انصهار الحداثة بالشعبوية في "فن الشاحنة" الباكستاني
علياء تركي الربيعو
فوتوغراف
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
سقوط قطرات من المطر على أشجار الشتاء العارية، بفروعها المنتشرة، على شكل شخص يبكي بذراعين مفتوحتين. أشعة ذهبية تتخلل سحباً تتحول بدورها إلى مجموعات غريبة من الزمرد والفيروز. مجموعة أخرى من قطرات المطر تلمع مثل المرايا الصغيرة، تتشبث بالأغصان العارية الممتدة على جميع الأطراف.
هذا ليس مشهداً من لوحة فنية في أحد المعارض، ولا حتى وصفاً لخيال خصب لكاتب ما، بل، هو جزء من صور خيالية تُرسم على شاحنات تنتشر في باكستان. رسومات فتنت الكثيرين حتى بات يطلق عليها "فن الشاحنة"، بينما يراها سائق وصاحب الشاحنة "ماكياج" تحتاجه "عروسه" لتكتمل.
أصبح "فن الشاحنة" في باكستان اليوم فناً معروفاً في جميع أنحاء العالم، فعلى سبيل المثال، احتفلت لندن العام الماضي بهذا الفن من خلال زخرفة الباصات في شوارعها للتعريف به، بينما تنتظر واشنطن دورها خلال العام الحالي.
لفترة طويلة، كان يمثل هذا الفن شكلاً فنياً محلياً في جنوب آسيا، وخاصة في باكستان، ومن ثم تطورت فكرة تزيين الشاحنات وحتى العربات مع أشكال لأزهار مترابطة، وخطوط شعرية بطريقة مبتكرة.
أُدخلت الشاحنات خلال الحرب العالمية الثانية على طول مسار السكك الحديدية أثناء االحكم البريطاني. وبالنظر إلى وعورة الطرق عبر باكستان والهند وبنغلاديش الموحدة آنذاك، كان على السائق أن يكون قوياً، عقلياً وجسدياً، لذا اختير سائقون من الباثان، وهم مجموعة قبائل متواجدون في شمال غرب باكستان، لما يتحلون به من هذه الصفات. إلا أن ارتباطهم وشوقهم لأرضهم وثقافتهم وأسرهم/ قبائلهم كان شديداً. وعليه، تقول الحكاية، بأنهم بدأووا بكتابة شعرهم عن الحرب والحب على الشاحنات. وبشكل تدريجي، بدأ الرسم على الشاحنات مع انضمام الرسامين إلى هذه المهنة لكسب سبل العيش. في 1980 أضافوا زينة وأشرطة حول شاحناتهم، وبحلول عام 2000 اُستبدلت شاحنات بيدفورد البريطانية القديمة بشاحنات جديدة أكثر عصرية، إلا أنها لم تكن المفضلة لدى الباثان ولكن كان عليهم قيادتها بأي حال. ومرة أخرى، ظهر هذا الفن مع السائقين الباثان، ولكن على الشاحنات الحديثة.
ظهور "فن الشاحنة"
وبنظرة أكثر تفصيلاً، أصبح هذا الفن الأصلي، معروفاً للعالم المتقدم منذ السبعينات فصاعداً، عندما استعاد السياح الأوروبيون والأميركيون الصور التي التقطوها من الشاحنات والحافلات المزخرفة على الطرق والشوارع في باكستان.
ومنذ أواخر الثمانينات، بدأت حكومة باكستان والأفراد بتنظيم معارض فنية للشاحنات في الخارج، وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أثبت هذا النوع نفسه بأنه "فن شعبي" مثير ونابض بالحياة من باكستان.
لم يكترث الكثيرون لحقيقة أن هذه الشاحنات تجلب معها تلوثاً ضاراً بالبيئة، فالعنصر الجمالي لهذا الشكل الفني، كما يرى الباحث الباكستاني نديم فاروق، شكل بالنسبة لهم "انعكاساً لانصهار الصور الشعبية التقليدية الباكستانية مع تلك الحداثوية، والتي ينقلها سائقو هذه الشاحنات عبر البلاد".
