الجيزاني: "الصورة تتمتع بتأثير سياسي"
وفاء صبيح
فوتوغراف
صورة إحسان جيزاني
شارك هذا المقال
حجم الخط
تؤرّخ الصورة لنبض هذا العالم، وتؤرخ أيضًا لموته، لكن الصورة عند إحسان الجيزاني، المخرج والمصور العراقي لها آفاق أرحب تتعدى تلك الثنائية (النبض/ الموت)، فهي تتمتع بـ"تأثير سياسي.. هو تأثير السلطة على الرؤية التي هي في الأصل آلية ذهنية يستقبلها العقل.. لتخرج بعدها بمخرجات تختلف قوتها بحسب قوة التأثير السياسي".
الصور أيضًا كائنات حيّة، تتمايز فيما بينها، وتمارس تمييزًا عنصريًا ضد بعضها الآخر. هناك صورة متخلّفة، وأخرى نامية، وثالثة عنصرية، وهذه الأنواع لا تهمُّ صُنّاع السياسة إلا بقدر ما تحقق لهم من مصالح- وهنا أتقاطع مع رؤية الجيزاني،- وإلا فستبقى فرصة إطلالة لهم على الشاشات، لمشاركة المزاج الشعبي في حفلات الاستنكار والتعاطف.
(كيم فوج) الطفلة الفيتنامية، الراكضة، الهاربة، المحروقة بالنابالم الأميركي المصبوب على قريتها، تتصدر قائمة الصور ذات النفوذ، نفوذها تعدّى حصول المصور (نيك أوت) على جائزة" Pullitzer " في عام 1973، بلغت سطوتها حدَّ إنهاء الحرب الأميركية على فيتنام.
لكن أوزان الصور، وصداها، لا تتساوى، ثمة صور لا نفوذ لها، من منكم نسي صورة الطفل السوداني، المصاب بسوء التغذية والهُزال؟ ضمن هذا "الكادر" يقف نسر بحجم الطفل مرتين، ينتظر موته، يكفي أنه رأف بضعفه ولم يلتهمه وهو حي، كما تفعل الضواري، وبذلك يتشابه جميلُ النسر مع جميل البحر في شفقته على الطفل السوري (إيلان) الذي رمى به إلى الشاطئ، لئلا تتلذذ الأسماك بلحمه الغض.
الجيزاني يُفسّر أن "الصورة هنا تقع تحت تأثير السياسة وتكون أداة محركة لها، تعطي بُعدًا للواقع وتمنح الزمن فسحة ليواصل أحداثه. معظم بل أغلبية الصور التي كان لها الحضور القوي على المحركات السياسية هي في الأصل صور إنسانية بحتة جدًا، وهنا يبدأ التغير في الأدوار.. وكأن لقانون نيوتن مرحلة تسمى الصفر، أو تلاشي المجال بين الفعل وردة الفعل تمامًا كما نهاية الحلزون، الذي ما إن يدخل حتى يخرج وما أن يخرج حتى يدخل، وعند اللانهاية يبدأ من جديد، ولكن في الاتجاه المعاكس.. هكذا يستمر حتى اللازوال". لكن "الصورة القوية، لكي تعطي التأثير المطلوب، تحتاج الى مصور ذكي وجريء.. بعيدًا عن تقنيات العدسة والضوء وغيرهما".
الصورة القوية، لاغنى للإعلام عنها، صحيفة (بيلد) أكبر الصحف الألمانية وأوسعها انتشارًا، صدرت العام الماضي دون فوتوغراف. أرادت أن تقول لقرائها "ويحكم لا إعلام من دون صور" ومع ذلك ليس هنا مربط خيلنا.
الفنان الجيزاني يميز بين "صورة صحافية وأخرى إعلامية، هناك اختلاف شكلي وتقني وجمالي واضح جدًا بين النوعين" فالمصور الصحافي عند جيزاني هو "بمثابة قناص فرص ذهبية، يقتنص الهدف المطلوب، ويجب أن يكون الهدف حقيقيًا؛ لو كان وهمًا لكانت الصورة مفتعلة ومفبركة وهذا لا يتطلب مصورًا محترفًا بل إعلاميا محترفا".
