"إستديو بونفيس": التصوير الفوتوغرافي الغربي المبكر للعالم العربي
هاني حوراني 1
فوتوغراف
المصور الفرنسي فيليكس بونفيس
شارك هذا المقال
حجم الخط
نعلم أن التصوير الفوتوغرافي الغربي اقتحم العالم العربي مبكراً جداً، وتحديداً في سنة اختراع النسخ الأولى من كاميرات التصوير، وذلك في عام 1839. ويذكر هنا أن اختراع آلة التصوير المبكرة جاء نتيجة مسارين متوازيين رئيسيين شقهما شخصان عملا في المسرح، أحدهما فرنسي، وهو لويس داغيير (Louis Daguerre 1787/1851) والثاني بريطاني هو وليم هنري فوكس تابلوت William Henry Fox Talbot، الذي كان عالم رياضيات أيضاً. حيث توصل كل منهما، في وقت واحد تقريباً الى جهازين مختلفين لالتقاط الصورة وتثبيتها على وسيط. وقد أطلق داغيير اسمه على آلة التصوير التي اخترعها Daguerreotype، فيما أطلق تالبوت على آلته اسم كالوتايب Calotype.
وفي عام 1839 عرض داغيير الصورة الأولى التي التقطها بآلته على أعضاء أكاديمية العلوم الفرنسية، حيث احتفت الأخيرة باختراعه باعتباره أحد أهم الاختراعات العلمية الفرنسية، وقد ربطته بتأثيره البليغ على تطور علم الآثار وعمليات التنقيب والبحث في الآثار المصرية. فبدلاً من قيام علماء الآثار برسم النقوش والكتابات المصرية يدوياً، وهو ما كان يستغرق منهم وقتاً طويلاً، جاءت آلة التصوير "داغييروتايب" لتقوم بالعمل نفسه خلال دقائق.
بعد أشهر قليلة من تسجيل لويس داغيير لاختراعه آلة التصوير في أكاديمية العلوم بفرنسا (آب/ أغسطس 1839)، استُخدمت "الداغييروتايب" في التقاط الصور الفوتوغرافية الأولى لمدن الشرق العربي على يد الفرنسي فريدريك غوبيل فيسكه Frederic Goupil-Fesquet. حيث صور حاكم مصر محمد علي، كما صور قصره في الإسكندرية، يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1839.
من مصر عبر فيسكه وبعثة التصوير الفرنسية الى فلسطين مباشرة، حيث مروا بغزة والخليل والناصرة لينتهوا في القدس، التي التُقطت لها أول الصور الفوتوغرافية على يد هذه البعثة، وذلك قبل نهاية عام 1839. وقد نشرت حصيلة صور جولة البعثة الفرنسية في مصر وبلاد الشام في كتاب، صدر في باريس عام 1841.
منذ ذلك التاريخ زار العشرات من المصورين الغربيين البلاد العربية التي كانت تحت الحكم العثماني حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان هؤلاء المصورون إما جزءاً من البعثات الاستكشافية، أو أفراداً مغامرين، أو مصورين تابعين للجيوش العسكرية الغربية التي اشتبكت فوق الأراضي العربية، إبان الحرب العالمية الأولى، كما هو حال الجيوش الألمانية والبريطانية والفرنسية وغيرها، حيث باتت كاميرات التصوير جزءاً من معدات الحرب ولوازمها، وخاصة كاميرات التصوير الجوي.
على أن التصوير الغربي دخل عهداً جديداً مع تحوله الى مهنة دائمة ومستقرة في بعض الحواضر العربية الكبرى، مثل بيروت والقدس والقاهرة، حيث افتتحت استديوهات محترفة في تلك المدن، ولتملأ الفراغ الناجم عن غياب المصورين المحليين، والمعرفة التقنية الكافية لإنشاء مهنة حديثة تماماً، تحتاج الى مهارات عالية ومعدات ومواد لم تكن متوفرة حينذاك في أسواق المنطقة.
1- عائلة بونفيس:
أبرز هؤلاء المصورين الغربيين المحترفين الذين استقروا في المشرق العربي هم أفراد عائلة بونفيس: فيليكس الأب (1831-1885)، وزوجته ليديا (1837-1918) وابنهما إدريان (1861/1929). وقد عمل هؤلاء مجتمعين وفرادى، من خلال الاستديو العائلي الذي أسسوه في بيروت، تحت اسم Maison Bonfils، ابتداء من عام 1867، والذي استمر حتى عام 1916.