تواجد هذا النوع من الشكل الفني في شبه القارة الهندية في 1940 ولكن بشكل ضيق ومحدود. حيث ظهر لأول مرة على الشاحنات والناقلات التي يقودها السيخ الذين اعتادوا رسم صور لغورهم (معلمهم) الروحي، أو لأولئك الذين ساهموا في تشكيل ديانة السيخ. رُسمت هذه اللوحات بألوان صاخبة. وفي الوقت نفسه، بدأ الناقلون والسائقون المسلمون يرسمون صور القديسين الصوفيين المشهورين على شاحناتهم وعرباتهم.
وبحلول عام 1947 استقلت باكستان، وبدأ سائقو الشاحنات بإضافة المزيد من العناصر إلى جانب الصور الصوفية، مثل المناظر الطبيعية، والخيول الطائرة، والطواويس، وما إلى ذلك.
انتشرت صور الديكتاتور العسكري الباكستاني أيوب خان، بشكل كبير على الشاحنات التي كان معظمها مملوكاً لشركات نقل تنتمي إلى نفس المقاطعة التي ينحدر منها خان، خيبر باختونخوا.
ومنذ أوائل السبعينات، اجتاح فن الخط الإسلامي كامل جسم المركبة مما ساهم في شهرة أوسع لهذا النوع من الفن. في المقابل، بدأت هذه اللوحات تستوحي عملها من فن البوب الذي انتشر في الغرب منذ أواخر 1960 فصاعداً.
وعليه بدأ رسامو "فن الشاحنة" ومعظمهم من المتمركزين في ورش العمل والمطاعم الرخيصة على طول الطرق السريعة في باكستان، بدمج هذه الأنماط الجديدة من اللوحات مع تلك التي تنصهر مع الذوق العام المعمول به في البلاد.
في السبعينات، أصبح ذو الفقار علي بوتو ثاني شخصية سياسية تظهر على شاحنات معظمها مملوكة من قبل شركات نقل من البنجاب ومن مقاطعة السند.
كذلك ظهرت شخصيات غير باكستانية أيضاً. على سبيل المثال، حقق خبير فنون الدفاع عن النفس والنجم السينمائي، بروس لي، شعبية كبيرة في باكستان، وبالتالي أصبح أول شخص مشهور غير باكستاني يظهر على شاحنات محاطة بالصور التقليدية.
"فن الشاحنة" يصنع نجومه
في الواقع، ساهم هذا الفن في صناعة أول نجومه وهو كفيل بهاي غوتكي. غوتكي تالوكا، هي مدينة تقع في المنطقة الشمالية من مقاطعة السند. غالبية السكان الذين استقروا هناك هم أهل السند الأصليون، ولكن المدينة تفتخر أيضاً بوجود عدد كبير من الناطقين باللغة الأردية، البلوش، البختون والبنجابية. كذلك، من المعروف عن المدينة هو وجود عدد من المصانع فيها. ومع ذلك، وفي أوائل ومنتصف الثمانينات، اشتهرت مدينة غوتكي بشيء لا علاقة له بالمصانع. حيث لاحظ العديد من الباكستانيين النص التالي موقعاً خلف شاحنات مزينة بالألوان والزخارف تقول: "كفيل بهاي غوتكي – لاعب كريكت".
المضحك في البداية، أن العديد من السائقين لم يلاحظوا النص المذكور الذي وضع في الجزء السفلي من الصور التي رسمت خلف شاحناتهم. ولكن عندما حققت بعض الصحف السندية المحلية في هذه الظاهرة، اكتشفوا أن كفيل بهاي كان شاباً متحمساً للعبة الكريكت التي تشتهر في آسيا، ورساماً موهوباً جاء من خلفية متواضعة من الطبقة العاملة في غوتكي. في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، كان قد هيأ نفسه ليكون أفضل لاعب كريكت في العالم، حاول إثبات تفرده في الكريكت في أرجاء البلاد، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق حلمه. وعليه عاد إلى بلدته في غوتكي، حيث بدأ كفيل بهاي قضاء وقته في أكشاك الشاي الصغيرة والمطاعم القريبة من محطات البنزين على الطريق السريع.