الجيزاني الذي التقط يومًا صورة (فازت بجائزة من الاتحاد الأوروبي) ونال على أثرها لقب (المصور الثائر) وهي كما صُنّفت من أصعب الصور التي يمكن أن تلتقط لجمعها ثلاثة متناقضات لبائع الحلوى، الطفل الذكي، في أحد شوارع بغداد تمر قربه آلية عسكرية أميركية، وفي الصورة تظهر أيضًا لافتة كبيرة كتب عليها: "مدرسة الرقص والباليه".
الصورة السياسية، يقول الجيزاني، هي "صورة تشبه إلى حد كبير مكعب (روبيك). لها أوجه مختلفة تدخل في قضايا إنسانية ودينية واجتماعية وتجارية وتقنية وغيرها، وكلها تحت التأثير الديناميكي تمامًا كمكعب روبيك، كل جزء فيه لغز يتطلب حلًا يختلف عن الآخر، وهذا ما تحتاجه الأهداف السياسية من الصورة".
بين براعة اختيار عدسة ستيف ماكوري عام 1984 الأيقونة الأفغانية (جولا)في مخيم اللجوء (ناصر باغ)، وتصدرها غلاف مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) وعدسة الجيزاني للموناليزا السورية (حلا )، وتصدرها أيضا أهم غلاف مجلة تصوير فوتوغرافي في ألمانيا ( (DVF- JORNAL. يرتفع شأن اللغة البصرية ومضمونها الاجتماعي والسياسي، لكن الصورتين بقيتا في نطاق متواضع الفاعلية داخل المجتمعات المضيفة للاجئين، وبقيت فاعليتهما محصورة بين فكي استقبال اللاجئين ولم شمل عائلاتهم. بقي في هذا النطاق ولم يتحول إلى إرادة دولية تضع حدًا للحرب السورية، ليكف هذا البلد عن تصدير اللاجئين، وخلخلة الموازين للمضيف والضيف.
الصورة مفردة إعلامية بامتياز، لكنها مفردة سياسية أكثر، فلو لم تكن هناك مشيئة سياسية عند الأميركان، بالخروج من المستنقع الفيتنامي، الذي كبّدهم خسائر بشرية فاقت قدرتهم على التحمّل، لما فتحوا المجال للصورة، لتكون مُبرّرًا للخروج من البلد في عام 1975. كل ذاك الضخ لصورة الطفل السوري (إيلان)، وعلى مستوى الإعلام الدولي، جاء توظيفًا لأجندة ما. دور الصورة ينطلق من إثارة المشاعر، لإحداث تغييرات في الرأي العام، بمقادير محددة ومدروسة وبذلك تتم عملية الانتقاء، تظهير صورة، وتغييب صور مقتلة.
صورة الطفل السوداني، منحت" كفن كارت" جائزة " Pullitzer " في عام 1994. بعد ثلاثة أشهر، انتحر لهول ما رأى من وحوش المجاعة في جنوب السودان. انتحر احتجاجًا على ماشاهد، وبقي السودان جائعًا ومعوزًا وفقيرًا ومقسمًا، وبقيت الصورة مدرجة في خانات المآسي الإنسانية، التي يقف العالم الأول أمامها مكتوف اليدين.
تكادُ هذه الثنائية الجوهر في قراءة الـ جيزاني للصورة، أن تكونَ محاولة في الوقت ذاته لفهمِ الحياة من العدسة الذكية ومن اختيارِ زاوية الالتقاطة، على أنْ تميل هذه الزاوية للإنساني حين يتعلق الموضوع بالإنسان، حتى لا يكون الكائن البشري حقلاً آخر للتجريب بعد أن استهلكتهُ الحرب، يستهلكه الإعلام، ليكون مادته الحية والمباشرة.