كان فيليكس بونفيس أول مصور فرنسي، وبالأحرى أول مصور أوروبي أقام إقامة دائمة في الشرق الأوسط، حيث أسس اعتباراً من عام 1967 استديو للتصوير الفوتوغرافي في باب إدريس، بيروت. وكان قبل ذلك يعمل في تجليد الكتب، لكنه قرر الانتقال مع عائلته من بلدته Ales إلى بيروت، التي سبق أن عرفها عندما التحق، عام 1860 ببعثة استكشافية فرنسية للمشرق العربي، وكان القصد من رحلته هذه الاستفادة من الطقس الدافئ للتلال المحيطة ببيروت لعلاج إبنه المريض إدريان. كان فيليكس هو المصور الرئيسي للاستديو، حيث التقط آلاف الصور التي حفظت ملامح المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر. وقد أظهر فيليكس اهتمامه الخاص بتصوير العمارة ذات الطابع التاريخي، وقد شملت جهوده التصويرية لبنان، مصر، فلسطين، سورية، واسطنبول والعاصمة اليونانية أثينا.
وفي أواخر حياته المهنية، كان فيليكس بونفيس قد أرسى صلات دولية كبيرة للاستديو الذي بدأه في بيروت، حيث افتتح متاجر له في كل من القاهرة والإسكندرية والقدس ودمشق وباريس ولندن وسويسرا. وقد حقق بونفيس شهرة واسعة وحظي باعتراف دولي بأهميته، منذ أن أطلق أول كتالوغ من الصور عن الشرق الأدنى عام 1876، حيث أسهم الكتالوغ في نشر صوره على نطاق واسع، كما حصل على عدة ميداليات في مسابقات التصوير العالمية.
تزوج فيليكس من ميري ليديا كابانس في فرنسا عام 1857، وأنجبا ولدين هما فيليسيا وإدريان. وبعد تأسيس الاستديو الخاص به في بيروت، انغمست ليديا بقوة في إنتاج نسخ ألبومات الصور، كما كانت تلتقط صوراً شخصية (بورتريهات) في الاستديو، خاصة للنساء المسلمات، حين كان من المتعذر أخذ صور لهن من قِبل مصورين ذكور. وبينما وزع فيلكس وقته ما بين التصوير في الميدان وبين إدارة الأعمال المزدهرة، كانت ليديا تدير الأستديو.
أما ولدهما إدريان فقد تلقى تعليمه المدرسي في بيروت وأتقن اللغة العربية، ولم يلبث أن عمل مع والده في مهنة التصوير. وبعد وفاة والده عام 1885 تولى إدريان المسؤولية عن الاستديو وأعمال العائلة، جامعاً ما بين مواهب والديه فيليكس وليديا. في عام 1897 تزوج إدريان من إبنة مبشر سويسري بروتستانتي، وقد ظل اسم إدريان يظهر على كتالوغات "بيت بونفيس" حتى عام 1910، إلى أن ترك الاستديو ليكرس نفسه لأعمال الفندقة. وهكذا بقيت أمه ليديا ترعى أعمال الاستديو، حيث ظهر اسمها على كاتالوغ صور الاستديو لعام 1907. ولكنها بعد وقت قصير من ذلك كلفت إبراهام غيراغسيان ليكون مديراً للاستديو.
خلال الحرب العالمية الأولى أُجليت ليديا من بيروت إلى القاهرة، التي وقعت تحت حكم الاحتلال البريطاني. وهكذا فقد أمضت نحو نصف قرن في مهنة التصوير، حتى انتقالها إلى القاهرة عام 1916، ويقال إن ليديا، بعد اعتزالها إدارة الاستديو وطبع الألبومات، امتنعت عن أكل البيض حتى وفاتها، وذلك قرفاً من رائحة البيض الذي كان أحد المواد التي كانت تستخدمها بكثرة في عمليات طبع وتلوين الصور يدوياً. وقد استمر عمل "ميزون بونفيس"، تحت إدارة غيراغسيان حتى عام 1938، حيث تم حل الشركة في ذلك العام.
مجموعة بونفيس المقتناة لدى فؤاد دباس
يتوزع إرث عائلة بونفيس المصور (Maison Bonfils) بين عدة مجموعات كبيرة من الصور المحفوظة لدى جامعات أو جامعي المقتنيات الكبار، ولا شك أن أهم مجموعات صور بونفيس الأصلية موجودة لدى مجموعة فؤاد دباس الخاصة، والتي تضم أعمال بونفيس ما بين 1867 ونهاية العقد الأول من القرن العشرين، وقد نُقلت من باريس الى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث خضعت للدراسة والتصنيف والمسح الرقمي في السنوات الأخيرة على يد ياسمين شمالي، وهي باحثة مستقلة، كانت قد حصلت على منحة من مكتبة جافت التذكارية والجامعة الأمريكية في بيروت لهذه الغاية.
