رين هانغ: فوتوغرافيا ونصوص وحياة تقود للانتحار
سارة عابدين
فوتوغراف
من صور رين هانغ
شارك هذا المقال
حجم الخط
يقول دافيد لوبروتون في كتابه "أنثروبولوجيا الجسد والحداثة": "تُخصص التصورات الاجتماعية للجسد وضعا محددا في داخل الرمزية العامة للمجتمع. فهي تسمي الأجزاء المختلفة التي تؤلفه والوظائف التي تقوم بها، كما توضح علاقاتها، وتنفذ إلى الداخل غير المرئي للجسد لتودع فيه صورا دقيقة، وتحدد موقعه وسط الكون أو بيئة الجماعة البشرية. إن هذه المعرفة المُطبقة على الجسد هي على الفور معرفة ثقافية، لأن تصورات الجسد والمعارف التي تبلغها تخضع لحالة اجتماعية، ولرؤية للعالم، ولتعريف محدد للشخص داخل هذه الرؤية".
انطلاقا من فكرة الرؤية الشخصية للجسد وللعالم والعلاقة بينهما، يتحرك المصور الصيني الراحل رين هانغ (1987 - 2017) في محاولة لبلورة تصوره الشخصي عن الجسد وعلاقته بالموجودات حوله، وبينما اعتدنا، في الأعمال الفنية، أن تكون المرأة هي موضع النظر، أو ركيزة التأمل الجنسي، والذكر هو حامل نظرة الاشتهاء، نجد في فوتوغرافيا هانغ سحقا تاما لتلك الفكرة، إذ إنه يتعامل مع الجسد الإنساني بشكل مطلق، بدون أي فوارق جندرية، بدون هذا الانتهاك المتعارف عليه لجسد المرأة الذي يحولها في نهاية الأمر إلى سلعة إيروسية مشتهاة جنسيا.
يقول هانغ "أنا لا أفكر في الجندر إلا أثناء ممارسة الجنس". والمتأمل لفوتوغرافيا هانغ لا يشعر بأي اختلافات بيولوجية بين الأجساد داخل صوره، وكأنه يحاول التوثيق لوجود "جسد"، أي جسد، دون هالات قيمية مقدسة، لتبدو شخوصه في نهاية الأمر أقرب لشخوص هائمة، تتموضع في كل صورة من صوره، في محاولات مستمرة للبحث عن المكان المناسب لها.
بالرغم من العري الكامل، والذي يبدو للوهلة الأولى صادما في فوتوغرافيا هانغ، فإن المتفرج حتى بالنظرة الأولى لا يمكنه التعامل مع صور هانغ كأداة لتحريك الغريزة، فهي تثير تساؤلات مختلفة عند المتلقي تجعله بحاجة لأن يكون شريكا في الصورة بوعيه وإدراكه وتاريخه الشخصي، وفكرته المسبقة عن الجسد، كمتلق إيجابي متحرر من الثبات والأنماط الجاهزة في العقل عن فكرة العري. في تلك اللحظة من التحرر يمكن للمتفرج التأثر العميق بصور هانغ، بالشكل الذي ربما يغير فكرته عن جسده وعن علاقته بالجسد العاري بشكل عام، إذ إن الصورة لا يكون لها وجود بدون متلق يسبغ عليها رؤيته الشخصية للحياة.
رؤية رين هانغ
أقام هانغ معارض فردية في أثينا وبانكوك وكوبنهاغن وفرانكفورت ومارسيليا وباريس، غير أنه لم يلق الاحتفاء المناسب في موطنه الأصلي (الصين)، وتم اعتقاله أكثر من مرة على خلفية صوره العارية، التي تعد كسرا لحاجز سرية الجسد وقدسيته في الثقافة الصينية، التي حظرت الصور العارية منذ عام 1949.
يقول هانغ في أحد حواراته "البشر مقيدون بالتقاليد وبمواقفهم المحافظة بخصوص الجسد، يفكرون أنه من الانحطاط والفوضى إظهار ما يعتقدون بخصوصيته. إنهم بشكل عام يكرهون العري هنا، نحن نخفي الجسد في ثقافتنا الصينية، أنا لا أنظر إلى أعمالي باعتبارها من المحرمات، ولا أفكر في السياق الثقافي والسياسي الصيني، ولا أهتم بكسر الحدود أو دفعها، أنا أفعل فقط ما أفعله".
