المونودراما الفلسطينية "ع الدوّار".. نقد حاد للمنظومة
تحسين يقين
مسرح
علاء شحادة في مونودراما "ع الدوّار"
شارك هذا المقال
حجم الخط
قامت مسرحية الشخص الواحد "ع الدوّار" على تصوير الحياة الشخصية للشاب القروي (علاء) منذ طفولته حتى شبابه، من خلال رصد الأحداث والمشاعر الإنسانية التي مرّ فيها، في الأسرة والمدرسة، وحياته العاطفية التي تصل الى طريق مسدود، نتيجة الاختلافات العائلية في المجتمع، كونه ومن أحبها، من عائلتين متنازعتين. أما على المستوى العام، فرصدت ردود الفعل المجتمعية تجاه إقامة أكبر مكب قرب القرية، وتباين ردود فعل الشخصيات المحلية والمسؤولين تجاه الفعل، وتجاه الانتخابات التي تطغى عليها العائلية، وكل ذلك وسط التحولات العاصفة التي مرت بها فلسطين بعد اتفاقية أوسلو، التي استمر خلالها وجود المجتمع تحت الاحتلال.
أكدت المسرحية على أنه لا تناقض بين الخلاصين الفردي الشخصي والوطني العام، بل إن ضمان تحقق الخلاص الفردي، ولو حتى على مستوى النجاح في الزواج من فتاة من عائلة أخرى، مرتبط بالتغيير الفكري الاجتماعي والسياسي.
وقد أبدع فعلًا الفنان علاء شحادة في تمثيل العديد من شخصيات الأطفال والكبار والنساء والمسؤولين، متنقلًا بين شخصية وأخرى، من خلال استخدام سريع لملابس أو إكسسوارات، أو حتى تقليد الشخصيات على مستوى الحركة والصوت.
اختار القائمان على العرض موضوعًا من حياتهما الشخصية، فكان صادقًا في وصف المكان من منظور نقدي حاد. وزادت الحدية والنقد اللاذع للذات في "عجة"، التي ترمز للوطن، حين تم تقديم مفارقة ساخرة حدّ الحزن القاتل، حيث تنجح التحولات الاقتصادية، في ظل سياسة الاستهلاك، وكثرة النفايات المنزلية، في إقامة مكبّ واحد (مزبلة كبيرة)، في الوقت الذي استمر تشظي المجتمع الفلسطيني مرورًا بالانقسام، وليس انتهاء بالخلافات العائلية التي تظهر خلال الانتخابات التي تجري، أو التي يتم الاكتفاء بالحديث عنها.
وتتعمق المفارقة (وربما هنا صدفة) حين يتم اختيار المكب الشهير شمال الضفة الغربية في مكان بعيد كل البعد عن دلالة محتويات المكان الجديد وروائحه، اتخذ له من القدم اسم "زهرة الفنجان".
وهكذا، بالرغم من الضحك المتواصل خلال المسرحية، وجدنا أنفسنا أمام شجن مغلف بغضب وعتاب ولوم وتأمل صادم مخاتل في حياتنا، هل سنستمر على هذه الحال؟ هل كان في المونولوج الأخير يائسًا أم محفزًا للأمل؛ حيث لا يمكن فعلًا أن تستمر الحال على دوام الحال!
يسجل للعرض إبداعه، لكل من الشابين علاء شحادة، وحسن طه، في اختيار ما هو مناسب أدبيًا ودراميًا، حيث أن أسلوب الدائرة هو أسلوب ملائم فعلًا، لما يعيشه المجتمع من تكرار السلوك الاجتماعي، وغيره، وخصوصًا ما له علاقة بالمرأة والطفل، والذي هو تكرار صادم وموجع. وقد عبر عنه الفنان هنا بقوله من البداية والنهاية: "الناس محلها، والبلد محلها، بتلف وبتدور وبترجع محلها.. وأنا..".
إنه نقد لاذع سياسيًا في سياق نقد البنية الاجتماعية الفكرية العربية، تم اختيار مكان منفر على مستوى الحواس البشرية، تلك التي صارت مجال تندر عن روائح منشأ النفايات، ربما في رمزية ناقدة.
في النهاية، لا يتزوج علاء ممن اختارها واختارته. كذلك فشلت الجهود في تغيير مكان المكب. أما المجلس القروي، فأعاد إنتاج نفسه من جديد؛ فالشخوص هم أنفسهم، والنهج واحد، في حين بقي الوطن بشكل عام على حاله أيضًا.