وفاء صبيح
فوتوغراف
صورة إحسان جيزاني
شارك هذا المقال
حجم الخط
تؤرّخ الصورة لنبض هذا العالم، وتؤرخ أيضًا لموته، لكن الصورة عند إحسان الجيزاني، المخرج والمصور العراقي لها آفاق أرحب تتعدى تلك الثنائية (النبض/ الموت)، فهي تتمتع بـ"تأثير سياسي.. هو تأثير السلطة على الرؤية التي هي في الأصل آلية ذهنية يستقبلها العقل.. لتخرج بعدها بمخرجات تختلف قوتها بحسب قوة التأثير السياسي".
الصور أيضًا كائنات حيّة، تتمايز فيما بينها، وتمارس تمييزًا عنصريًا ضد بعضها الآخر. هناك صورة متخلّفة، وأخرى نامية، وثالثة عنصرية، وهذه الأنواع لا تهمُّ صُنّاع السياسة إلا بقدر ما تحقق لهم من مصالح- وهنا أتقاطع مع رؤية الجيزاني،- وإلا فستبقى فرصة إطلالة لهم على الشاشات، لمشاركة المزاج الشعبي في حفلات الاستنكار والتعاطف.
(كيم فوج) الطفلة الفيتنامية، الراكضة، الهاربة، المحروقة بالنابالم الأميركي المصبوب على قريتها، تتصدر قائمة الصور ذات النفوذ، نفوذها تعدّى حصول المصور (نيك أوت) على جائزة" Pullitzer " في عام 1973، بلغت سطوتها حدَّ إنهاء الحرب الأميركية على فيتنام.
لكن أوزان الصور، وصداها، لا تتساوى، ثمة صور لا نفوذ لها، من منكم نسي صورة الطفل السوداني، المصاب بسوء التغذية والهُزال؟ ضمن هذا "الكادر" يقف نسر بحجم الطفل مرتين، ينتظر موته، يكفي أنه رأف بضعفه ولم يلتهمه وهو حي، كما تفعل الضواري، وبذلك يتشابه جميلُ النسر مع جميل البحر في شفقته على الطفل السوري (إيلان) الذي رمى به إلى الشاطئ، لئلا تتلذذ الأسماك بلحمه الغض.
الجيزاني يُفسّر أن "الصورة هنا تقع تحت تأثير السياسة وتكون أداة محركة لها، تعطي بُعدًا للواقع وتمنح الزمن فسحة ليواصل أحداثه. معظم بل أغلبية الصور التي كان لها الحضور القوي على المحركات السياسية هي في الأصل صور إنسانية بحتة جدًا، وهنا يبدأ التغير في الأدوار.. وكأن لقانون نيوتن مرحلة تسمى الصفر، أو تلاشي المجال بين الفعل وردة الفعل تمامًا كما نهاية الحلزون، الذي ما إن يدخل حتى يخرج وما أن يخرج حتى يدخل، وعند اللانهاية يبدأ من جديد، ولكن في الاتجاه المعاكس.. هكذا يستمر حتى اللازوال". لكن "الصورة القوية، لكي تعطي التأثير المطلوب، تحتاج الى مصور ذكي وجريء.. بعيدًا عن تقنيات العدسة والضوء وغيرهما".
الصورة القوية، لاغنى للإعلام عنها، صحيفة (بيلد) أكبر الصحف الألمانية وأوسعها انتشارًا، صدرت العام الماضي دون فوتوغراف. أرادت أن تقول لقرائها "ويحكم لا إعلام من دون صور" ومع ذلك ليس هنا مربط خيلنا.
الفنان الجيزاني يميز بين "صورة صحافية وأخرى إعلامية، هناك اختلاف شكلي وتقني وجمالي واضح جدًا بين النوعين" فالمصور الصحافي عند جيزاني هو "بمثابة قناص فرص ذهبية، يقتنص الهدف المطلوب، ويجب أن يكون الهدف حقيقيًا؛ لو كان وهمًا لكانت الصورة مفتعلة ومفبركة وهذا لا يتطلب مصورًا محترفًا بل إعلاميا محترفا".