وفي تقرير خاص على شبكة الإنترنت يفيد أن الهدف من المشروع هو وضع قائمة وتصنيف للكتالوغات ورقمنة (عمل نسخة رقمية للصور) لما مجموعه 3000 صورة من أعمال "بيت بونفيس" للسنوات 1876 وحتى نهاية العقد الأول من القرن المنصرم.
وتحتوي الـ 3000 مفردة من صور بونفيس على نسخ صور مطبوعة أو مجمعة في ألبومات وشرائح ضوئية، وأخرى على شكل بطاقات الستيريوسكوب، وكذلك بطاقات خزائن وبطاقات زيارة.
يصف التقرير مجموعة فؤاد دباس لأعمال بونفيس، عن حق، بأنها الأشمل والأكثر تنوعاً والأغنى بالصور التي أنتجت عن الشرق في نهاية العهد العثماني، والتي ما زالت محفوظة ومتوفرة بحالة جيدة. إذ تحتوي هذه المجموعة على مواد مصورة وموقعة من بونفيس، وتعود للفترة 1876 وحتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين. أي أنها تغطي الفترة التي تولت فيها ليديا زوجة فيليكس بونفيس، مسؤولية الإشراف على استوديو التصوير التابع للعائلة في بيروت، بعد أن هجر ابنها أدريان المهنة ليعمل في مجال الفندقة. وتشكل هذه المجموعة جزءاً صغيراً من مجموعة فؤاد دباس الكاملة من الصور الفوتوغرافية والتي يزيد عددها عن أربعين ألف صورة.
تحتوي مجموعة فؤاد دباس الخاصة بصور بونفيس على 62 ألبوماً، بما فيها ألبومات Mansell السبعة الشهيرة (أي حوالي 1966 صورة من أعمال بونفيس)، 90 بطاقة ستيريوسكوب ذات الصور المزدوجة، ومئة شريحة زجاجية). وبعد وفاة فؤاد دباس عام 2001، ظلت مجموعة مقتنياته محفوظة في بناء تجاري بدون إجراءات حماية خاصة لها، غير أنه لحسن الحظ كانت المجموعة محفوظة في غرفة تخزين ملائمة ومتفقة مع المعايير الدولية لحماية المحفوظات.
هذا، ويمكن الاطلاع على صور بونفيس التابعة لمجموعة فؤاد دباس من خلال موقع المجموعة على الشبكة "The Fouad Debbas Collection"، حيث يفيد الموقع المذكور بأنها تضم 45 ألف صورة، بما فيها نحو 22 ألف بطاقة بريدية Post Card))، 20 ألف صورة مطبوعة أصلية (على شكل صور ورقية أو ألبومات) إضافة الى ألفي شريحة ضوئية سالبة وألف بطاقة ستيريو.
ويذكر هنا أن فؤاد دباس سليل عائلة ثرية ونافذة، ولد في بيروت في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1930. تخرج كمهندس من "إيكول سنترال" في باريس عام 1958، حيث انضم الى عائلته في إدارة أعمالها في مجال الإضاءة. وقبل وفاته المفاجئة، عام 2001، كان قد بنى أوسع مجموعة خاصة من البطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية القديمة عن لبنان والشرق الأوسط.
وما بدا كاهتمام جانبي من فؤاد دباس بعملية اقتناء وتجميع البطاقات البريدية والصور القديمة تحول مع الوقت الى نشاط منهجي وعقلاني، حيث طور نظام أرشفة خاصا به لتصنيف مجموعته بطريقة تساعده والباحثين الآخرين على الوصول الى الصور المطلوبة، سواء كانوا علماء اجتماع أو إثنيات أو مخططي مدن أو معماريين.
يذكر هنا أن فؤاد دباس نشر في عام 1986 كتابا مصورا بعنوان "Beyrouth, notre memoire"، وتبعه في عام 2001 بكتاب آخر هو: "Des photographes a Beyrouth 1840-1913"، كما أن مجموعات صوره المقتناه عُرضت في معهد العالم العربي بباريس ومتحف سرسق، بيروت، لبنان.