لكن بالرغم من عدم اهتمامه بالسياقات المختلفة، وعدم محاولاته لدفع الحدود، لم يمنع ذلك حقيقة أن صوره وأفكاره ساعدت على كسر حدة المحرمات الاجتماعية الصينية حيال العري، وقدمت صورة معاصرة شديدة الاختلاف عن الصورة المتداولة لفنون الصين المحافظة خارجيا، شديدة الحساسية في باطن الأمر.
أسلوب هانغ
لم يبدأ هانغ التصوير بشكل احترافي، لكنه بدأ في تصوير أصدقائه أثناء دراسته للدعاية والإعلان للتغلب على الملل الذي كان يشعر به. يستخدم هانغ الجسد كعنصر تركيبي متخليا في بعض الأحيان عن الروح البشرية في الجسد، محولا إياه إلى أشكال متداخلة، عن طريق الوضعيات والحركات التي يختارها لشخوصه أثناء جلسات التصوير، فالجسد بالنسبة لهانغ بناء رمزي وليس حقيقة في ذاتها، بالإضافة إلى الحالة والجغرافيا التي يضع فيها هانغ شخوصه، والتي تحيلنا إلى ما وراء الصورة، والأحلام التي تستحضر من خلالها، لتتحول الصورة إلى تجربة شعورية، تحدث اتصالا بين المتلقي وما في داخل الصورة، يمكن أن يحيل إلى الموت والوحدة والألم والعزلة والاغتراب، وحدة هانغ كفنان واغترابه عن عالمه المحيط، ووحدة الإنسان بشكل عام، في قلب مجتمع كبير لا يؤمن بالفردية، ويحاول تنميط كل شعور وفكرة لتتحول إلى سلعة جماعية، وهو الأمر الذي يحاول الفن الحديث بكل فرديته القضاء عليه والترسيخ لمفهوم جديد للتعبير الفردي.
لم يستعن هانغ بالغرباء في صوره، لكنه استعان بأصدقائه، ليصورهم في شقته الخاصة ببكين أو في أماكن الطبيعة المفتوحة، واستخدم الجسم البشري مع عناصر أخرى في الصورة، تنتمي لهانغ بشكل خاص، لكنها في الوقت نفسه لا تنفصل عن عناصر اللوحات الصينية التقليدية القديمة، مثل الطيور والفراشات والورود والتشكيلات النباتية والأسماك والمسابح والحدائق والبرك المائية، التي تتداخل بشكل مثير ومخاتل لتشكل مع الجسد البشري في وسط الطبيعة طوبوغرافيا بصرية جديدة تخلق عالما موازيًا، يقف على الحافة بين الفن والمواد الإباحية، في صور ديناميكية ولامعة تخفي وراءها مشاعر مضطربة تتأرجح بين القلق والعزلة والوحدة، كأنها لقطات من حياة موازية، تحتفي بالجسد والإنسانية والعلاقات بين البشر بغض النظر عن الهويات الجندرية، أو التحميلات الجنسية التي ربما تمثل طبقة سطحية جدا من التلقي البصري لصور هانغ.
ذلك التأويل الأولي الذي ربما يؤججه بشكل ما تواجد اللون الأحمر بقوة في أغلب الصور، في طلاء أظافر، أو الكرز، البطيخ، الحقيبة، المفرش المخملي. من هنا يتواصل في لوحاته ظهور الثقافة الصينية القديمة بشكل ما بعد حداثي شديد المعاصرة والفردية، بطريقة تقدم البشر دون أحكام مسبقة، أو محاولات تذلل للحصول على القبول المجتمعي.
سنوات مع الاكتئاب
عانى هانغ طويلا من الاكتئاب الذي كان يعبر عنه بنصوص مفتوحة وقصائد كان ينشرها على موقعه الإلكتروني على مدار 10 سنوات، بداية من عام 2007 وحتى عام 2016. وكان الاكتئاب سببا في انتحاره من بناية شاهقة في بكين في 24 فبراير/ شباط 2017 وهو في التاسعة والعشرين من عمره.