اعتاد سائقو الشاحنات ارتياد هذه الأكشاك والمطاعم، فهم كانوا يقودون شاحناتهم من وإلى كراتشي (في الجنوب)، وصولاً إلى بيشاور (في الشمال)، وهم يحملون السلع الصناعية والقمح وقصب السكر وما إلى ذلك.
وبالرغم من أن العديد من هذه الشاحنات تزينت بجميع أنواع الصور، إلا أن كفيل قرر إضافة لمسته الخاصة عليها، وعليه لم يطلب من السائقين مقابلاً لعمله، فقط الطلاء وأدوات الرسم لأداء مهمته.
شمل عمله في الغالب صوراً لصقور وخيول، وأناس معروفين مثل المغنية الباكستانية مدام نور جيهان، والليدي ديانا. وبالفعل حقق شهرة كبيرة لعمله المتميز، استطاع جذب الكثير من السائقين الذين أتوا خصيصا ليزينوا شاحناتهم بريشته. مجدداً، رفض كفيل القبول بأي مقابل مادي لعمله. بدلاً من ذلك، طلب فقط كوباً من الشاي في أحد الأكشاك التي اعتاد أن يقضي معظم وقته بها.
وبحلول ذلك الوقت، كان كفيل بهاي قد وسع خط توقيعه الذي أصبح يُقرأ لاحقاً: "مشہور زمانہ کھلاڑی، كفيل بهاي كوه سلام" (سلام إلى رامي الكريكت المشهور عالمياً، كفيل بهاي). وصلت شهرة كفيل بهاي إلى ذروتها في عام 1992 عندما نشرت مجلة الفن الفرنسي بعض الصور لرسم له على إحدى الشاحنات. وعرض مجموعة من الفرنسيين نقل كفيل بهاي إلى فرنسا ليرسم لهم بعض الشاحنات والحافلات العامة في باريس. وافق كفيل بهاي، ولكن بشرط واحد، أن يُسمح له بوضع توقيعه على كل شاحنة فرنسية وحافلة يرسمها. إلا أنهم لم يتمكنوا من ضمان ذلك، ووعدوه بأجر جيد بدلاً عن ذلك، ولكنه رفض عرضهم.
ووفقا للباحث نديم فاروق، (الصحافي الوحيد الذي حاول تتبع أثر كفيل بهاي وكتب عنه)، بلغ كفيل بهاي منتصف الثلاثين عندما قرر التوقف ببساطة عن الرسم، بعد أن اقترض مبلغاً من المال من أحد معجبيه الكثر، وافتتح متجراً للأثاث. وبعد أن حقق المحل أرباحاً صغيرة، قرر أن يتزوج. في أوائل 2000، قيل بأنه باع متجره فجأة، وحزم حقائبه وانتقل إلى كراتشي مع زوجته. لا أحد يعرف أن يعيش كفيل في كراتشي أو ما يفعله لكسب لقمة العيش. قرر كفيل فقط أن يتلاشى، وكذلك صوره وتوقيعه من على الشاحنات.
بيد أن "فن الشاحنة" لم يتلاش مع اختفاء كفيل، بل استمر في التطور، مواصلاً دمج العناصر الجمالية الحديثة والتصوير مع العناصر الروحية والشعبية التقليدية: القديسين الصوفيين، القادة الروحيين، الحصان الطائر، النسر، الطاووس، الصقور والمشاهد المتخيلة من الجنة، جنباً إلى جانب الشخصيات السياسية الشعبية، والأبطال العسكريين، لاعبي الكريكت المشهورين، وحتى صور لطائرات F- 16، لينضم مؤخراً رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إلى القائمة الطويلة.