مجموعة جامعة بنسلفانيا
ولعل ثاني أهم مجموعة تعود لاستديو عائلة بونفيس هي المجموعة المقتناة من قبل متحف الآثار وعلم الإنسان التابع لجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا، الولايات المتحدة، والتي يصل عددها الى 1100 صورة فوتوغرافية، وتضم نسخ ألبومات، فوتوكروم، سلايدات، وبذلك تعد واحدة من أكبر مجموعات صور بونفيس في الولايات المتحدة، وهي مجموعة تتسم بالشمول سواء من حيث المناطق الجغرافية التي تغطيها، أو من حيث المدى الزمني التي التُقطت فيه، ما جعلها واحدة من أهم مجموعات صور بونفيس في العالم.
وقد بدأت جامعة بنسلفانيا بجمع هذه الصور منذ قيامها عام 1887. وخلال ما يزيد على قرن من بدء جمع صور هذه المجموعة، كانت الجامعة محظوظة بتلقي هديتين، الكبرى كانت من مكتبة دركسيل والثانية كانت من مانح خاص هو جيرترود شويلر من ديترويت، الذي كان، بدوره، مصوراً فوتوغرافياً.
وبمناسبة ذكرى اختراع الفوتوغراف، نُظم عام 1989 معرض تحت عنوان
"Seeing is Believing: 19th Century, Egypt, Greece, and the East in the Eyes of Maison Bonflis"
وقد ضم المعرض 50 صورة. ولاحقاً، في عام 2000، نشرت الجامعة الأميركية في القاهرة كتاباً بعنوان: "البلاد العربية، مجموعة بونفيس "The Arab Lands, the Bonfils Collection ضم 59 صورة بالأبيض والأسود، بالإضافة الى بعض الصور الملونة (Photochromes). وقد ضمت المجموعة صوراً معمارية ومشاهد طبيعية وصوراً لأشخاص من مصر، وفلسطين، سورية ولبنان، إضافة الى صورة واحدة من الأردن، تصور الشاطئ الشمالي للبحر الميت، وقد التُقطت الأخيرة ما بين سنة 1885 و 1897.
مجموعة جامعة برنستون
إن مجموعة فيلكس بونفيس في جامعة برنستون كان قد جمعها رودلف آرنست برونوف، وهي محفوظة مع بقية أوراقه في مكتبة جامعة برنستون، إلى جانب الكتب النادرة والمجموعات الخاصة العائدة لبرونوف، وتتصف مجموعة صور بونفيس بالغنى والتنوع، حيث تتألف من 850 صورة، تضم مشاهد ملتقطة في سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، بالإضافة الى أثينا (اليونان).
ويذكر هنا أن برونوف كان مصوراً فوتوغرافياً، بالإضافة الى كونه أستاذاً للغات السامية في جامعة هايدلبرغ في ألمانيا. وقد قام بجمع أكبر مجموعة صور من أعمال بونفيس، لكن أهم إنجازاته هو وزميله النمساوي مازفيكس أستاذ التاريخ القديم في جامعة هايدلبرغ المذكورة آنفاً، هو دراسة وتصوير القصور الصحراوية، ولا سيما قصر المشتى، والمواقع الرومانية القديمة في الأردن، حيث حظيت بمئات الصور التي ما زالت محفوظة لدى جامعة برنستون، الولايات المتحدة.
استديو بونفيس كأحد مزودي المخيال الاستشراقي
خلال سنوات عمل "بيت بونفيس" (1867/ 1916) كان الثلاثي فيليكس وليديا وأدريان، مسؤولاً الى حد كبير عن الصورة التي رسمت للمشرق العربي في تلك الحقبة التاريخية المهمة، نهاية العهد العثماني وبداية عصر استعمار المنطقة. إن صور استديو بونفيس شكلت جزءاً مهماً من التاريخ المصور لإقليم، حيث تعرف العالم الغربي على ثقافة وحضارة وعادات وأنماط الحياة المشرقية من خلال آلاف الصور التي التقطها كل من فيليكس وإدريان بونفيس.
على أن استديو بونفيس كان مسؤولاُ أيضاً عن إنتاج مئات الصور التي صنعت داخل الاستديو وشكلت جزءاً من الذخيرة الاستشراقية التي أمدت الغرب بصور نمطية، تداعب المخيال الأوروبي وتمنحه ما يريد أن يراه عن الشرق من ذلك صور الراقصات والمغنين، وجموع النساء في "الحريم"، أو النساء المترفات في غرف نومهن وهن يتزينن أو يدخن الشيشة. هذا إضافة الى الصور النمطية للبدو وأبناء الطوائف والإثنيات، وهم في أزيائهم المحلية المميزة.