يبدو أنه مع تكرار نوبات اكتئابه أصبح متمكنا من مراقبة آلامه، التي أصبحت أكثر تجريدية مع الوقت، واكتسب هانغ قدرة على التجوال داخل عقله ومشاعره لتسجيل حالته النفسية في سطور ونصوص، يتجلى من خلالها كم كانت الحياة عبئا عليه، وكم كان يقاتل من أجل الاستمرار بها، لتبدو نصوصه في نهاية الأمر محاولات مستمرة للبحث عن معنى الوجود الذي أصبح غير مؤكد وغير واضح بالنسبة له.
من خلال نصوصه ويومياته نشعر كيف كان كل قرار بسيط وتافه في حياته يشكل مأساة وجودية عظيمة، لتصبح حياته سلسلة من العذابات المستمرة، يسجلها في يومياته، التي ربما تمثل مقدمة لانتحاره، أو رثاء شخصي طويل من الفنان لنفسه، وكأنه على مدار سنوات يحفر من خلال صوره ونصوصه نفقا طويلا يصل به إلى موته المختار.
بالرغم من النجاح الكبير الذي حققه هانغ، وخبر انتحاره الذي كان مفاجأة مؤلمة، فإن المتأمل لنصوص هانغ وصوره بعمق، يجد كل معاني صعوبة الحياة وثقلها تنضح من بين سطورها، وصعوبة النضال اليومي ضد الاكتئاب للاستمرار في الحياة، نجد لها صدى كبيرا على وجوه الشخوص المتموضعين في صوره، وجوه مغتربة وشاخصة ووحيدة، ليصبح انتحاره في نهاية الأمر حتميا لوضع حد لعزلته العميقة، ولكل هذا الألم في حياته.
من يوميات ونصوص هانغ
هل أنا جمل أم صبار؟ أجلس في منتصف الأريكة. أغطية الأريكة الكريمية اللون تشبه صحراء. لم أشعر بتلك المشاعر من قبل. جمل بلا سنام، صبار بلا شوك؟ أنا حقا لا أريد الخروج. أصبح في الخارج شخصا لطيفا أكثر مما أعرف نفسي. لا أرغب في حضور أي تجمعات. عندما تكون الحياة مفعمة بالطاقة والحيوية، أخشى من أن أكون هادئا تماما، وعندما تتحول إلى الهدوء، أخشى من صراخي.
مجرد نصف كوب من الشراب يجعلني أخشى من الانزلاق في أي وقت. ليصبح التدحرج على الدرج مثل ممارسة التمارين الرياضية. في لحظات مثل هذه لا شيء أكثر راحة من الشعور باللونين الأزرق والأسود لكل ندبة على جسدك. كل علامة أو ندبة هي حبة دواء. بمجرد أن يصبح للألم شكلا ملموسا، يتوقف شعوري بالخوف.
****
أفضل ألا أغادر بيتي
كل يوم قبل أن أفتح الباب
أرتدي ثوبا مختارا بعناية
أتطلع في المرآة
أشعر بأنني ذاهب إلى جنازتي.
****
الطيور لا تموت فقط عندما تسقط أثناء الطيران
تموت في الهواء
مثل حيوان محنط يطفو على سطح الماء
البشر لا يموتون فقط عندما يسقطون أثناء السير
يموتون في انتظار أضواء إشارات المرور
منتصبين بالرغم من الموت
مثل شجرة ميتة في الشتاء
لم ينتبه أحد إليها
التفكير بك..
يجلب لي المزيد من الألم
***
أرق..