علياء تركي الربيعو
فوتوغراف
(Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
سقوط قطرات من المطر على أشجار الشتاء العارية، بفروعها المنتشرة، على شكل شخص يبكي بذراعين مفتوحتين. أشعة ذهبية تتخلل سحباً تتحول بدورها إلى مجموعات غريبة من الزمرد والفيروز. مجموعة أخرى من قطرات المطر تلمع مثل المرايا الصغيرة، تتشبث بالأغصان العارية الممتدة على جميع الأطراف.
هذا ليس مشهداً من لوحة فنية في أحد المعارض، ولا حتى وصفاً لخيال خصب لكاتب ما، بل، هو جزء من صور خيالية تُرسم على شاحنات تنتشر في باكستان. رسومات فتنت الكثيرين حتى بات يطلق عليها "فن الشاحنة"، بينما يراها سائق وصاحب الشاحنة "ماكياج" تحتاجه "عروسه" لتكتمل.
أصبح "فن الشاحنة" في باكستان اليوم فناً معروفاً في جميع أنحاء العالم، فعلى سبيل المثال، احتفلت لندن العام الماضي بهذا الفن من خلال زخرفة الباصات في شوارعها للتعريف به، بينما تنتظر واشنطن دورها خلال العام الحالي.
لفترة طويلة، كان يمثل هذا الفن شكلاً فنياً محلياً في جنوب آسيا، وخاصة في باكستان، ومن ثم تطورت فكرة تزيين الشاحنات وحتى العربات مع أشكال لأزهار مترابطة، وخطوط شعرية بطريقة مبتكرة.
أُدخلت الشاحنات خلال الحرب العالمية الثانية على طول مسار السكك الحديدية أثناء االحكم البريطاني. وبالنظر إلى وعورة الطرق عبر باكستان والهند وبنغلاديش الموحدة آنذاك، كان على السائق أن يكون قوياً، عقلياً وجسدياً، لذا اختير سائقون من الباثان، وهم مجموعة قبائل متواجدون في شمال غرب باكستان، لما يتحلون به من هذه الصفات. إلا أن ارتباطهم وشوقهم لأرضهم وثقافتهم وأسرهم/ قبائلهم كان شديداً. وعليه، تقول الحكاية، بأنهم بدأووا بكتابة شعرهم عن الحرب والحب على الشاحنات. وبشكل تدريجي، بدأ الرسم على الشاحنات مع انضمام الرسامين إلى هذه المهنة لكسب سبل العيش. في 1980 أضافوا زينة وأشرطة حول شاحناتهم، وبحلول عام 2000 اُستبدلت شاحنات بيدفورد البريطانية القديمة بشاحنات جديدة أكثر عصرية، إلا أنها لم تكن المفضلة لدى الباثان ولكن كان عليهم قيادتها بأي حال. ومرة أخرى، ظهر هذا الفن مع السائقين الباثان، ولكن على الشاحنات الحديثة.
ظهور "فن الشاحنة"
وبنظرة أكثر تفصيلاً، أصبح هذا الفن الأصلي، معروفاً للعالم المتقدم منذ السبعينات فصاعداً، عندما استعاد السياح الأوروبيون والأميركيون الصور التي التقطوها من الشاحنات والحافلات المزخرفة على الطرق والشوارع في باكستان.
ومنذ أواخر الثمانينات، بدأت حكومة باكستان والأفراد بتنظيم معارض فنية للشاحنات في الخارج، وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أثبت هذا النوع نفسه بأنه "فن شعبي" مثير ونابض بالحياة من باكستان.
لم يكترث الكثيرون لحقيقة أن هذه الشاحنات تجلب معها تلوثاً ضاراً بالبيئة، فالعنصر الجمالي لهذا الشكل الفني، كما يرى الباحث الباكستاني نديم فاروق، شكل بالنسبة لهم "انعكاساً لانصهار الصور الشعبية التقليدية الباكستانية مع تلك الحداثوية، والتي ينقلها سائقو هذه الشاحنات عبر البلاد".