هاني حوراني 1
فوتوغراف
المصور الفرنسي فيليكس بونفيس
شارك هذا المقال
حجم الخط
نعلم أن التصوير الفوتوغرافي الغربي اقتحم العالم العربي مبكراً جداً، وتحديداً في سنة اختراع النسخ الأولى من كاميرات التصوير، وذلك في عام 1839. ويذكر هنا أن اختراع آلة التصوير المبكرة جاء نتيجة مسارين متوازيين رئيسيين شقهما شخصان عملا في المسرح، أحدهما فرنسي، وهو لويس داغيير (Louis Daguerre 1787/1851) والثاني بريطاني هو وليم هنري فوكس تابلوت William Henry Fox Talbot، الذي كان عالم رياضيات أيضاً. حيث توصل كل منهما، في وقت واحد تقريباً الى جهازين مختلفين لالتقاط الصورة وتثبيتها على وسيط. وقد أطلق داغيير اسمه على آلة التصوير التي اخترعها Daguerreotype، فيما أطلق تالبوت على آلته اسم كالوتايب Calotype.
وفي عام 1839 عرض داغيير الصورة الأولى التي التقطها بآلته على أعضاء أكاديمية العلوم الفرنسية، حيث احتفت الأخيرة باختراعه باعتباره أحد أهم الاختراعات العلمية الفرنسية، وقد ربطته بتأثيره البليغ على تطور علم الآثار وعمليات التنقيب والبحث في الآثار المصرية. فبدلاً من قيام علماء الآثار برسم النقوش والكتابات المصرية يدوياً، وهو ما كان يستغرق منهم وقتاً طويلاً، جاءت آلة التصوير "داغييروتايب" لتقوم بالعمل نفسه خلال دقائق.
بعد أشهر قليلة من تسجيل لويس داغيير لاختراعه آلة التصوير في أكاديمية العلوم بفرنسا (آب/ أغسطس 1839)، استُخدمت "الداغييروتايب" في التقاط الصور الفوتوغرافية الأولى لمدن الشرق العربي على يد الفرنسي فريدريك غوبيل فيسكه Frederic Goupil-Fesquet. حيث صور حاكم مصر محمد علي، كما صور قصره في الإسكندرية، يوم 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1839.
من مصر عبر فيسكه وبعثة التصوير الفرنسية الى فلسطين مباشرة، حيث مروا بغزة والخليل والناصرة لينتهوا في القدس، التي التُقطت لها أول الصور الفوتوغرافية على يد هذه البعثة، وذلك قبل نهاية عام 1839. وقد نشرت حصيلة صور جولة البعثة الفرنسية في مصر وبلاد الشام في كتاب، صدر في باريس عام 1841.
منذ ذلك التاريخ زار العشرات من المصورين الغربيين البلاد العربية التي كانت تحت الحكم العثماني حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان هؤلاء المصورون إما جزءاً من البعثات الاستكشافية، أو أفراداً مغامرين، أو مصورين تابعين للجيوش العسكرية الغربية التي اشتبكت فوق الأراضي العربية، إبان الحرب العالمية الأولى، كما هو حال الجيوش الألمانية والبريطانية والفرنسية وغيرها، حيث باتت كاميرات التصوير جزءاً من معدات الحرب ولوازمها، وخاصة كاميرات التصوير الجوي.
على أن التصوير الغربي دخل عهداً جديداً مع تحوله الى مهنة دائمة ومستقرة في بعض الحواضر العربية الكبرى، مثل بيروت والقدس والقاهرة، حيث افتتحت استديوهات محترفة في تلك المدن، ولتملأ الفراغ الناجم عن غياب المصورين المحليين، والمعرفة التقنية الكافية لإنشاء مهنة حديثة تماماً، تحتاج الى مهارات عالية ومعدات ومواد لم تكن متوفرة حينذاك في أسواق المنطقة.
1- عائلة بونفيس:
أبرز هؤلاء المصورين الغربيين المحترفين الذين استقروا في المشرق العربي هم أفراد عائلة بونفيس: فيليكس الأب (1831-1885)، وزوجته ليديا (1837-1918) وابنهما إدريان (1861/1929). وقد عمل هؤلاء مجتمعين وفرادى، من خلال الاستديو العائلي الذي أسسوه في بيروت، تحت اسم Maison Bonfils، ابتداء من عام 1867، والذي استمر حتى عام 1916.