في المساء أغلق عيني
أرى نفسي أقتل صوري بطرق مختلفة
أشعر بالخوف؛ أضع كل الآلات الحادة في درج مغلق
ما عدا مقص كبير جدا، لم أستطع وضعه هناك
في الحال، ألقي به من النافذة مع مفتاح الدرج المغلق
أبقى في سريري متعرقا، ربما أكون مصابا بالحمى
أنزف كأنما كل جزء في جسدي هو جرح نازف
أفكر أن كل إنسان هو جرح هائل
أتمنى لو أضم نفسي بنفسي، وأبتلع جرعة أخيرة من الحبوب.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
سارة عابدين
فوتوغراف
من صور رين هانغ
شارك هذا المقال
حجم الخط
يقول دافيد لوبروتون في كتابه "أنثروبولوجيا الجسد والحداثة": "تُخصص التصورات الاجتماعية للجسد وضعا محددا في داخل الرمزية العامة للمجتمع. فهي تسمي الأجزاء المختلفة التي تؤلفه والوظائف التي تقوم بها، كما توضح علاقاتها، وتنفذ إلى الداخل غير المرئي للجسد لتودع فيه صورا دقيقة، وتحدد موقعه وسط الكون أو بيئة الجماعة البشرية. إن هذه المعرفة المُطبقة على الجسد هي على الفور معرفة ثقافية، لأن تصورات الجسد والمعارف التي تبلغها تخضع لحالة اجتماعية، ولرؤية للعالم، ولتعريف محدد للشخص داخل هذه الرؤية".
انطلاقا من فكرة الرؤية الشخصية للجسد وللعالم والعلاقة بينهما، يتحرك المصور الصيني الراحل رين هانغ (1987 - 2017) في محاولة لبلورة تصوره الشخصي عن الجسد وعلاقته بالموجودات حوله، وبينما اعتدنا، في الأعمال الفنية، أن تكون المرأة هي موضع النظر، أو ركيزة التأمل الجنسي، والذكر هو حامل نظرة الاشتهاء، نجد في فوتوغرافيا هانغ سحقا تاما لتلك الفكرة، إذ إنه يتعامل مع الجسد الإنساني بشكل مطلق، بدون أي فوارق جندرية، بدون هذا الانتهاك المتعارف عليه لجسد المرأة الذي يحولها في نهاية الأمر إلى سلعة إيروسية مشتهاة جنسيا.
يقول هانغ "أنا لا أفكر في الجندر إلا أثناء ممارسة الجنس". والمتأمل لفوتوغرافيا هانغ لا يشعر بأي اختلافات بيولوجية بين الأجساد داخل صوره، وكأنه يحاول التوثيق لوجود "جسد"، أي جسد، دون هالات قيمية مقدسة، لتبدو شخوصه في نهاية الأمر أقرب لشخوص هائمة، تتموضع في كل صورة من صوره، في محاولات مستمرة للبحث عن المكان المناسب لها.
بالرغم من العري الكامل، والذي يبدو للوهلة الأولى صادما في فوتوغرافيا هانغ، فإن المتفرج حتى بالنظرة الأولى لا يمكنه التعامل مع صور هانغ كأداة لتحريك الغريزة، فهي تثير تساؤلات مختلفة عند المتلقي تجعله بحاجة لأن يكون شريكا في الصورة بوعيه وإدراكه وتاريخه الشخصي، وفكرته المسبقة عن الجسد، كمتلق إيجابي متحرر من الثبات والأنماط الجاهزة في العقل عن فكرة العري. في تلك اللحظة من التحرر يمكن للمتفرج التأثر العميق بصور هانغ، بالشكل الذي ربما يغير فكرته عن جسده وعن علاقته بالجسد العاري بشكل عام، إذ إن الصورة لا يكون لها وجود بدون متلق يسبغ عليها رؤيته الشخصية للحياة.
رؤية رين هانغ
أقام هانغ معارض فردية في أثينا وبانكوك وكوبنهاغن وفرانكفورت ومارسيليا وباريس، غير أنه لم يلق الاحتفاء المناسب في موطنه الأصلي (الصين)، وتم اعتقاله أكثر من مرة على خلفية صوره العارية، التي تعد كسرا لحاجز سرية الجسد وقدسيته في الثقافة الصينية، التي حظرت الصور العارية منذ عام 1949.
يقول هانغ في أحد حواراته "البشر مقيدون بالتقاليد وبمواقفهم المحافظة بخصوص الجسد، يفكرون أنه من الانحطاط والفوضى إظهار ما يعتقدون بخصوصيته. إنهم بشكل عام يكرهون العري هنا، نحن نخفي الجسد في ثقافتنا الصينية، أنا لا أنظر إلى أعمالي باعتبارها من المحرمات، ولا أفكر في السياق الثقافي والسياسي الصيني، ولا أهتم بكسر الحدود أو دفعها، أنا أفعل فقط ما أفعله".
