"روح إليانورا".. لا تجاذب روحيًّا بين الممثِّل والمتفرِّج

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "روح إليانورا".. لا تجاذب روحيًّا بين الممثِّل والمتفرِّج

    "روح إليانورا".. لا تجاذب روحيًّا بين الممثِّل والمتفرِّج
    أنور محمد
    مسرح
    من مسرحية "روح إليانورا"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    هي سخريةٌ من ذاكَ الملك، ملكُ البيضِ والجبن، وليس ملكُ البلاد والعباد، الذي ماتت زوجته "أليانورا"، فيطلب من كاهنٍ يشتغل بالسحر والشعوذة أن يستحضر له روحها في جلسة سرية، كونه يحبُّها ولا يقدر على فراقها، هو الذي كانت تناديه: يا تمساحي الصغير. إنها مسرحية "روح إليانورا"، للكاتب والناقد الروسي، أناتولي لوناتشارسكي (1875 ـ 1933)، التي قُدِّمت على مسرح قَصْر الثقافة في اللاذقية في يوم المسرح العالمي 28 مارس/ آذار 2022، وقام الممثِّل والمُخرج مجد الدين يونس بإعدادها، ومن ثمَّ التمثيل فيها مع الممثلين عبد الناصر مرقبي، وأليسار كوسا، وإخراجها. كأنَّه على مدى حوالي أربعين دقيقة، قامَ بعملية نسخ، وليس شرح، أو تشبيه الواقع الاجتماعي الذي ينتقده المؤلِّف الروسي في النص، باعتباره واقعًا مُغرقًا في الاعتياش على روح الخرافة والعقائد التي تؤسلب الإنسان وتحوِّله إلى نعجة للذبح. المُخرج كان بين يديه نصٌ مسرحي موضوعي مكتوب برؤيةٍ بالغة الجِدَّة والإحساس بخطر الخرافة على حياة الناس، لكن لم يلعب لعبته الإخراجية في تشابك السياسي مع العلمي مع الاجتماعي. لقد شاهدنا جلسة، أو حفلة تنكرية، لا تناظر فيها بين حكاية المسرحية والفعل الدرامي. فالمؤلِّف الروسي يسخر من الشعوذة هازئًا من العنف والوحشية المستترة فيها عند الكاهن (أدَّى دوره عبد الناصر مرقبي بالصراخ والهدير وشيء من حركات بهلوانية) وهو يُسخِّر إليانورا (أليسار كوسا) كذبيحةٍ لعقائده وهرطقاته، وبحركاتٍ بدت فيها أليسار متخشِّبة، لا ليونة فيها تتوازى مع دورها في إثارة شعور المتفرِج وانفعالاته.

    "على مدى حوالي أربعين دقيقة، قامَ المخرج مجد الدين يونس بعملية نسخ، وليس شرح، أو تشبيه الواقع الاجتماعي الذي ينتقده المؤلِّف الروسي في النص"