فنيًا
اعتمد المخرج حسن طه (المشارك في كتابة النص) على طاقة النص من جهة، وطاقة الممثل الواحد من جهة أخرى، زاهدًا بمحتويات الخشبة من ديكور وعناصر سينوغرافيا (الكرسي الذي بدا صندوقًا بما احتوى من مكونات استخدمها الممثل، وكذلك تلك القماشة البيضاء التي كانت ساترة مرة لحالة الولادة، وأخرى كانت طرحة العروس). كما اكتفى بقليل من المؤثرات الموسيقية والصوتية، ما ساهم في تعبئة الجو السمعي، وفقًا للمشاهد والحوارات التي يجريها.
قسم المخرج النص إلى ديالوج يتحدث فيه الراوي ـ الممثل مع آخرين مقلدًا أصواتًا وحركاتٍ، ومونولوج ما بين الفكاهة والشجن، فهو يتحدث في نفسه، وكذلك لنفسه.
من روافع الأداء كانت الحركة الحيوية، والكوميديا الجاذبة، والتي كانت متميزة بأمرين متداخلين معًا تم توظيفهما لتقديم العرض: وهما الكوميديا التفصيلية المتصلة، أي تلك الجزئيات المعمارية، والكوميديا الشاملة التي شكلت السياق المعماري العام، والتي راحت تنحت داخل المشاهدين باتجاهات نقدية لبست ثوب السخرية الساخرة.
نقد المنظومة
وهنا يعزف العرض على اللحن الرئيس الناقد للمنظومة، حين يتم نقد المنظومة العائلية والتعليمية، حين يحاول المعلمون هندسة عقول طلبتهم تبعًا لاتجاهاتهم الأيديولوجية، في ظل الانقسام السياسي.
ضغطت (كبست) "ع الدوّار" على "ندبة" الشعور والوعي، تجاه ما يمكن قياسه من التغيرات الحقيقية التي حدثت فعلًا، وتلك الكثيرة التي لم تحدث حتى الآن في بنية العقل العربي؛ ذلك أن من يقرأ الروايات العربية منذ الثلاثينيات، ومن يشاهد الأفلام السينمائية عنها، أو عن قصص أعدت للسينما، سيجد أن ما تم التوقع له من تغيرات فكرية عميقة نتيجة التحولات المستمرة في المجتمع العربي (والفلسطيني منه) لم يحدث، بالرغم مما تم من حصاد على البيدر، فقد ظلت كميات "الحبوب" محدودة، فهل ثمة عطب ما أصاب السنابل، أم طريقة "الدرس"؟
من خلال "ع الدوار"، بقينا ندور في المكان الواحد، على امتداد عدة أزمنة، من دون أن يتغير كثيرًا؛ فاجتماعيًا وسياسيًا، سنجد ذلك قد تمت مناقشته بشكل عميق لبس رداء كوميديًا ـ ساخرًا، فالعاشق الجديد الآن، سيجد نفسه مقابل قدر العاشق الأول (الراوي)، الذي راح يتذكر قصة حبه في السيارة، التي بدأت من خلال "مناولة فلوس المواصلات بين الركاب والسائق"، والذي قرأ ربما مأساة نهاية تتكرر، كذلك عادة التزويج بالبدل التي كانت شائعة، كذلك حال الانتخابات كوسيلة ديمقراطية، ما زالت تصطدم بعقلية سائدة لم تتغير ربما إلا شكليًا؛ فالفجوات تزداد ما بين "الحارة الشمالية"، و"الحارة الجنوبية".
لم يكن "الدوار" الفيزيقي المادي محاكاة لدوارات القرى الأخرى، بقدر ما كان أملًا في التغيير الحقيقي، حيث تخف فرحة الناس، حين يرون أنه تمت إعادة إنتاج السلوكيات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية نفسها، حيث مع اكتمال دورة الدوار نبدأ من جديد كما كنا وكما صرنا، على أمل وقف هذه الحالة.
صعب أن نظل مكاننا في ظل الأزمنة، في سياق التغيرات والتحولات التي يعيشها المجتمع العربي من عقود، أفلم يحن الوقت فعلًا للتغيير الحقيقي!
يذكر أن الفنان الشاب علاء شحادة كان بدأ مسيرته في مدرسة مسرح الحرية للفنون الأدائية في جنين، ومن ثم تخصص في فن "الكوميديا الديلارتي" (مسرح الأقنعة) في هولندا. وقد مثل في مسرحية "مروح ع فلسطين"، التي حازت على جائزة أفضل عرض مسرحي خلال مهرجان فلسطين الوطني للمسرح في عام 2018، كما مثل في مسرحية "لندن جنين" التي فازت في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح عام 2019 بجائزة أفضل نص مسرحي، والذي شارك شحادة في كتابته.