كان فيليكس بونفيس أول مصور فرنسي، وبالأحرى أول مصور أوروبي أقام إقامة دائمة في الشرق الأوسط، حيث أسس اعتباراً من عام 1967 استديو للتصوير الفوتوغرافي في باب إدريس، بيروت. وكان قبل ذلك يعمل في تجليد الكتب، لكنه قرر الانتقال مع عائلته من بلدته Ales إلى بيروت، التي سبق أن عرفها عندما التحق، عام 1860 ببعثة استكشافية فرنسية للمشرق العربي، وكان القصد من رحلته هذه الاستفادة من الطقس الدافئ للتلال المحيطة ببيروت لعلاج إبنه المريض إدريان. كان فيليكس هو المصور الرئيسي للاستديو، حيث التقط آلاف الصور التي حفظت ملامح المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر. وقد أظهر فيليكس اهتمامه الخاص بتصوير العمارة ذات الطابع التاريخي، وقد شملت جهوده التصويرية لبنان، مصر، فلسطين، سورية، واسطنبول والعاصمة اليونانية أثينا.
وفي أواخر حياته المهنية، كان فيليكس بونفيس قد أرسى صلات دولية كبيرة للاستديو الذي بدأه في بيروت، حيث افتتح متاجر له في كل من القاهرة والإسكندرية والقدس ودمشق وباريس ولندن وسويسرا. وقد حقق بونفيس شهرة واسعة وحظي باعتراف دولي بأهميته، منذ أن أطلق أول كتالوغ من الصور عن الشرق الأدنى عام 1876، حيث أسهم الكتالوغ في نشر صوره على نطاق واسع، كما حصل على عدة ميداليات في مسابقات التصوير العالمية.
تزوج فيليكس من ميري ليديا كابانس في فرنسا عام 1857، وأنجبا ولدين هما فيليسيا وإدريان. وبعد تأسيس الاستديو الخاص به في بيروت، انغمست ليديا بقوة في إنتاج نسخ ألبومات الصور، كما كانت تلتقط صوراً شخصية (بورتريهات) في الاستديو، خاصة للنساء المسلمات، حين كان من المتعذر أخذ صور لهن من قِبل مصورين ذكور. وبينما وزع فيلكس وقته ما بين التصوير في الميدان وبين إدارة الأعمال المزدهرة، كانت ليديا تدير الأستديو.
أما ولدهما إدريان فقد تلقى تعليمه المدرسي في بيروت وأتقن اللغة العربية، ولم يلبث أن عمل مع والده في مهنة التصوير. وبعد وفاة والده عام 1885 تولى إدريان المسؤولية عن الاستديو وأعمال العائلة، جامعاً ما بين مواهب والديه فيليكس وليديا. في عام 1897 تزوج إدريان من إبنة مبشر سويسري بروتستانتي، وقد ظل اسم إدريان يظهر على كتالوغات "بيت بونفيس" حتى عام 1910، إلى أن ترك الاستديو ليكرس نفسه لأعمال الفندقة. وهكذا بقيت أمه ليديا ترعى أعمال الاستديو، حيث ظهر اسمها على كاتالوغ صور الاستديو لعام 1907. ولكنها بعد وقت قصير من ذلك كلفت إبراهام غيراغسيان ليكون مديراً للاستديو.
خلال الحرب العالمية الأولى أُجليت ليديا من بيروت إلى القاهرة، التي وقعت تحت حكم الاحتلال البريطاني. وهكذا فقد أمضت نحو نصف قرن في مهنة التصوير، حتى انتقالها إلى القاهرة عام 1916، ويقال إن ليديا، بعد اعتزالها إدارة الاستديو وطبع الألبومات، امتنعت عن أكل البيض حتى وفاتها، وذلك قرفاً من رائحة البيض الذي كان أحد المواد التي كانت تستخدمها بكثرة في عمليات طبع وتلوين الصور يدوياً. وقد استمر عمل "ميزون بونفيس"، تحت إدارة غيراغسيان حتى عام 1938، حيث تم حل الشركة في ذلك العام.
مجموعة بونفيس المقتناة لدى فؤاد دباس
يتوزع إرث عائلة بونفيس المصور (Maison Bonfils) بين عدة مجموعات كبيرة من الصور المحفوظة لدى جامعات أو جامعي المقتنيات الكبار، ولا شك أن أهم مجموعات صور بونفيس الأصلية موجودة لدى مجموعة فؤاد دباس الخاصة، والتي تضم أعمال بونفيس ما بين 1867 ونهاية العقد الأول من القرن العشرين، وقد نُقلت من باريس الى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث خضعت للدراسة والتصنيف والمسح الرقمي في السنوات الأخيرة على يد ياسمين شمالي، وهي باحثة مستقلة، كانت قد حصلت على منحة من مكتبة جافت التذكارية والجامعة الأمريكية في بيروت لهذه الغاية.