    المخرج مجد يونس كان واعيًا ويقظًا أنَّه مع نصٍّ من المسرحيات القصيرة، وهي المسرحيات المختصرة ذات الطابعٍ الهزلي المثيرة والمشوقة، كانت تُعرض بين مَشاهد المسرحيات الطويلة القديمة، أو قبلها، للترفيه عن المشاهدين، والتي من المفترض أن تُحقِّقَ تأثيرًا دراميًا، لكنَّه بدلًا من أن نتفرَّج على عرض لحياة رجل ماتت زوجته، ويستميت، ونحن كمتفرجين نعرف أنَّه من المستحيل أن يستحضر له أيُّ مشعوذٍ روح أليانورا مهما كان حريِّفًا في مهنة الشعوذة، كُنَّا مع حالة يفتعل الممثلون، عدا مجد الدين يونس، التوترَ من الحدث بدلًا من أن يقوم توترهما، وهما يكيدان للزوج ملك البيض والجبن (الممثِّل مجد يونس). لقد كان التوتر عند عبدالناصر مرقبي، وأليسار كوسا، مفتعلًا غير مقنع. ثمَّة أنا الدور، وأنا الممثِّل، لقد تمَّ خلطهما. ما يعني أنَّ المشاركة، أو التجاذب الروحي بين الممثِّل والمتفرِّج لم يقم. في حين كان الممثِّل مجد الدين يونس يعيش ويُعايش دوره بكامل كيانه، ولو أنَّه لا يعرف. بل كان مقتنعًا؛ يُقنعنا بأدائه، أنَّ الكاهن سيجلب له روح زوجته ليسألها عن أحوالها في الآخرة. على أنَّ كَهَنَةَ المعابد يعتقدون أنَّ جسد المرأة هو الجسد المناسب، الذي تسكنه الأرواح والأشباح. لكن الممثِّل مرقبي لم يلعب لعبته وهو يتدرَّب على دوره بأنَّ الدور هذا، دوره، يتطلَّب تدريبًا روحيًا قاسيًا، فيشعر المتفرِّج بأنَّ ثمَّة تواصلًا روحيًا مع أليانورا الميِّتة، مع تلك القوى اللامرئية حيث كان سائدًا ـ وحتى الآن، في المجتمعات التي لم يخترقها العلم بأنَّ الجان والمردة والشياطين وأرواح موتانا إنَّما يسيطر عليها مثل هذا الساحر المشعوذ، الذي يتطلَّب منه القدرة على الإيحاء للمتفرِّج بأنَّه يمتلك قدراتٍ عقلية خارقة، وأنَّ لا قطيعة وجودية، لا مع الذي في الغيب، ولا مع الذي في أرض الواقع. ما يدفعنا لأن نحتقر عمله، أو على الأقل نمتعض منه، فالزوج سيذهب ضحية الخرافة والتخريف والتهريف الذي كانت الحياة الاجتماعية الروسية حينها لم تتخلَّص منه، حتى بعد الثورة البلشفية عام 1917.
    أراد المؤلِّف أناتولي لوناشارسكي من مسرحيته أن تُقيم انقلابًا معرفيًا يتأسَّس على العلم، وليس على الخرافات، فلبلوغ الحقيقة، أو الوصول إليها، ينبغي أن نأخذ طريق العلم الموضوعي. فالفيزيائي، أو الكيميائي، هو مفكِّرٌ وباحثٌ، ونظرياته هي نتائج عملية لأبحاثه واختباراته، وبإمكانه أن يستخدم العلم (معادلاته) كسحر في مجتمعاتٍ يتفشَّى فيها الجهل والتخريف. ما يقوم به هذا المشعوذ، نلاحظ أنَّ الممثِّلة أليسار كوسا وهي تؤدي دورها، والكاهنُ يُعدُّها لتمثِّل دور (روح) أليانورا، كانت تعرف أنَّ لا روح ولا أرواح يمكن أن تحضرَ، أو يُحضِّرها هذا المشعوذ، أو غيره. بل إنَّها تتقاضى أجرًا على دورها، ولمَّا يقتنع الزوج بأنَّه سمع صوت زوجته التي استعادت شبابها هناك في الآخرة من وراء ستارة موشورية الشكل، في المسرحية التي مثَّلها الكاهن، كادت أن تكشف لعبتها/ مؤامرتها لتكون زوجة له طمعًا في المال، ما أثار غضب الكاهن الذي هو في هذا الدور شخصٌ لئيمٌ وخبيث، يُمثِّلُ دور الغيور المُحب والوديع والمتفوِّق الذكاء، فيما الزوج ـ الضحية غبيٌّ يتمُّ استغفاله ليسرق المشعوذ أمواله، وكأن لا عقل عنده، رغم أنَّه ملك البيض والجبن الذي جمع ثروة من هذه التجارة.

    "المؤلِّف أناتولي لوناتشارسكي أراد من مسرحيته أن تُقيم انقلابًا معرفيًا يتأسَّس على العلم، وليس على الخرافات، فلبلوغ الحقيقة، أو الوصول إليها، ينبغي أن نأخذ طريق العلم الموضوعي"


    المؤلف لوناتشارسكي في مسرحيته هذه يريد أن يشير إلى أنَّ العالم القديم من التفكير الخرافي، الذي يُضطهدُ الناسُ فيه ويُستَغفلون، يجب أن يتداعى مع بداية تَكوُّن العالم الجديد؛ عالم العلم والمعرفة الذي جاء بالثورات، والثورات العلمية. ففي النص، وأنتَ تقرأ، ستضحك من المواقف التي يُعرِّي فيها لوناتشارسكي هؤلاء المشعوذين، هذا المشعوذ الذي يصوره متفوقًا وهو يستصغر ويستضعف الزوج ضحيته. مع هذا، ففي الصالة كُنَّا نتفرَّج؛ ثمَّة متفرِّجون، وعلى الخشبة ممثلون، والعلاقة بينهما نديِّة، ومثل هذه المسرحيات القصيرة التي كانت أطول من قصيرة في هذا العرض، يُفترض أن يسحرنا أداء هذه الشخصيات الثلاث في تمايز أدوارها على أنَّهم ممثلون متفرِّجون مثلنا، كوننا جزءًا من العرض المسرحي.
يعمل...
X