لكن بالرغم من عدم اهتمامه بالسياقات المختلفة، وعدم محاولاته لدفع الحدود، لم يمنع ذلك حقيقة أن صوره وأفكاره ساعدت على كسر حدة المحرمات الاجتماعية الصينية حيال العري، وقدمت صورة معاصرة شديدة الاختلاف عن الصورة المتداولة لفنون الصين المحافظة خارجيا، شديدة الحساسية في باطن الأمر.
أسلوب هانغ
لم يبدأ هانغ التصوير بشكل احترافي، لكنه بدأ في تصوير أصدقائه أثناء دراسته للدعاية والإعلان للتغلب على الملل الذي كان يشعر به. يستخدم هانغ الجسد كعنصر تركيبي متخليا في بعض الأحيان عن الروح البشرية في الجسد، محولا إياه إلى أشكال متداخلة، عن طريق الوضعيات والحركات التي يختارها لشخوصه أثناء جلسات التصوير، فالجسد بالنسبة لهانغ بناء رمزي وليس حقيقة في ذاتها، بالإضافة إلى الحالة والجغرافيا التي يضع فيها هانغ شخوصه، والتي تحيلنا إلى ما وراء الصورة، والأحلام التي تستحضر من خلالها، لتتحول الصورة إلى تجربة شعورية، تحدث اتصالا بين المتلقي وما في داخل الصورة، يمكن أن يحيل إلى الموت والوحدة والألم والعزلة والاغتراب، وحدة هانغ كفنان واغترابه عن عالمه المحيط، ووحدة الإنسان بشكل عام، في قلب مجتمع كبير لا يؤمن بالفردية، ويحاول تنميط كل شعور وفكرة لتتحول إلى سلعة جماعية، وهو الأمر الذي يحاول الفن الحديث بكل فرديته القضاء عليه والترسيخ لمفهوم جديد للتعبير الفردي.
لم يستعن هانغ بالغرباء في صوره، لكنه استعان بأصدقائه، ليصورهم في شقته الخاصة ببكين أو في أماكن الطبيعة المفتوحة، واستخدم الجسم البشري مع عناصر أخرى في الصورة، تنتمي لهانغ بشكل خاص، لكنها في الوقت نفسه لا تنفصل عن عناصر اللوحات الصينية التقليدية القديمة، مثل الطيور والفراشات والورود والتشكيلات النباتية والأسماك والمسابح والحدائق والبرك المائية، التي تتداخل بشكل مثير ومخاتل لتشكل مع الجسد البشري في وسط الطبيعة طوبوغرافيا بصرية جديدة تخلق عالما موازيًا، يقف على الحافة بين الفن والمواد الإباحية، في صور ديناميكية ولامعة تخفي وراءها مشاعر مضطربة تتأرجح بين القلق والعزلة والوحدة، كأنها لقطات من حياة موازية، تحتفي بالجسد والإنسانية والعلاقات بين البشر بغض النظر عن الهويات الجندرية، أو التحميلات الجنسية التي ربما تمثل طبقة سطحية جدا من التلقي البصري لصور هانغ.
ذلك التأويل الأولي الذي ربما يؤججه بشكل ما تواجد اللون الأحمر بقوة في أغلب الصور، في طلاء أظافر، أو الكرز، البطيخ، الحقيبة، المفرش المخملي. من هنا يتواصل في لوحاته ظهور الثقافة الصينية القديمة بشكل ما بعد حداثي شديد المعاصرة والفردية، بطريقة تقدم البشر دون أحكام مسبقة، أو محاولات تذلل للحصول على القبول المجتمعي.
سنوات مع الاكتئاب
عانى هانغ طويلا من الاكتئاب الذي كان يعبر عنه بنصوص مفتوحة وقصائد كان ينشرها على موقعه الإلكتروني على مدار 10 سنوات، بداية من عام 2007 وحتى عام 2016. وكان الاكتئاب سببا في انتحاره من بناية شاهقة في بكين في 24 فبراير/ شباط 2017 وهو في التاسعة والعشرين من عمره.
