"الأمريكان كولوني"من مستوطنة دينية إلى أهم استوديو تصوير فوتوغرافي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "الأمريكان كولوني"من مستوطنة دينية إلى أهم استوديو تصوير فوتوغرافي

    "الأمريكان كولوني"من مستوطنة دينية إلى أهم استوديو تصوير فوتوغرافي
    هاني حوراني
    فوتوغراف
    قيادات نسائية يجتمعن في فندق الملك داود، القدس
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    نشأت الأمريكان كولوني (أو المستعمرة الأميركية) على يد حجاج متدينين من الولايات المتحدة جاؤوا إلى القدس في عام 1881، وانضم إليهم آخرون من السويد، تحت تأثير معتقدات دينية بحتة، لكن قدر لهذه المستعمرة الدينية أن تلعب دوراً رئيسياً في التصوير الفوتوغرافي في فلسطين ومصر والشرق الأوسط عامة، منذ مطلع العقد التاسع من القرن التاسع عشر وحتى عام 1934.

    بدأت الأمريكان كولوني باعتبارها جماعة مستقلة ذات توجهات دينية وأخلاقية مثالية Utopian على يد المهاجرين الأميركان الذين قدموا من شيكاغو – إلينوي - الى القدس، عام 1881. وكانوا يسمون أنفسهم بالمنتصرين The Overcomers، وكانوا من أتباع هوريتو غيتيس سبافورد الذي كان محامياً ورجل أعمال، وهو من أصل نرويجي تزوج من أميركية. وقد جاءت الموجة الثانية من "المنتصرين" الأميركيين، (كما كانوا يسمون أنفسهم) إلى القدس عام 1896. وكان أولاف هنريك لارسن Olaf Henrik Larsson، السويدي المهاجر إلى الولايات المتحدة والمقيم في شيكاغو، على رأس هؤلاء، وقد ألهمت أعمالهم مجموعة أخرى من السويد بالحج إلى القدس، حيث وصلت في العام نفسه.

    كان المؤسسون للأمريكان كولوني من المسيحيين الذين تقاسموا الاعتقاد بعودة المسيح في الألفية (الثانية). وكانت المستعمرة تتألف من حوالي 100 شخص عاشوا في البداية حياة جماعية، وقد كسبوا ثقة سكان القدس من مسلمين ومسيحيين، وكذلك السلطات العثمانية في المدينة، وقد اعتنوا بالمرضى وبناء المدارس وأقاموا معملاً لإنتاج الصابون وورش نجارة وحدادة، وقاموا بأعمال خيرية أخرى.

    ومع انتهاء القرن التاسع عشر تحولت الأمريكان كولوني إلى أعمال السياحة، حيث كان أعضاؤها ينتجون الهدايا التذكارية ويديرون المحلات التجارية ويستقبلون السياح، وأخيراً انتهت "الأمريكان كولوني" إلى فندق يحمل الاسم ذاته، في خمسينيات القرن الماضي، حيث لا زال قائماً إلى اليوم، أما النشاط الأبرز الذي اشتهرت به فهو تقديم خدمات التصوير الفوتوغرافي.

    تعاونت الأمريكان كولوني منذ البداية مع المجتمع المحلي للقدس، ولا سيما أن مقرها الأول كان قرب باب دمشق، أحد أبواب المدينة القديمة، وكذلك الأمر بعد أن انتقلت إلى مقرها الجديد في مبنى حجري جميل، يعود لرباح الحسيني، الواقع في حي الشيخ جراح، القدس الشرقية، وهو ما كان يسمح لها بالتفاعل مع عائلات القدس ومؤسساتها المحلية.

    وقد استعان إسماعيل بيه الحسيني، أحد وجوه المدينة البارزين، بالسيدة بيرثا سبافورد، وهي من قادة "المستعمرة الأميركية"، لإدارة مدرسة الإناث في المدينة القديمة، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وكذلك بجوانا بروك كمديرة مساعدة لها، بهدف تحديث مناهج الدراسة في المدرسة. وفي ما بعد وفرت الكولونيالية دورات تدريب مهني للإناث من أجل تحسين فرصهن في الحصول على دخل. وفي الوقت نفسه رعت الكولونيالية أنشطة اجتماعية مختلفة، مثل إقامة نادٍ للفنون وآخر للدراما وثالث لمحو الأمية، فضلاً عن تكوين فرقة موسيقية.