تواجد هذا النوع من الشكل الفني في شبه القارة الهندية في 1940 ولكن بشكل ضيق ومحدود. حيث ظهر لأول مرة على الشاحنات والناقلات التي يقودها السيخ الذين اعتادوا رسم صور لغورهم (معلمهم) الروحي، أو لأولئك الذين ساهموا في تشكيل ديانة السيخ. رُسمت هذه اللوحات بألوان صاخبة. وفي الوقت نفسه، بدأ الناقلون والسائقون المسلمون يرسمون صور القديسين الصوفيين المشهورين على شاحناتهم وعرباتهم.
وبحلول عام 1947 استقلت باكستان، وبدأ سائقو الشاحنات بإضافة المزيد من العناصر إلى جانب الصور الصوفية، مثل المناظر الطبيعية، والخيول الطائرة، والطواويس، وما إلى ذلك.
انتشرت صور الديكتاتور العسكري الباكستاني أيوب خان، بشكل كبير على الشاحنات التي كان معظمها مملوكاً لشركات نقل تنتمي إلى نفس المقاطعة التي ينحدر منها خان، خيبر باختونخوا.
ومنذ أوائل السبعينات، اجتاح فن الخط الإسلامي كامل جسم المركبة مما ساهم في شهرة أوسع لهذا النوع من الفن. في المقابل، بدأت هذه اللوحات تستوحي عملها من فن البوب الذي انتشر في الغرب منذ أواخر 1960 فصاعداً.
وعليه بدأ رسامو "فن الشاحنة" ومعظمهم من المتمركزين في ورش العمل والمطاعم الرخيصة على طول الطرق السريعة في باكستان، بدمج هذه الأنماط الجديدة من اللوحات مع تلك التي تنصهر مع الذوق العام المعمول به في البلاد.
في السبعينات، أصبح ذو الفقار علي بوتو ثاني شخصية سياسية تظهر على شاحنات معظمها مملوكة من قبل شركات نقل من البنجاب ومن مقاطعة السند.
كذلك ظهرت شخصيات غير باكستانية أيضاً. على سبيل المثال، حقق خبير فنون الدفاع عن النفس والنجم السينمائي، بروس لي، شعبية كبيرة في باكستان، وبالتالي أصبح أول شخص مشهور غير باكستاني يظهر على شاحنات محاطة بالصور التقليدية.
"فن الشاحنة" يصنع نجومه
في الواقع، ساهم هذا الفن في صناعة أول نجومه وهو كفيل بهاي غوتكي. غوتكي تالوكا، هي مدينة تقع في المنطقة الشمالية من مقاطعة السند. غالبية السكان الذين استقروا هناك هم أهل السند الأصليون، ولكن المدينة تفتخر أيضاً بوجود عدد كبير من الناطقين باللغة الأردية، البلوش، البختون والبنجابية. كذلك، من المعروف عن المدينة هو وجود عدد من المصانع فيها. ومع ذلك، وفي أوائل ومنتصف الثمانينات، اشتهرت مدينة غوتكي بشيء لا علاقة له بالمصانع. حيث لاحظ العديد من الباكستانيين النص التالي موقعاً خلف شاحنات مزينة بالألوان والزخارف تقول: "كفيل بهاي غوتكي – لاعب كريكت".
المضحك في البداية، أن العديد من السائقين لم يلاحظوا النص المذكور الذي وضع في الجزء السفلي من الصور التي رسمت خلف شاحناتهم. ولكن عندما حققت بعض الصحف السندية المحلية في هذه الظاهرة، اكتشفوا أن كفيل بهاي كان شاباً متحمساً للعبة الكريكت التي تشتهر في آسيا، ورساماً موهوباً جاء من خلفية متواضعة من الطبقة العاملة في غوتكي. في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، كان قد هيأ نفسه ليكون أفضل لاعب كريكت في العالم، حاول إثبات تفرده في الكريكت في أرجاء البلاد، إلا أنه لم يتمكن من تحقيق حلمه. وعليه عاد إلى بلدته في غوتكي، حيث بدأ كفيل بهاي قضاء وقته في أكشاك الشاي الصغيرة والمطاعم القريبة من محطات البنزين على الطريق السريع.