وفي تقرير خاص على شبكة الإنترنت يفيد أن الهدف من المشروع هو وضع قائمة وتصنيف للكتالوغات ورقمنة (عمل نسخة رقمية للصور) لما مجموعه 3000 صورة من أعمال "بيت بونفيس" للسنوات 1876 وحتى نهاية العقد الأول من القرن المنصرم.
وتحتوي الـ 3000 مفردة من صور بونفيس على نسخ صور مطبوعة أو مجمعة في ألبومات وشرائح ضوئية، وأخرى على شكل بطاقات الستيريوسكوب، وكذلك بطاقات خزائن وبطاقات زيارة.
يصف التقرير مجموعة فؤاد دباس لأعمال بونفيس، عن حق، بأنها الأشمل والأكثر تنوعاً والأغنى بالصور التي أنتجت عن الشرق في نهاية العهد العثماني، والتي ما زالت محفوظة ومتوفرة بحالة جيدة. إذ تحتوي هذه المجموعة على مواد مصورة وموقعة من بونفيس، وتعود للفترة 1876 وحتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين. أي أنها تغطي الفترة التي تولت فيها ليديا زوجة فيليكس بونفيس، مسؤولية الإشراف على استوديو التصوير التابع للعائلة في بيروت، بعد أن هجر ابنها أدريان المهنة ليعمل في مجال الفندقة. وتشكل هذه المجموعة جزءاً صغيراً من مجموعة فؤاد دباس الكاملة من الصور الفوتوغرافية والتي يزيد عددها عن أربعين ألف صورة.
تحتوي مجموعة فؤاد دباس الخاصة بصور بونفيس على 62 ألبوماً، بما فيها ألبومات Mansell السبعة الشهيرة (أي حوالي 1966 صورة من أعمال بونفيس)، 90 بطاقة ستيريوسكوب ذات الصور المزدوجة، ومئة شريحة زجاجية). وبعد وفاة فؤاد دباس عام 2001، ظلت مجموعة مقتنياته محفوظة في بناء تجاري بدون إجراءات حماية خاصة لها، غير أنه لحسن الحظ كانت المجموعة محفوظة في غرفة تخزين ملائمة ومتفقة مع المعايير الدولية لحماية المحفوظات.
هذا، ويمكن الاطلاع على صور بونفيس التابعة لمجموعة فؤاد دباس من خلال موقع المجموعة على الشبكة "The Fouad Debbas Collection"، حيث يفيد الموقع المذكور بأنها تضم 45 ألف صورة، بما فيها نحو 22 ألف بطاقة بريدية Post Card))، 20 ألف صورة مطبوعة أصلية (على شكل صور ورقية أو ألبومات) إضافة الى ألفي شريحة ضوئية سالبة وألف بطاقة ستيريو.
ويذكر هنا أن فؤاد دباس سليل عائلة ثرية ونافذة، ولد في بيروت في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1930. تخرج كمهندس من "إيكول سنترال" في باريس عام 1958، حيث انضم الى عائلته في إدارة أعمالها في مجال الإضاءة. وقبل وفاته المفاجئة، عام 2001، كان قد بنى أوسع مجموعة خاصة من البطاقات البريدية والصور الفوتوغرافية القديمة عن لبنان والشرق الأوسط.
وما بدا كاهتمام جانبي من فؤاد دباس بعملية اقتناء وتجميع البطاقات البريدية والصور القديمة تحول مع الوقت الى نشاط منهجي وعقلاني، حيث طور نظام أرشفة خاصا به لتصنيف مجموعته بطريقة تساعده والباحثين الآخرين على الوصول الى الصور المطلوبة، سواء كانوا علماء اجتماع أو إثنيات أو مخططي مدن أو معماريين.
يذكر هنا أن فؤاد دباس نشر في عام 1986 كتابا مصورا بعنوان "Beyrouth, notre memoire"، وتبعه في عام 2001 بكتاب آخر هو: "Des photographes a Beyrouth 1840-1913"، كما أن مجموعات صوره المقتناه عُرضت في معهد العالم العربي بباريس ومتحف سرسق، بيروت، لبنان.