تحسين يقين
مسرح
علاء شحادة في مونودراما "ع الدوّار"
شارك هذا المقال
حجم الخط
قامت مسرحية الشخص الواحد "ع الدوّار" على تصوير الحياة الشخصية للشاب القروي (علاء) منذ طفولته حتى شبابه، من خلال رصد الأحداث والمشاعر الإنسانية التي مرّ فيها، في الأسرة والمدرسة، وحياته العاطفية التي تصل الى طريق مسدود، نتيجة الاختلافات العائلية في المجتمع، كونه ومن أحبها، من عائلتين متنازعتين. أما على المستوى العام، فرصدت ردود الفعل المجتمعية تجاه إقامة أكبر مكب قرب القرية، وتباين ردود فعل الشخصيات المحلية والمسؤولين تجاه الفعل، وتجاه الانتخابات التي تطغى عليها العائلية، وكل ذلك وسط التحولات العاصفة التي مرت بها فلسطين بعد اتفاقية أوسلو، التي استمر خلالها وجود المجتمع تحت الاحتلال.
أكدت المسرحية على أنه لا تناقض بين الخلاصين الفردي الشخصي والوطني العام، بل إن ضمان تحقق الخلاص الفردي، ولو حتى على مستوى النجاح في الزواج من فتاة من عائلة أخرى، مرتبط بالتغيير الفكري الاجتماعي والسياسي.
وقد أبدع فعلًا الفنان علاء شحادة في تمثيل العديد من شخصيات الأطفال والكبار والنساء والمسؤولين، متنقلًا بين شخصية وأخرى، من خلال استخدام سريع لملابس أو إكسسوارات، أو حتى تقليد الشخصيات على مستوى الحركة والصوت.
"بالرغم من الضحك المتواصل خلال المسرحية، وجدنا أنفسنا أمام شجن مغلف بغضب وعتاب ولوم وتأمل صادم مخاتل في حياتنا، هل سنستمر على هذه الحال؟" |
اختار القائمان على العرض موضوعًا من حياتهما الشخصية، فكان صادقًا في وصف المكان من منظور نقدي حاد. وزادت الحدية والنقد اللاذع للذات في "عجة"، التي ترمز للوطن، حين تم تقديم مفارقة ساخرة حدّ الحزن القاتل، حيث تنجح التحولات الاقتصادية، في ظل سياسة الاستهلاك، وكثرة النفايات المنزلية، في إقامة مكبّ واحد (مزبلة كبيرة)، في الوقت الذي استمر تشظي المجتمع الفلسطيني مرورًا بالانقسام، وليس انتهاء بالخلافات العائلية التي تظهر خلال الانتخابات التي تجري، أو التي يتم الاكتفاء بالحديث عنها.
وتتعمق المفارقة (وربما هنا صدفة) حين يتم اختيار المكب الشهير شمال الضفة الغربية في مكان بعيد كل البعد عن دلالة محتويات المكان الجديد وروائحه، اتخذ له من القدم اسم "زهرة الفنجان".
وهكذا، بالرغم من الضحك المتواصل خلال المسرحية، وجدنا أنفسنا أمام شجن مغلف بغضب وعتاب ولوم وتأمل صادم مخاتل في حياتنا، هل سنستمر على هذه الحال؟ هل كان في المونولوج الأخير يائسًا أم محفزًا للأمل؛ حيث لا يمكن فعلًا أن تستمر الحال على دوام الحال!
يسجل للعرض إبداعه، لكل من الشابين علاء شحادة، وحسن طه، في اختيار ما هو مناسب أدبيًا ودراميًا، حيث أن أسلوب الدائرة هو أسلوب ملائم فعلًا، لما يعيشه المجتمع من تكرار السلوك الاجتماعي، وغيره، وخصوصًا ما له علاقة بالمرأة والطفل، والذي هو تكرار صادم وموجع. وقد عبر عنه الفنان هنا بقوله من البداية والنهاية: "الناس محلها، والبلد محلها، بتلف وبتدور وبترجع محلها.. وأنا..".
إنه نقد لاذع سياسيًا في سياق نقد البنية الاجتماعية الفكرية العربية، تم اختيار مكان منفر على مستوى الحواس البشرية، تلك التي صارت مجال تندر عن روائح منشأ النفايات، ربما في رمزية ناقدة.
في النهاية، لا يتزوج علاء ممن اختارها واختارته. كذلك فشلت الجهود في تغيير مكان المكب. أما المجلس القروي، فأعاد إنتاج نفسه من جديد؛ فالشخوص هم أنفسهم، والنهج واحد، في حين بقي الوطن بشكل عام على حاله أيضًا.
فنيًا
اعتمد المخرج حسن طه (المشارك في كتابة النص) على طاقة النص من جهة، وطاقة الممثل الواحد من جهة أخرى، زاهدًا بمحتويات الخشبة من ديكور وعناصر سينوغرافيا (الكرسي الذي بدا صندوقًا بما احتوى من مكونات استخدمها الممثل، وكذلك تلك القماشة البيضاء التي كانت ساترة مرة لحالة الولادة، وأخرى كانت طرحة العروس). كما اكتفى بقليل من المؤثرات الموسيقية والصوتية، ما ساهم في تعبئة الجو السمعي، وفقًا للمشاهد والحوارات التي يجريها.
قسم المخرج النص إلى ديالوج يتحدث فيه الراوي ـ الممثل مع آخرين مقلدًا أصواتًا وحركاتٍ، ومونولوج ما بين الفكاهة والشجن، فهو يتحدث في نفسه، وكذلك لنفسه.
من روافع الأداء كانت الحركة الحيوية، والكوميديا الجاذبة، والتي كانت متميزة بأمرين متداخلين معًا تم توظيفهما لتقديم العرض: وهما الكوميديا التفصيلية المتصلة، أي تلك الجزئيات المعمارية، والكوميديا الشاملة التي شكلت السياق المعماري العام، والتي راحت تنحت داخل المشاهدين باتجاهات نقدية لبست ثوب السخرية الساخرة.
نقد المنظومة
وهنا يعزف العرض على اللحن الرئيس الناقد للمنظومة، حين يتم نقد المنظومة العائلية والتعليمية، حين يحاول المعلمون هندسة عقول طلبتهم تبعًا لاتجاهاتهم الأيديولوجية، في ظل الانقسام السياسي.
ضغطت (كبست) "ع الدوّار" على "ندبة" الشعور والوعي، تجاه ما يمكن قياسه من التغيرات الحقيقية التي حدثت فعلًا، وتلك الكثيرة التي لم تحدث حتى الآن في بنية العقل العربي؛ ذلك أن من يقرأ الروايات العربية منذ الثلاثينيات، ومن يشاهد الأفلام السينمائية عنها، أو عن قصص أعدت للسينما، سيجد أن ما تم التوقع له من تغيرات فكرية عميقة نتيجة التحولات المستمرة في المجتمع العربي (والفلسطيني منه) لم يحدث، بالرغم مما تم من حصاد على البيدر، فقد ظلت كميات "الحبوب" محدودة، فهل ثمة عطب ما أصاب السنابل، أم طريقة "الدرس"؟
"من روافع الأداء كانت الحركة الحيوية، والكوميديا الجاذبة، والتي كانت متميزة بأمرين متداخلين معًا تم توظيفهما لتقديم العرض" |
من خلال "ع الدوار"، بقينا ندور في المكان الواحد، على امتداد عدة أزمنة، من دون أن يتغير كثيرًا؛ فاجتماعيًا وسياسيًا، سنجد ذلك قد تمت مناقشته بشكل عميق لبس رداء كوميديًا ـ ساخرًا، فالعاشق الجديد الآن، سيجد نفسه مقابل قدر العاشق الأول (الراوي)، الذي راح يتذكر قصة حبه في السيارة، التي بدأت من خلال "مناولة فلوس المواصلات بين الركاب والسائق"، والذي قرأ ربما مأساة نهاية تتكرر، كذلك عادة التزويج بالبدل التي كانت شائعة، كذلك حال الانتخابات كوسيلة ديمقراطية، ما زالت تصطدم بعقلية سائدة لم تتغير ربما إلا شكليًا؛ فالفجوات تزداد ما بين "الحارة الشمالية"، و"الحارة الجنوبية".
لم يكن "الدوار" الفيزيقي المادي محاكاة لدوارات القرى الأخرى، بقدر ما كان أملًا في التغيير الحقيقي، حيث تخف فرحة الناس، حين يرون أنه تمت إعادة إنتاج السلوكيات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية نفسها، حيث مع اكتمال دورة الدوار نبدأ من جديد كما كنا وكما صرنا، على أمل وقف هذه الحالة.
صعب أن نظل مكاننا في ظل الأزمنة، في سياق التغيرات والتحولات التي يعيشها المجتمع العربي من عقود، أفلم يحن الوقت فعلًا للتغيير الحقيقي!
يذكر أن الفنان الشاب علاء شحادة كان بدأ مسيرته في مدرسة مسرح الحرية للفنون الأدائية في جنين، ومن ثم تخصص في فن "الكوميديا الديلارتي" (مسرح الأقنعة) في هولندا. وقد مثل في مسرحية "مروح ع فلسطين"، التي حازت على جائزة أفضل عرض مسرحي خلال مهرجان فلسطين الوطني للمسرح في عام 2018، كما مثل في مسرحية "لندن جنين" التي فازت في مهرجان فلسطين الوطني للمسرح عام 2019 بجائزة أفضل نص مسرحي، والذي شارك شحادة في كتابته.