يبدو أنه مع تكرار نوبات اكتئابه أصبح متمكنا من مراقبة آلامه، التي أصبحت أكثر تجريدية مع الوقت، واكتسب هانغ قدرة على التجوال داخل عقله ومشاعره لتسجيل حالته النفسية في سطور ونصوص، يتجلى من خلالها كم كانت الحياة عبئا عليه، وكم كان يقاتل من أجل الاستمرار بها، لتبدو نصوصه في نهاية الأمر محاولات مستمرة للبحث عن معنى الوجود الذي أصبح غير مؤكد وغير واضح بالنسبة له.
من خلال نصوصه ويومياته نشعر كيف كان كل قرار بسيط وتافه في حياته يشكل مأساة وجودية عظيمة، لتصبح حياته سلسلة من العذابات المستمرة، يسجلها في يومياته، التي ربما تمثل مقدمة لانتحاره، أو رثاء شخصي طويل من الفنان لنفسه، وكأنه على مدار سنوات يحفر من خلال صوره ونصوصه نفقا طويلا يصل به إلى موته المختار.
بالرغم من النجاح الكبير الذي حققه هانغ، وخبر انتحاره الذي كان مفاجأة مؤلمة، فإن المتأمل لنصوص هانغ وصوره بعمق، يجد كل معاني صعوبة الحياة وثقلها تنضح من بين سطورها، وصعوبة النضال اليومي ضد الاكتئاب للاستمرار في الحياة، نجد لها صدى كبيرا على وجوه الشخوص المتموضعين في صوره، وجوه مغتربة وشاخصة ووحيدة، ليصبح انتحاره في نهاية الأمر حتميا لوضع حد لعزلته العميقة، ولكل هذا الألم في حياته.
من يوميات ونصوص هانغ
هل أنا جمل أم صبار؟ أجلس في منتصف الأريكة. أغطية الأريكة الكريمية اللون تشبه صحراء. لم أشعر بتلك المشاعر من قبل. جمل بلا سنام، صبار بلا شوك؟ أنا حقا لا أريد الخروج. أصبح في الخارج شخصا لطيفا أكثر مما أعرف نفسي. لا أرغب في حضور أي تجمعات. عندما تكون الحياة مفعمة بالطاقة والحيوية، أخشى من أن أكون هادئا تماما، وعندما تتحول إلى الهدوء، أخشى من صراخي.
مجرد نصف كوب من الشراب يجعلني أخشى من الانزلاق في أي وقت. ليصبح التدحرج على الدرج مثل ممارسة التمارين الرياضية. في لحظات مثل هذه لا شيء أكثر راحة من الشعور باللونين الأزرق والأسود لكل ندبة على جسدك. كل علامة أو ندبة هي حبة دواء. بمجرد أن يصبح للألم شكلا ملموسا، يتوقف شعوري بالخوف.
****
أفضل ألا أغادر بيتي
كل يوم قبل أن أفتح الباب
أرتدي ثوبا مختارا بعناية
أتطلع في المرآة
أشعر بأنني ذاهب إلى جنازتي.
****
الطيور لا تموت فقط عندما تسقط أثناء الطيران
تموت في الهواء
مثل حيوان محنط يطفو على سطح الماء
البشر لا يموتون فقط عندما يسقطون أثناء السير
يموتون في انتظار أضواء إشارات المرور
منتصبين بالرغم من الموت
مثل شجرة ميتة في الشتاء
لم ينتبه أحد إليها
التفكير بك..
يجلب لي المزيد من الألم
***
أرق..
في المساء أغلق عيني
أرى نفسي أقتل صوري بطرق مختلفة
أشعر بالخوف؛ أضع كل الآلات الحادة في درج مغلق
ما عدا مقص كبير جدا، لم أستطع وضعه هناك
في الحال، ألقي به من النافذة مع مفتاح الدرج المغلق
أبقى في سريري متعرقا، ربما أكون مصابا بالحمى
أنزف كأنما كل جزء في جسدي هو جرح نازف
أفكر أن كل إنسان هو جرح هائل
أتمنى لو أضم نفسي بنفسي، وأبتلع جرعة أخيرة من الحبوب.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب