، وليس من عملية شعورية عقلانية، أو إنَّه فعل استرزاقي، وليس فعلًا فنيًا يشرح ويحلِّل أسباب انكسار وموت الموظَّف، موت الناس.
إذًا، نحن وعلى طول الزمن المسرحي مع ضحك مُفتعل، وضحك مُركَّب يستفيد من تَعدُّدُ اللهجاتِ السورية؛ بتشويه وتقبيح فعل العطس الذي كان مفاجئًا للسيد إيفان في القصة الروسية ـ يوسف في العرض السوري الذي كان من تمثيل: علي القاسم، وباسل حيدر، ومحمد سالم، وماجد عيسى، ولميس عباس، ونجاة محمد، وأحمد العبود، وأليسار صقور، وباسل كربوج، وبراء سمكري، وصلاح الطوبجي، وخالد القصير، وعماد يوسف، وزين العابدين شعبان، وزينب عيد، ومصطفى خطيب، ومرح إسماعيل، وملاك خطيب، ونور كباريتي. وديكور: سنان إسبر، وإضاءة: بسام حميدي، وأزياء: سامر لوباني، ومكياج: خولة ونوس، وموسيقى: إياد اسمندر.
عرضٌ شاذ يعكس الرؤية الواحدية لفعلٍ ما هو بجريمة ولا ذَنْب. رجلٌ؛ مواطنٌ جلس بالصدفة خلف الجنرال/ المسؤول في عرضٍ سينمائي، كما في النسخة الأولى والثانية لموت الموظَّف السوري، حسب إخراج لؤي شانا، وفاجأته العطسة فطار رذاذها على رقبته وصلعته. اعتذرَ الموظف من الجنرال/ المسؤول. لكن الموظَّف عاد إلى البيت قلِقًا ومُرتابًا. وبعد أن تفهَّمت زوجته فِعْلتَه التي بدت غبيةً أوَّل الأمر (أدت دورها لميس عباس)، شجَّعته على الذهاب إلى الجنرال في مقرِّ عمله والاعتذار منه، مع إنَّه ليس رئيسه، فوجدَ عددًا من المُراجعين يقدِّمون له الاعتذارات، فأحدهم تجشَّأ في وجهه، وآخر لوَّث سيارته باللبن، وثالث ورابعٌ اصطدم به عن غير قصد وهو يمشي في الشارع، فيعاود الاعتذار مرَّةً أخيرة متذللًا، لكن الجنرال/ المسؤول يطرده، فيعود إلى البيت ويموت.
"نحن وعلى طول الزمن المسرحي مع ضحك مُفتعل، وضحك مُركَّب يستفيد من تَعدُّدُ اللهجاتِ السورية؛ بتشويه وتقبيح فعل العطس الذي كان مفاجئًا للسيد إيفان في القصة الروسية ـ يوسف في العرض السوري" |
مات الموظَّف؛ والموت مأساة، ما يكشفُ عن الرهبة عند الناس الأدنى إنْ قاموا بفعلٍ غير قصدي مثل (العطس) على قفا، أو في وجه مسؤول من الناس الأعلى الذي يملكون صلاحيات واسعة للبطش بمن يجترئ عليهم، فما بالك بمن يخالفهم في الرأي، أو يُعارضهم؟ أنطون تشيخوف يكشف في قصته عمق الهوَّة بين الدولة البوليسية ومواطنيها. وما اعتذار، أو إصرار الموظَّف على الاعتذار، إلا لتحقيق ذروة درامية. طبعًا هنالك تصعيد في الصراع النفسي انتهى إلى موت الموظَّف. ثمَّة ضحكات سوداء تكشف عن القوَّة التي يمتلكها المسؤول بالبطش بالناس الذين أدنى منه، وهذا ما أراد أن يكشف عنه أنطون تشيخوف في قصته. لكن مُعد، أو كاتب النص، ومن ثمَّ المُخرج، لؤي شانا، مدَّدها، مطَّها، وهذا حقُّه كمُؤلفٍ ومُخرجٍ، وصنع لها (مأتمًا) لتقبُّل التعازي بموت الموظَّف. هذا التمديد ذهب إلى التهريج والتضحيك، لم يعمِّق أو يشتغل على الفكرة/ الفعل الذي اجترحه تشيخوف، بل وقف أمامه وصار ينحت منه طلاسم لضحكاتٍ فاقعة من الملافظات وشيء من حركات، في حين لو أنَّه شغَّلَ مبضعه المسرحي لصنعَ مسرحيةً من (الجروتسك) الاحتفالي التهكمي، من خلال إحاطته بحقيقة الموت الذي كان سببه عطسة!
أُمَّةٌ بكاملها تعطسُ وتموتُ من البردِ والحرِّ والفقرِ والجوعِ والأمراض والقهر؛ يعطسون ويموتون ولا أحدَ يعتذر منهم لما سبَّبَ لهم من مآسٍ. تشيخوف أرانا في الحكاية ما عاناه "إيفان" من إرباكٍ وارتباك وتناقض وعذاب ضمير كونه (مُربَّى تربية أخلاقية إنسانية) دفعته إلى الاعتذار عن عطسته من دون أن يعرف أنَّه عطسَ على مسؤول برتبة جنرال. هنا التشريق والإشراق والفهم المفاجئ والاستبصار الذي كشفه تشيخوف؛ والمخرج شانا ضيَّعه، لقد ذهب إلى التنكيت، وإلى مطمطة وتطويل التمثيل في الإلقاء والحركة، فماتت المشاعر البطولية بتعذيب الضمير عند يوسف، لولا المشهد الأخير الذي شفع له بعض الشيء في قيام الممثلين بإنشاد سيمفونية من مقطعين "ها" و"تشي"، حيث يظهر طيف الموظَّف الميِّت كقائد أوركسترا تَعطُس وتَعطُس.