في وداع نيراز سعيد: الصورة وتواطؤ المكان
محمود الصّباغ
فوتوغراف
صورة "الملوك الثلاثة" للمصور الراحل نيراز سعيد
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى من ينظر هؤلاء "المهمشون" وباسم من؟ بم يفكرون؟ من القادر على الرؤية أصلًا، ومن يتيح لهم ولنا "زاوية" الرؤية؟ من يمنحنا حق الرؤية؟ وهل هو منح أم اكتساب؟ أين تكمن قوة الصورة؟ هل نستطيع النظر للصورة بحيادية للوصول إلى تأويلها، أم أن هذا الأمر في المواقف الكبرى (كالحرب) ليس سوى ترف لا طائل منه؟
ليس من السهل مقاربة الأطر التي تحدد زوايا رؤيتنا، أي ما ينبغي لنا أن نراه وما لا ينبغي، في سياق مشهد بصري من المفترض أنه يقدم الحقائق كلحظات مفصولة عن سياقاتها (لا سيما السياسية)؛ وخاصة في وقت الحرب، حيث تبرز هشاشة الحياة العارية؛ فنبقى ندور وندور ونستهلك المشهد البصري بحثًا عن المعنى الذي بدوره سيساهم في حال وجوده باختزال عتبة الألم ليتحول إلى سردية توفر لنا المادة الأولية لفهم الحدث.
وللوصول "تقنيًا" إلى ذلك ينبغي للصورة تحقيق بعض المعايير لتكون مقنعة للمتلقي ومفيدة للتأويل، فصورة الحرب لا تعني أن من التقط الصورة هو محارب. الصورة في الحرب تحمل وعيا سياسيا له صلة بالحدث؛ فأسوأ ما في الحرب- عدا عن الضحايا- تحولها إلى صورة تطارد "وتطرد" جميع الصور؛ وانقسامها إلى صور"نا" و صور"هم"؛ قتلانا وقتلاهم؛ فهل هذا يعبر عن القوة الأخلاقية للصورة، التي تعكس نرجسيتنا في أن نرى ونرفض ذلك الشعور الذي يتملكنا بالرضا والراحة بعد تأملنا للصورة؟ أليس هذا في أحد معانيه تدميرا ذاتيا كاملا للقدرة على الشعور بالغضب في وجه المعاناة الإنسانية؟ والاعتقاد بأن أي ألم نعانيه يسوغ لنا القول إن هذا الألم لا يضاهيه أي ألم آخر؟ وسنلجأ إلى تصور أخلاقي عن الآخرين بوصفهم أشخاصًا "لا يرون" في خضم هذه الرؤية للصورة، وعدم الرؤية تلك تكون شرطا للرؤية لنا، تصبح معيارا بصريا ويمتد هذا المعيار ليصبح "قوميا" / "وطنيا" نندهش حين لا ينفعل غيرنا مثلما ننفعل ونتفاعل نحن حين رؤيتنا للصورة، وهذا معيار يمكننا أن نقرأه في الإطار بوصفه صورة مثلما هو يؤدي إلى الإنكار أيضا وفقًا لتحديد الرموز القابلة للتمثيل والتي ترتبط بمعايير أوسع تتحدد بموجبها الأسئلة حول الإنسانية أو التجرد من الإنسانية. وبالتالي تضعنا الصور ضمن الإطار حتى في تجسيدها للبراءة أو نقيضها، تقودنا نحو زمانها ومكانها، تفرض سلطتها علينا وتضللنا أحيانا لصالحها. وهذا الارتباط بين الموت والصورة يطارد جميع صور البشر، فالمحددات التي نطلبها للعيش لا تفرض قيودًا فقط لما "يمكن" أن نسمع، أو نقرأ، أو نشاهد أو نعرف أو نشعر، بل تهيمن قيودها على صورة "الآخر" على ضحايا الصورة "نحن" و"هم"، وربما نتساءل بنوع من السذاجة المتعمدة: كيف ماتوا؟ كم عددهم؟ ومن هم وما هو انتماؤهم؟ ما هو آخر ما خطر ببالهم؟ ما هي آخر "صورة" في ذهنهم؟ هل نتحدث هنا عن سياق ذاتي ضيق ومضلل؟ هل نبرر ذهول حواسنا هنا بأن نشيح بوجوهنا بعيدًا؟ أم أن الحديث يقع فعلًا في إطار السرد الذي نقدمه في مقابل المشهد البصري للتعبير عن المعاناة التي تظهرها الصورة؟ وسنغرق أكثر لو حاولنا ثني الزمن لأن الصورة هي زمن لكنه مستو يمكن قياسه وبالتالي تصلح الصورة لأن تكون جملة مقارنة بمعنى ما. الصورة ثابتة أم متحركة هي حقيقة، الصورة في تمثلنا لها هي حقيقة لا تقع خارج التأويل، هي نافذة تتيح فرصة نادرة للتأمل، وتساهم في تشكيل موقفنا من الحدث، وربما هذه هي وظيفة الصورة.