    "دائرة التصوير" في الأمريكان كولوني

    بدأ قسم خدمات التصوير الفوتوغرافي في "الأمريكان كولوني" عام 1898، وقد قام مصورو القسم المذكور بتوثيق زيارة قيصر ألمانيا وملك بروسيا ولهلم الثاني إلى القدس في تشرين الأول/ أكتوبر 1898، وقد حظيت هذه الصور باهتمام الجمهور ولقيت طلباً كبيراً عليها، ما سمح للأمريكان كولوني بتوسيع أعمالها جراء الاهتمام الواسع بصور الزيارة الملكية لقيصر ألمانيا.

    خلال ثلاثة عقود ونصف (1898-1933) كانت دائرة التصوير في الأمريكان كولوني المؤسسة الأولى والأبرز في الشرق الأوسط التي تمكنت من توثيق الأحداث الكبرى والحروب والاحتفالات والحياة اليومية في هذا الإقليم الصاخب بالتطورات. لقد تناول مصورو الأمريكان كولوني موضوعات شديدة التنوع، بدءاً من المواقع الأثرية والسياحية والرحلات إلى المشاهد الحضرية والمناظر الطبيعية في مختلف بلدان الشرق الأوسط. وتنقل مصوروها، بناء على طلبات مسبقة، ما بين عواصم المنطقة، كالأردن، سورية، لبنان، العراق، مصر، السودان، ودول أخرى في أفريقيا.

    إريك وإديث ماتسون مع العائلة في بيتهما في القدس
    لقد وثقت دائرة التصوير الفوتوغرافي في الأمريكان كولوني، استعدادات الجيوش العثمانية في فلسطين للحرب، ثم وقائع الحرب الأولى في فلسطين وسيناء، دخول الجنرال اللنبي وقوات الحلفاء إلى المدن الفلسطينية، واحتفالات الجيش البريطاني باحتلال القدس واستسلام القوات العثمانية. كما وثقت أعمال الإدارة في عهد الانتداب في فلسطين، وكذلك المستوطنات الصهيونية المبكرة فيها. وقد حظيت القدس بالحصة الأكبر من الصور التي خلفتها وراءها الأمريكان كولوني، كما تبين ذلك المجموعات المحفوظة باسم أريك وإديث ماتسون لدى مكتبة الكونغرس الأميركي.



    ثلاثة أجيال من المصورين

    كان من أهم مصوري الأمريكان كولوني كل من: إليجا مايرز Elijah Meyers الذي أسس دائرة التصوير فيها، وكان مهاجراً يهودياً قدم من الهند وتحول نحو المسيحية. ومن المعتقد أنه كان ملماً بالتصوير قبل وصوله للقدس، وقد مارس التصوير بنفسه، وقام بإنشاء دائرة التصوير في المستوطنة، أي قبل عام 1898.

    درب مايرز شاباً سويدياً كان قد قدم مع مهاجرين سويديين آخرين إلى القدس عام 1896، هو هول لارس لارسن Hol Lars Larsson، الذي عرف في ما بعد باسم لويس لارسن Lewis Larsson، الذي أصبح واحداً من أمهر المصورين الفوتوغرافيين لدى الكولونيالية الأميركية. وخلال رحلاته المتكررة إلى مناطق الشرق الأوسط بين الأعوام 1903 و1910 اكتسب لارسن خبرة واسعة بالبلاد العربية والناس، وكان يتمتع بعين ذكية، يعرف جيداً المشاهد ذات الأهمية والتي يجب التقاط صورها، وهكذا التقط صوراً لمناظر ومشاهد الحياة الريفية في فلسطين، كما وثق أحداث العنف التي اكتنفت نهاية الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، والصراع الذي انتهى بسقوط الإمبراطورية العثمانية.

    تزوج لارسن من إديث، الابنة الصغرى لأوليف هنريك لارسن، ما عزز صلاته بالجالية السويدية في الأمريكان كولوني، وفي عام 1904 خلف لارسن معلمه إليجا مايزر في رئاسة دائرة التصوير، وظل يديرها من بعده لحوالي ثلاثين عاماً، وفي الوقت نفسه شغل منصب نائب قنصل السويد في فلسطين خلال السنوات 1920-1925.



    إريك ماتسون

    المصور الثالث الأكثر أهمية في الأمريكان كولوني هو ج. إريك ماتسون (1888-1966)، قدم من السويد مع عائلته وهو طفل، وقد عمل منذ مراهقته في غرفة التحميض، في بدايات العقد الأول من القرن العشرين، لكن من غير المعروف متى بدأ التصوير بنفسه. وقد تزوج من أميركية هي إديث يانتس Edith Yantiss (1889-1966)، التي عملت أيضاً في الغرفة المعتمة لدائرة التصوير في الأمريكان كولوني، وهكذا عملا معاً في تطوير تقنيات خدمات التصوير، مثل تلوين الصور بالألوان الزيتية، وإنتاج صور مزدوجة Double Stereoscopic Photographs، من أجل رؤية الصور كما لو أنها ثلاثية الأبعاد، إضافة الى التصوير الجوي.

    بدأت الأمريكان كولوني بالانهيار في عام 1923 بعد وفاة آنا سبافورد، التي كانت تقودها بقبضة حديدية، واندلع الصراع بين أعضاء الكولونيالية من أبناء الأصول الأميركية وأبناء الأصول السويدية. وقد انسحب لويس لارسن من الأمريكان كولوني، التي أغلقت رسمياً عام 1934، وبسط ج. إريك ماتسون قبضته على دائرة التصوير الفوتوغرافي وممتلكاتها من الصور، حيث أسس بعد ذلك "خدمات ماتسون للتصوير الفوتوغرافي" Matson Photo Services، عام 1940، والتي استمرت حتى السبعينيات من القرن الماضي.



    خدمات ماتسون للتصوير

    وقد استخدمت المؤسسة الجديدة جون وايتنج John Whiting واثنين من المصورين المحليين، هما حنا صافيه (1910-1979)، وجوزيف هـ. جيريز Joseph H. Giries 1922-2017.

    توسعت خدمات ماتسون للتصوير، كما لو أنها وكالة للتصوير الصحافي، لتشمل خدمة تزويد الصحف والمجلات ودور النشر بالصور، وأضافت خدمات جديدة، بما في ذلك إنتاج المسودات الملونة، وتسويق صور المصورين الآخرين.

    غادر ماتسون القدس إلى جنوب كاليفورنيا عام 1946، مع تزايد الصراع في فلسطين، وقام موظفو ماتسون بشحن النسخ السالبة إلى الولايات المتحدة، في الوقت الذي استمرت أعمال محله في القدس، حيث كان قد تعرض لخراب كبير خلال حرب 1948/ 1949، لكن النسخ السالبة المتبقية نقلت إلى جزء آخر من القدس فلم تتعرض للأذى.
    قافلة جمال مصرية تعبر جبل الزيتون في القدس

    ومع تراجع النشاط السياحي في فلسطين سرّح طقم ماتسون في القدس في مطلع الخمسينيات وأغلق المحل، حيث تابع الزوجان ماتسون أعمالهما الفوتوغرافية من كاليفورنيا.



    مجموعة ماتسون في مكتبة الكونغرس الأميركي

    في عام 1964 قرر إريك ماتسون منح مكتبة الكونغرس الأميركي مجموعاته من الصور ذات القيمة التاريخية الكبرى، والتي شملت نحو 13000 صورة سالبة وأحد عشر ألبوماً من الصور المطبوعة contact prints. وقد استلمت المكتبة هذه المجموعات عام 1966، وفي عام 1970 نقلت مكتبة الكونغرس المجموعة الأخيرة من المسودات التي كانت محفوظة في قبو جمعية الشبان المسيحيين في القدس YMCA، والتي تعرضت خلال تخزينها الطويل للرطوبة والماء. وفي عام 1971 ساعد ماتسون موظفي المكتبة في تنظيم الصور والتعريف بها، وفي عام 1981 أضيفت إلى مجموعة ماتسون في المكتبة المذكورة 122 صورة جوية لفلسطين.



    إرث "الأمريكان كولوني"

    ما من شك أن ضخامة حجم الأعمال الفوتوغرافية التي أنجزتها دائرة التصوير في الأمريكان كولوني خلال نشاطها في القدس، تضعها في مصاف أهم مصادر التصوير الفوتوغرافي عن فلسطين والعالم العربي والشرق الأوسط عموماً.

    وهو ما يفسر كثرة وتنوع الكتب والمقالات التي صدرت حول الأمريكان كولوني، مؤسسيها وأنشطتها ومصوريها، والتي تعد بالعشرات، حيث لا تضاهيها على هذا الصعيد أي مؤسسة مشابهة عملت في العالم العربي، بما في ذلك "بونفيس ميزون"، التي استقرت في بيروت لردح طويل من الزمن.

    واليوم لا يمكن دراسة التاريخ الاجتماعي والسياسي لفلسطين والمشرق العربي، منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية أربعينيات القرن العشرين، بدون الاستعانة بالصور الفوتوغرافية التي خلفتها وراءها دائرة التصوير في الأمريكان كولوني.



    * مصور فوتوغرافي وباحث.
يعمل...
X