اعتاد سائقو الشاحنات ارتياد هذه الأكشاك والمطاعم، فهم كانوا يقودون شاحناتهم من وإلى كراتشي (في الجنوب)، وصولاً إلى بيشاور (في الشمال)، وهم يحملون السلع الصناعية والقمح وقصب السكر وما إلى ذلك.
وبالرغم من أن العديد من هذه الشاحنات تزينت بجميع أنواع الصور، إلا أن كفيل قرر إضافة لمسته الخاصة عليها، وعليه لم يطلب من السائقين مقابلاً لعمله، فقط الطلاء وأدوات الرسم لأداء مهمته.
شمل عمله في الغالب صوراً لصقور وخيول، وأناس معروفين مثل المغنية الباكستانية مدام نور جيهان، والليدي ديانا. وبالفعل حقق شهرة كبيرة لعمله المتميز، استطاع جذب الكثير من السائقين الذين أتوا خصيصا ليزينوا شاحناتهم بريشته. مجدداً، رفض كفيل القبول بأي مقابل مادي لعمله. بدلاً من ذلك، طلب فقط كوباً من الشاي في أحد الأكشاك التي اعتاد أن يقضي معظم وقته بها.
وبحلول ذلك الوقت، كان كفيل بهاي قد وسع خط توقيعه الذي أصبح يُقرأ لاحقاً: "مشہور زمانہ کھلاڑی، كفيل بهاي كوه سلام" (سلام إلى رامي الكريكت المشهور عالمياً، كفيل بهاي). وصلت شهرة كفيل بهاي إلى ذروتها في عام 1992 عندما نشرت مجلة الفن الفرنسي بعض الصور لرسم له على إحدى الشاحنات. وعرض مجموعة من الفرنسيين نقل كفيل بهاي إلى فرنسا ليرسم لهم بعض الشاحنات والحافلات العامة في باريس. وافق كفيل بهاي، ولكن بشرط واحد، أن يُسمح له بوضع توقيعه على كل شاحنة فرنسية وحافلة يرسمها. إلا أنهم لم يتمكنوا من ضمان ذلك، ووعدوه بأجر جيد بدلاً عن ذلك، ولكنه رفض عرضهم.
ووفقا للباحث نديم فاروق، (الصحافي الوحيد الذي حاول تتبع أثر كفيل بهاي وكتب عنه)، بلغ كفيل بهاي منتصف الثلاثين عندما قرر التوقف ببساطة عن الرسم، بعد أن اقترض مبلغاً من المال من أحد معجبيه الكثر، وافتتح متجراً للأثاث. وبعد أن حقق المحل أرباحاً صغيرة، قرر أن يتزوج. في أوائل 2000، قيل بأنه باع متجره فجأة، وحزم حقائبه وانتقل إلى كراتشي مع زوجته. لا أحد يعرف أن يعيش كفيل في كراتشي أو ما يفعله لكسب لقمة العيش. قرر كفيل فقط أن يتلاشى، وكذلك صوره وتوقيعه من على الشاحنات.
بيد أن "فن الشاحنة" لم يتلاش مع اختفاء كفيل، بل استمر في التطور، مواصلاً دمج العناصر الجمالية الحديثة والتصوير مع العناصر الروحية والشعبية التقليدية: القديسين الصوفيين، القادة الروحيين، الحصان الطائر، النسر، الطاووس، الصقور والمشاهد المتخيلة من الجنة، جنباً إلى جانب الشخصيات السياسية الشعبية، والأبطال العسكريين، لاعبي الكريكت المشهورين، وحتى صور لطائرات F- 16، لينضم مؤخراً رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إلى القائمة الطويلة.