هي الصورة التي تفتح كل الأبواب المغلقة بما يخدم رؤيتنا الخاصة للتأويل، فالحرب وحدها، بوصفها كارثة، تقربنا من الموت، بل ربما تجسده أمامنا كائنًا نحاوره، نجادل عبثيته وتسلطه وحياديته.
سيغيب صاحب الصورة عن المشهد، عن الإطار، لتبقى صورته تحدق فينا أكثر مما نحدق فيها، فنيراز سعيد، ابن مخيم اليرموك والذي عاش الحصار حتى وقت قريب، لم يحمل سلاحا داخل المخيم ولم ينخرط في أجندات الأطراف المتصارعة، وهو يقول "لم أصور من أجل تغليب وجهة نظر على أخرى، ولا من أجل التهويل أو التقليل من أي حدث، فالصورة هنا لا تحمل سياقات ذاتية أو تساؤلات مضللة، بل هي تقع في صلب السردية التي يكون المشهد البصري فيها معادلا موضوعيا للحدث في إبراز حجم المعاناة".
كارثة اليرموك:
"لسنا مجرّد أرقام"
يقول نيراز في هذا الجانب "ما دفعني للتصوير منذ البداية وحتى الآن، هو حجم الكارثة الإنسانية التي حصلت في اليرموك وفي المناطق المجاورة له، كارثة لن تشفى منها الأجيال القادمة، معاناة تطول". كما تقودنا الصورة، من خلال سطوتها على عقولنا وانغماسنا في الكتلة البصرية التي تشكلها، نحو التساؤل عن الموقف الحقيقي للمصور. ماذا يريد أن يقول هنا؟ كيف يمكن للصورة أن تمتلك تلك القدرة الهائلة على تدمير منطقنا المتماسك، أو الذي نظن أنه متماسك؟ كيف يمكن للصورة أن تنقل لنا- عبر كيميائها الخاصة- كل هذا الألم، الذي لا يضاهيه أي ألم؟ لدرجة تصل بالبعض بنا إلى حد الإنكار، إنكار هذا الألم وتسطيح كامل لقدرتنا على الشعور بالغضب. ولكن لنيراز رأيًا هنا يجعلنا نفيق من ذهولنا وشرود حواسنا تجاه الصورة حين يقول "اعتبرت نفسي حاملًا لرسائل الناس العاديين والمحاصرين، وأخذت على عاتقي نقل معاناتهم للعالم الخارجي، كما هي، دون تزوير أو بهرجة، أو حتى استخفاف".. يلقي بنا نيراز بعيدا نحو واقع جديد بدأ يتشكل. نحدق في صوره وعوالمه وشخوصه ونبقى ندور حول الفكرة، تستهلكنا السردية البصرية بطريقة مجانية أحيانا وبدون اكتراث أحيانا أخرى، لكن نيراز ينهرنا بصوره حين يقول "لسنا مجرد أرقام".