الجيزاني الذي التقط يومًا صورة (فازت بجائزة من الاتحاد الأوروبي) ونال على أثرها لقب (المصور الثائر) وهي كما صُنّفت من أصعب الصور التي يمكن أن تلتقط لجمعها ثلاثة متناقضات لبائع الحلوى، الطفل الذكي، في أحد شوارع بغداد تمر قربه آلية عسكرية أميركية، وفي الصورة تظهر أيضًا لافتة كبيرة كتب عليها: "مدرسة الرقص والباليه".
الصورة السياسية، يقول الجيزاني، هي "صورة تشبه إلى حد كبير مكعب (روبيك). لها أوجه مختلفة تدخل في قضايا إنسانية ودينية واجتماعية وتجارية وتقنية وغيرها، وكلها تحت التأثير الديناميكي تمامًا كمكعب روبيك، كل جزء فيه لغز يتطلب حلًا يختلف عن الآخر، وهذا ما تحتاجه الأهداف السياسية من الصورة".
بين براعة اختيار عدسة ستيف ماكوري عام 1984 الأيقونة الأفغانية (جولا)في مخيم اللجوء (ناصر باغ)، وتصدرها غلاف مجلة (ناشيونال جيوغرافيك) وعدسة الجيزاني للموناليزا السورية (حلا )، وتصدرها أيضا أهم غلاف مجلة تصوير فوتوغرافي في ألمانيا ( (DVF- JORNAL. يرتفع شأن اللغة البصرية ومضمونها الاجتماعي والسياسي، لكن الصورتين بقيتا في نطاق متواضع الفاعلية داخل المجتمعات المضيفة للاجئين، وبقيت فاعليتهما محصورة بين فكي استقبال اللاجئين ولم شمل عائلاتهم. بقي في هذا النطاق ولم يتحول إلى إرادة دولية تضع حدًا للحرب السورية، ليكف هذا البلد عن تصدير اللاجئين، وخلخلة الموازين للمضيف والضيف.
الصورة مفردة إعلامية بامتياز، لكنها مفردة سياسية أكثر، فلو لم تكن هناك مشيئة سياسية عند الأميركان، بالخروج من المستنقع الفيتنامي، الذي كبّدهم خسائر بشرية فاقت قدرتهم على التحمّل، لما فتحوا المجال للصورة، لتكون مُبرّرًا للخروج من البلد في عام 1975. كل ذاك الضخ لصورة الطفل السوري (إيلان)، وعلى مستوى الإعلام الدولي، جاء توظيفًا لأجندة ما. دور الصورة ينطلق من إثارة المشاعر، لإحداث تغييرات في الرأي العام، بمقادير محددة ومدروسة وبذلك تتم عملية الانتقاء، تظهير صورة، وتغييب صور مقتلة.
صورة الطفل السوداني، منحت" كفن كارت" جائزة " Pullitzer " في عام 1994. بعد ثلاثة أشهر، انتحر لهول ما رأى من وحوش المجاعة في جنوب السودان. انتحر احتجاجًا على ماشاهد، وبقي السودان جائعًا ومعوزًا وفقيرًا ومقسمًا، وبقيت الصورة مدرجة في خانات المآسي الإنسانية، التي يقف العالم الأول أمامها مكتوف اليدين.
تكادُ هذه الثنائية الجوهر في قراءة الـ جيزاني للصورة، أن تكونَ محاولة في الوقت ذاته لفهمِ الحياة من العدسة الذكية ومن اختيارِ زاوية الالتقاطة، على أنْ تميل هذه الزاوية للإنساني حين يتعلق الموضوع بالإنسان، حتى لا يكون الكائن البشري حقلاً آخر للتجريب بعد أن استهلكتهُ الحرب، يستهلكه الإعلام، ليكون مادته الحية والمباشرة.