مجموعة جامعة بنسلفانيا
ولعل ثاني أهم مجموعة تعود لاستديو عائلة بونفيس هي المجموعة المقتناة من قبل متحف الآثار وعلم الإنسان التابع لجامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا، الولايات المتحدة، والتي يصل عددها الى 1100 صورة فوتوغرافية، وتضم نسخ ألبومات، فوتوكروم، سلايدات، وبذلك تعد واحدة من أكبر مجموعات صور بونفيس في الولايات المتحدة، وهي مجموعة تتسم بالشمول سواء من حيث المناطق الجغرافية التي تغطيها، أو من حيث المدى الزمني التي التُقطت فيه، ما جعلها واحدة من أهم مجموعات صور بونفيس في العالم.
وقد بدأت جامعة بنسلفانيا بجمع هذه الصور منذ قيامها عام 1887. وخلال ما يزيد على قرن من بدء جمع صور هذه المجموعة، كانت الجامعة محظوظة بتلقي هديتين، الكبرى كانت من مكتبة دركسيل والثانية كانت من مانح خاص هو جيرترود شويلر من ديترويت، الذي كان، بدوره، مصوراً فوتوغرافياً.
وبمناسبة ذكرى اختراع الفوتوغراف، نُظم عام 1989 معرض تحت عنوان
"Seeing is Believing: 19th Century, Egypt, Greece, and the East in the Eyes of Maison Bonflis"
وقد ضم المعرض 50 صورة. ولاحقاً، في عام 2000، نشرت الجامعة الأميركية في القاهرة كتاباً بعنوان: "البلاد العربية، مجموعة بونفيس "The Arab Lands, the Bonfils Collection ضم 59 صورة بالأبيض والأسود، بالإضافة الى بعض الصور الملونة (Photochromes). وقد ضمت المجموعة صوراً معمارية ومشاهد طبيعية وصوراً لأشخاص من مصر، وفلسطين، سورية ولبنان، إضافة الى صورة واحدة من الأردن، تصور الشاطئ الشمالي للبحر الميت، وقد التُقطت الأخيرة ما بين سنة 1885 و 1897.
مجموعة جامعة برنستون
إن مجموعة فيلكس بونفيس في جامعة برنستون كان قد جمعها رودلف آرنست برونوف، وهي محفوظة مع بقية أوراقه في مكتبة جامعة برنستون، إلى جانب الكتب النادرة والمجموعات الخاصة العائدة لبرونوف، وتتصف مجموعة صور بونفيس بالغنى والتنوع، حيث تتألف من 850 صورة، تضم مشاهد ملتقطة في سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، بالإضافة الى أثينا (اليونان).
ويذكر هنا أن برونوف كان مصوراً فوتوغرافياً، بالإضافة الى كونه أستاذاً للغات السامية في جامعة هايدلبرغ في ألمانيا. وقد قام بجمع أكبر مجموعة صور من أعمال بونفيس، لكن أهم إنجازاته هو وزميله النمساوي مازفيكس أستاذ التاريخ القديم في جامعة هايدلبرغ المذكورة آنفاً، هو دراسة وتصوير القصور الصحراوية، ولا سيما قصر المشتى، والمواقع الرومانية القديمة في الأردن، حيث حظيت بمئات الصور التي ما زالت محفوظة لدى جامعة برنستون، الولايات المتحدة.
استديو بونفيس كأحد مزودي المخيال الاستشراقي
خلال سنوات عمل "بيت بونفيس" (1867/ 1916) كان الثلاثي فيليكس وليديا وأدريان، مسؤولاً الى حد كبير عن الصورة التي رسمت للمشرق العربي في تلك الحقبة التاريخية المهمة، نهاية العهد العثماني وبداية عصر استعمار المنطقة. إن صور استديو بونفيس شكلت جزءاً مهماً من التاريخ المصور لإقليم، حيث تعرف العالم الغربي على ثقافة وحضارة وعادات وأنماط الحياة المشرقية من خلال آلاف الصور التي التقطها كل من فيليكس وإدريان بونفيس.
على أن استديو بونفيس كان مسؤولاُ أيضاً عن إنتاج مئات الصور التي صنعت داخل الاستديو وشكلت جزءاً من الذخيرة الاستشراقية التي أمدت الغرب بصور نمطية، تداعب المخيال الأوروبي وتمنحه ما يريد أن يراه عن الشرق من ذلك صور الراقصات والمغنين، وجموع النساء في "الحريم"، أو النساء المترفات في غرف نومهن وهن يتزينن أو يدخن الشيشة. هذا إضافة الى الصور النمطية للبدو وأبناء الطوائف والإثنيات، وهم في أزيائهم المحلية المميزة.