تخبرنا الصورة بوضوح لا يرقى له الشك عن المعاناة. فهل هذا يعبر عن القوة الأخلاقية للصورة؟ تلك القوة التي تنعكس عميقا في وجداننا في أن نرى ونرفض أو نقبل ما تعرضه علينا السردية البصرية؟ ففي مكان معروف في مخيم اليرموك يدعى "ساحة الريجة" أوقفت عدسة نيراز سعيد الزمن، ثلاثة أطفال يستغرقهم التعب والإرهاق. أشقاء ثلاثة ينتظرون هناك السماح لهم بمغادرة المخيم المحاصر لتلقي العلاج الطبي (يسمي نيراز الصورة باسم "الملوك الثلاثة"). يحاول نيراز من خلال الصورة أن يجيب على ما يمكن أن تخلقه من أسئلة في ذهن المتلقي فيقول "أرى أن الصورة الحقيقية في مخيم اليرموك كانت أصدق من الكلمة، لذلك اخترت أن ألتقط الحالة في مخيم اليرموك من منظور آخر. وهو ما بعد الحدث... في الوقت الذي وُجهت فيه الكاميرات في المخيم إلى الأحداث العامة، وجهت عدستي تجاه التفاصيل الصغيرة التي تشكل حياة المخيم المحاصر". من هنا يبدأ نيراز في خلق مشهدية جديدة لسردية الحصار، بدءًا من التفاصيل الصغيرة "حيث يكمن الشيطان" وصولا إلى مقاربات الفضاء والمكان.. المكان كمقولة تحليلية بوصفه "الوطن المحمول"، حيث يفتقر اللاجئ الفلسطيني في المخيم إلى "إقليم" حقيقي أصيل وما يولد ذلك من صور نمطية وانطباعات عن الفلسطيني غير خافية وهي متداخلة بصورة معقدة مع المحيط العام.. فإذا كان الوضع الفلسطيني يمثل حساسية خاصة فكيف الحال مع مخيم بحجم اليرموك الذي لم يعتد سكانه على تقديم الشهداء سوى في سبيل قضيتهم المركزية، ولم يدر في خلدهم ذات يوم أن تتضاعف مأساتهم أضعاف غيرهم؟ ربما لم يكن يعلم نيراز أنه بتجوله في أزقة المخيم والتقاطه ليوميات الحصار وحساسيته إنما يؤبد المشهد كمكان ويثبته زمانيًا حين تدور عدسته تبحث في الوجوه المتعبة هناك التي لم يستطع موظفو الفصائل الفلسطينية وسواهم تخفيف معاناة سكان المخيم ..عدسة نيراز هي التي كسرت الحصار ونقلت صور الناس.
لا شك أن الصورة تحمل دلالات أخلاقية تفوق كثيرا الدلالات السياسية، وهي بذلك تطالبنا بأن ننظر للمكان، أي المخيم، بوصفه فردوسًا مفقودًا وليس باعتباره غيتو، حتى لو استخدم نيراز تقنية الأبيض والأسود فقط؛ ذلك يعود لرؤية نيراز نفسه، فهو يقول عن سبب اختياره هذا "أنا أرى أن اليرموك والحصار قد أتعبنا، وأطفأ السواد والعتم بريق الحياة داخلنا، حتى تُرى الوجوه وكأن السواد يملؤها".. إن الأسود والأبيض، كما يقول نيراز، هما انعكاس لواقع الحال اليوم في سورية وفي اليرموك تحديدًا، حيث الصراع بين الحياة والموت، الحب والحقد، والتفاؤل والتشاؤم أو حالة التشاؤل - كما يسميها الروائي الراحل إميل حبيبي.
وربما هذا ما سوف يحرض فينا الاستجابة للصورة من الناحية الأخلاقية للنظر والتأمل والتعمق في معاناة الآخرين، وهذا ما استطاع نيراز بعدسته المدهشة أن يسمح لنا بتمثل المحاصرين والتعرف على معاناتهم عن كثب، لنكون قادرين في نهاية المطاف على صياغة انتقاداتنا الأخلاقية التي تستجيب عموما لمنطق تحليلاتنا السياسية، وهو بهذا لا يبتعد عن الفضاء المعطى- الفضاء السوري في العموم- الذي يشكل فيه المخيم تفصيلًا صغيرًا عند المقارنة.
"المهمشون موضوع صورتي"
يشير نيراز- ربما بمواربة مقصودة- إلى الانخراط الفلسطيني المباشر في الحدث السوري منذ البداية، والضريبة التي سيدفعها الفلسطيني نتيجة موقفه هذا، مما يسمح لنا بالقول إن فضاء المخيم هو فضاء فلسطيني بالمطلق مثلما هو فضاء سوري بالمطلق أيضا، فكاميرا نيراز ليست كاميرا صحافية مأجورة تتوقف عند الحدث ولا تتعداه بل هي تطلب منا - بل ربما تطالبنا- أن نتعمق أكثر في المأساة الحاصلة، أن نعيش لحظاتها الموثقة بالصورة.
يقول نيراز "غفل الإعلاميون داخل المخيم عن المعاناة الحقيقية للناس، مثلا طغى عليهم حدث إدخال المعونات إلى المخيم، في الوقت الذي ما زال الكثير من المهمشين يموتون جوعا في بيوتهم. هؤلاء المهمشون هم موضوع صورتي". فمأساة اليرموك ليست في الجوع أو الحصار أو المياه والكهرباء، بل هي مأساة شعب، صرخة إنسان، وهي جزء من مصفوفة مآسي الفلسطيني الإنسان والقضية، وهو ما يؤكده نيراز بقوله "لا يوجد في المخيم اليوم عائلة كاملة، كنت أشعر في كل صورة لعائلة فلسطينية أن هناك بين الوجوه خيالًا لشخص مفقود، لذلك تجد أن الإضاءة الخافتة تغلب على صوري".
إن مصفوفة القوة البصرية للصورة، التي تؤسس لاختيارات وتفضيلات، وتحفيزات وتحيّزات، واحتياجات، ورغبات...إلخ هي من ستكتب قصة نجاحها حين تتعدد مفرداتها فتستحيل إلى أيقونة مرنة وفي ذات الوقت إلى رمز غير قابل للتطويع. هذا هو جوهر النداء الأصلي للصورة. وهو ما يقوله نيراز بلغة أخرى: "...هناك دائما أمل. مرت على مخيم اليرموك ظروف صعبة للغاية. لكنها انتهت وبقي الفلسطيني يحارب ليعيش، فهو شعب يقدّر الحياة ويستحقها، ويرى رغم كل ما يمرّ به أن غدًا سيكون أفضل".
محمود الصّباغ
فوتوغراف
صورة "الملوك الثلاثة" للمصور الراحل نيراز سعيد
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى من ينظر هؤلاء "المهمشون" وباسم من؟ بم يفكرون؟ من القادر على الرؤية أصلًا، ومن يتيح لهم ولنا "زاوية" الرؤية؟ من يمنحنا حق الرؤية؟ وهل هو منح أم اكتساب؟ أين تكمن قوة الصورة؟ هل نستطيع النظر للصورة بحيادية للوصول إلى تأويلها، أم أن هذا الأمر في المواقف الكبرى (كالحرب) ليس سوى ترف لا طائل منه؟
ليس من السهل مقاربة الأطر التي تحدد زوايا رؤيتنا، أي ما ينبغي لنا أن نراه وما لا ينبغي، في سياق مشهد بصري من المفترض أنه يقدم الحقائق كلحظات مفصولة عن سياقاتها (لا سيما السياسية)؛ وخاصة في وقت الحرب، حيث تبرز هشاشة الحياة العارية؛ فنبقى ندور وندور ونستهلك المشهد البصري بحثًا عن المعنى الذي بدوره سيساهم في حال وجوده باختزال عتبة الألم ليتحول إلى سردية توفر لنا المادة الأولية لفهم الحدث.
وللوصول "تقنيًا" إلى ذلك ينبغي للصورة تحقيق بعض المعايير لتكون مقنعة للمتلقي ومفيدة للتأويل، فصورة الحرب لا تعني أن من التقط الصورة هو محارب. الصورة في الحرب تحمل وعيا سياسيا له صلة بالحدث؛ فأسوأ ما في الحرب- عدا عن الضحايا- تحولها إلى صورة تطارد "وتطرد" جميع الصور؛ وانقسامها إلى صور"نا" و صور"هم"؛ قتلانا وقتلاهم؛ فهل هذا يعبر عن القوة الأخلاقية للصورة، التي تعكس نرجسيتنا في أن نرى ونرفض ذلك الشعور الذي يتملكنا بالرضا والراحة بعد تأملنا للصورة؟ أليس هذا في أحد معانيه تدميرا ذاتيا كاملا للقدرة على الشعور بالغضب في وجه المعاناة الإنسانية؟ والاعتقاد بأن أي ألم نعانيه يسوغ لنا القول إن هذا الألم لا يضاهيه أي ألم آخر؟ وسنلجأ إلى تصور أخلاقي عن الآخرين بوصفهم أشخاصًا "لا يرون" في خضم هذه الرؤية للصورة، وعدم الرؤية تلك تكون شرطا للرؤية لنا، تصبح معيارا بصريا ويمتد هذا المعيار ليصبح "قوميا" / "وطنيا" نندهش حين لا ينفعل غيرنا مثلما ننفعل ونتفاعل نحن حين رؤيتنا للصورة، وهذا معيار يمكننا أن نقرأه في الإطار بوصفه صورة مثلما هو يؤدي إلى الإنكار أيضا وفقًا لتحديد الرموز القابلة للتمثيل والتي ترتبط بمعايير أوسع تتحدد بموجبها الأسئلة حول الإنسانية أو التجرد من الإنسانية. وبالتالي تضعنا الصور ضمن الإطار حتى في تجسيدها للبراءة أو نقيضها، تقودنا نحو زمانها ومكانها، تفرض سلطتها علينا وتضللنا أحيانا لصالحها. وهذا الارتباط بين الموت والصورة يطارد جميع صور البشر، فالمحددات التي نطلبها للعيش لا تفرض قيودًا فقط لما "يمكن" أن نسمع، أو نقرأ، أو نشاهد أو نعرف أو نشعر، بل تهيمن قيودها على صورة "الآخر" على ضحايا الصورة "نحن" و"هم"، وربما نتساءل بنوع من السذاجة المتعمدة: كيف ماتوا؟ كم عددهم؟ ومن هم وما هو انتماؤهم؟ ما هو آخر ما خطر ببالهم؟ ما هي آخر "صورة" في ذهنهم؟ هل نتحدث هنا عن سياق ذاتي ضيق ومضلل؟ هل نبرر ذهول حواسنا هنا بأن نشيح بوجوهنا بعيدًا؟ أم أن الحديث يقع فعلًا في إطار السرد الذي نقدمه في مقابل المشهد البصري للتعبير عن المعاناة التي تظهرها الصورة؟ وسنغرق أكثر لو حاولنا ثني الزمن لأن الصورة هي زمن لكنه مستو يمكن قياسه وبالتالي تصلح الصورة لأن تكون جملة مقارنة بمعنى ما. الصورة ثابتة أم متحركة هي حقيقة، الصورة في تمثلنا لها هي حقيقة لا تقع خارج التأويل، هي نافذة تتيح فرصة نادرة للتأمل، وتساهم في تشكيل موقفنا من الحدث، وربما هذه هي وظيفة الصورة.
هي الصورة التي تفتح كل الأبواب المغلقة بما يخدم رؤيتنا الخاصة للتأويل، فالحرب وحدها، بوصفها كارثة، تقربنا من الموت، بل ربما تجسده أمامنا كائنًا نحاوره، نجادل عبثيته وتسلطه وحياديته.
سيغيب صاحب الصورة عن المشهد، عن الإطار، لتبقى صورته تحدق فينا أكثر مما نحدق فيها، فنيراز سعيد، ابن مخيم اليرموك والذي عاش الحصار حتى وقت قريب، لم يحمل سلاحا داخل المخيم ولم ينخرط في أجندات الأطراف المتصارعة، وهو يقول "لم أصور من أجل تغليب وجهة نظر على أخرى، ولا من أجل التهويل أو التقليل من أي حدث، فالصورة هنا لا تحمل سياقات ذاتية أو تساؤلات مضللة، بل هي تقع في صلب السردية التي يكون المشهد البصري فيها معادلا موضوعيا للحدث في إبراز حجم المعاناة".
كارثة اليرموك:
"لسنا مجرّد أرقام"
يقول نيراز في هذا الجانب "ما دفعني للتصوير منذ البداية وحتى الآن، هو حجم الكارثة الإنسانية التي حصلت في اليرموك وفي المناطق المجاورة له، كارثة لن تشفى منها الأجيال القادمة، معاناة تطول". كما تقودنا الصورة، من خلال سطوتها على عقولنا وانغماسنا في الكتلة البصرية التي تشكلها، نحو التساؤل عن الموقف الحقيقي للمصور. ماذا يريد أن يقول هنا؟ كيف يمكن للصورة أن تمتلك تلك القدرة الهائلة على تدمير منطقنا المتماسك، أو الذي نظن أنه متماسك؟ كيف يمكن للصورة أن تنقل لنا- عبر كيميائها الخاصة- كل هذا الألم، الذي لا يضاهيه أي ألم؟ لدرجة تصل بالبعض بنا إلى حد الإنكار، إنكار هذا الألم وتسطيح كامل لقدرتنا على الشعور بالغضب. ولكن لنيراز رأيًا هنا يجعلنا نفيق من ذهولنا وشرود حواسنا تجاه الصورة حين يقول "اعتبرت نفسي حاملًا لرسائل الناس العاديين والمحاصرين، وأخذت على عاتقي نقل معاناتهم للعالم الخارجي، كما هي، دون تزوير أو بهرجة، أو حتى استخفاف".. يلقي بنا نيراز بعيدا نحو واقع جديد بدأ يتشكل. نحدق في صوره وعوالمه وشخوصه ونبقى ندور حول الفكرة، تستهلكنا السردية البصرية بطريقة مجانية أحيانا وبدون اكتراث أحيانا أخرى، لكن نيراز ينهرنا بصوره حين يقول "لسنا مجرد أرقام".
تخبرنا الصورة بوضوح لا يرقى له الشك عن المعاناة. فهل هذا يعبر عن القوة الأخلاقية للصورة؟ تلك القوة التي تنعكس عميقا في وجداننا في أن نرى ونرفض أو نقبل ما تعرضه علينا السردية البصرية؟ ففي مكان معروف في مخيم اليرموك يدعى "ساحة الريجة" أوقفت عدسة نيراز سعيد الزمن، ثلاثة أطفال يستغرقهم التعب والإرهاق. أشقاء ثلاثة ينتظرون هناك السماح لهم بمغادرة المخيم المحاصر لتلقي العلاج الطبي (يسمي نيراز الصورة باسم "الملوك الثلاثة"). يحاول نيراز من خلال الصورة أن يجيب على ما يمكن أن تخلقه من أسئلة في ذهن المتلقي فيقول "أرى أن الصورة الحقيقية في مخيم اليرموك كانت أصدق من الكلمة، لذلك اخترت أن ألتقط الحالة في مخيم اليرموك من منظور آخر. وهو ما بعد الحدث... في الوقت الذي وُجهت فيه الكاميرات في المخيم إلى الأحداث العامة، وجهت عدستي تجاه التفاصيل الصغيرة التي تشكل حياة المخيم المحاصر". من هنا يبدأ نيراز في خلق مشهدية جديدة لسردية الحصار، بدءًا من التفاصيل الصغيرة "حيث يكمن الشيطان" وصولا إلى مقاربات الفضاء والمكان.. المكان كمقولة تحليلية بوصفه "الوطن المحمول"، حيث يفتقر اللاجئ الفلسطيني في المخيم إلى "إقليم" حقيقي أصيل وما يولد ذلك من صور نمطية وانطباعات عن الفلسطيني غير خافية وهي متداخلة بصورة معقدة مع المحيط العام.. فإذا كان الوضع الفلسطيني يمثل حساسية خاصة فكيف الحال مع مخيم بحجم اليرموك الذي لم يعتد سكانه على تقديم الشهداء سوى في سبيل قضيتهم المركزية، ولم يدر في خلدهم ذات يوم أن تتضاعف مأساتهم أضعاف غيرهم؟ ربما لم يكن يعلم نيراز أنه بتجوله في أزقة المخيم والتقاطه ليوميات الحصار وحساسيته إنما يؤبد المشهد كمكان ويثبته زمانيًا حين تدور عدسته تبحث في الوجوه المتعبة هناك التي لم يستطع موظفو الفصائل الفلسطينية وسواهم تخفيف معاناة سكان المخيم ..عدسة نيراز هي التي كسرت الحصار ونقلت صور الناس.
لا شك أن الصورة تحمل دلالات أخلاقية تفوق كثيرا الدلالات السياسية، وهي بذلك تطالبنا بأن ننظر للمكان، أي المخيم، بوصفه فردوسًا مفقودًا وليس باعتباره غيتو، حتى لو استخدم نيراز تقنية الأبيض والأسود فقط؛ ذلك يعود لرؤية نيراز نفسه، فهو يقول عن سبب اختياره هذا "أنا أرى أن اليرموك والحصار قد أتعبنا، وأطفأ السواد والعتم بريق الحياة داخلنا، حتى تُرى الوجوه وكأن السواد يملؤها".. إن الأسود والأبيض، كما يقول نيراز، هما انعكاس لواقع الحال اليوم في سورية وفي اليرموك تحديدًا، حيث الصراع بين الحياة والموت، الحب والحقد، والتفاؤل والتشاؤم أو حالة التشاؤل - كما يسميها الروائي الراحل إميل حبيبي.
وربما هذا ما سوف يحرض فينا الاستجابة للصورة من الناحية الأخلاقية للنظر والتأمل والتعمق في معاناة الآخرين، وهذا ما استطاع نيراز بعدسته المدهشة أن يسمح لنا بتمثل المحاصرين والتعرف على معاناتهم عن كثب، لنكون قادرين في نهاية المطاف على صياغة انتقاداتنا الأخلاقية التي تستجيب عموما لمنطق تحليلاتنا السياسية، وهو بهذا لا يبتعد عن الفضاء المعطى- الفضاء السوري في العموم- الذي يشكل فيه المخيم تفصيلًا صغيرًا عند المقارنة.
"المهمشون موضوع صورتي"
يشير نيراز- ربما بمواربة مقصودة- إلى الانخراط الفلسطيني المباشر في الحدث السوري منذ البداية، والضريبة التي سيدفعها الفلسطيني نتيجة موقفه هذا، مما يسمح لنا بالقول إن فضاء المخيم هو فضاء فلسطيني بالمطلق مثلما هو فضاء سوري بالمطلق أيضا، فكاميرا نيراز ليست كاميرا صحافية مأجورة تتوقف عند الحدث ولا تتعداه بل هي تطلب منا - بل ربما تطالبنا- أن نتعمق أكثر في المأساة الحاصلة، أن نعيش لحظاتها الموثقة بالصورة.
يقول نيراز "غفل الإعلاميون داخل المخيم عن المعاناة الحقيقية للناس، مثلا طغى عليهم حدث إدخال المعونات إلى المخيم، في الوقت الذي ما زال الكثير من المهمشين يموتون جوعا في بيوتهم. هؤلاء المهمشون هم موضوع صورتي". فمأساة اليرموك ليست في الجوع أو الحصار أو المياه والكهرباء، بل هي مأساة شعب، صرخة إنسان، وهي جزء من مصفوفة مآسي الفلسطيني الإنسان والقضية، وهو ما يؤكده نيراز بقوله "لا يوجد في المخيم اليوم عائلة كاملة، كنت أشعر في كل صورة لعائلة فلسطينية أن هناك بين الوجوه خيالًا لشخص مفقود، لذلك تجد أن الإضاءة الخافتة تغلب على صوري".
إن مصفوفة القوة البصرية للصورة، التي تؤسس لاختيارات وتفضيلات، وتحفيزات وتحيّزات، واحتياجات، ورغبات...إلخ هي من ستكتب قصة نجاحها حين تتعدد مفرداتها فتستحيل إلى أيقونة مرنة وفي ذات الوقت إلى رمز غير قابل للتطويع. هذا هو جوهر النداء الأصلي للصورة. وهو ما يقوله نيراز بلغة أخرى: "...هناك دائما أمل. مرت على مخيم اليرموك ظروف صعبة للغاية. لكنها انتهت وبقي الفلسطيني يحارب ليعيش، فهو شعب يقدّر الحياة ويستحقها، ويرى رغم كل ما يمرّ به أن غدًا سيكون أفضل".