معرض"ابن بطوطة":من طنجة إلى القاهرة ومن مقديشو إلى تمبكتو
ميشرافي عبد الودود
فوتوغراف
من المعرض
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة سعة مترحلة في الاسم يصعب تحديدها – مشروطة على الدوام بحجم سعة المسمى؛ بحيث يسعى كل طرف إلى حيازة الطرف الآخر، في إطار رسم ملكية مشتركة متنازع عليها منذ البداية.
الاسم المفرد غالبا علبة رسائل بريدية شاغرة لتسهيل التواصل وعملية التلقي للمالك، كما تعفي سعاة البريد (الآخر) على تتبع العنوان البريدي للاسم الجينيالوجي الكامل بسلسلته الطويلة المضللة. للأفواه طرقها في تدجين "الوحشي" وتحويله إلى "مستساغ" يجري سلسا على الألسن: الاسم المخيف "تأبط شرا" مثال بارز.
هذه السعة المترحلة تتحول في حال أسماء العظماء والعباقرة إلى شساعة لا حدود لها ترخي بظلالها المديدة على قاماتهم العملاقة، دون الحديث على قامات معاصريهم التي تكاد تنمحي تماما. تستحيل معها الإحاطة، أو التحديد إلى الدرجة التي تغري بعض الأعلام والمشاهير من الفنانين في عصرنا باستعمال ضمير الغائب إزاء الحديث عن أنفسهم وتجاربهم، مرددين أسماءهم على مسمع من مخاطبيهم، أمام استهجان الجميع واستغرابهم لما يبدو تعاليا فجا. لكن "أنا الآخر" شئنا أم أبينا كما يقول آرثر رامبو.
ربما يحتاج المرء إلى المناداة على نفسه بمختلف حروف النداء بين وقت وآخر، في محاولة يائسة لاسترجاع اسمه الزلق (من كثرة ما لاكته الألسنة) الذي استحوذ عليه الآخرون بصورة أو أخرى، و ربما يحتاج الفنان أن يقتني تذكرة لحضور عرضه متنكرا في الصفوف الأخيرة، بعد أن مسحت أضواء الكاميرا المصوبة ملامح وجهه في العرض الأول، أو أن يتخفى الملياردير قدر ما يستطيع في اسم غفل مؤقت، أو أن يستعيد البهلوان كذلك تجاعيده وتعاسته ممزقا قناع البودرة الضاحك قبلما ينتهي الاحتفال الصاخب بقليل...
(يبدو أن الأسماء تعمل عمل المفاتيح في الأول، وبمرور الزمن يستغني مستعملوها عن الأبواب التي تفتحها، ثم لاحقا عما تفضي إليه هذه الأبواب من غرف، مكتفين ب "الإقامة في مفاتيحهم" بمحض الإرادة أو انعدامها).
لكم أن تتصوروا جسامة مهمة الإحاطة بهذه السعة الاسمية المترحلة التي تتحول إلى مدى "أنطولوجي" إذا كان الاسم هو: ابن بطوطة.
ابن بطوطة.
الاسم الذي يرن كجرس معدني، الاسم الحركي السريع الذي يرافقنا كقطار سريع منذ رحلاتنا الأولى، المنطوق بخفة ورشاقة، دفعة واحدة بالطائين اللتين تلاحق إحداهما الأخرى: طاء طنجة (مسقط رأسه) المهرولة نحو طاء مضيق جبل طارق (بوابة عبور المتوسط). هذه الطاء المتكررة أكثر من مجرد حرف أبجدي؛ بل حرف وجودي بامتياز. لنقل ختم الوجودي في الأبجدي الذي يجعل اسم ابن بطوطة يمضي قدما باستمرار؛ لا غرابة أن يتكرر رنين هذه الطاء مرة أخرى في اسم الأسطورة المغربي "عويطة" أسرع عداء في سباقات 1500، 2000، 3000، و5000 متر في الثمانينيات. ف"الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون" بتعبير ابن عربي.
"على خطى ابن بطوطة"، يسافر بنا المعرض الذي ينظمه متحف بنك المغرب بالرباط، والمستمر لغاية 31 ديسمبر/ كانون الأول 2018، "من طنجة إلى القاهرة"، و"من مقديشو إلى تمبكتو". المعرض محاكاة للمسار الطويل من خلال المقتطفات، القطع النقدية المؤرخة للسلاطين الذين لقيهم أو عايشهم الرحالة، والصور والخرائط المبينة للأوطان ومحطات الأسفار.
طبعا لا توجد في هذه الرحلة درجة أولى ودرجة ثانية أو ثالثة، لا توجد بواخر شراعية تمخر المياه الهوينى بهدير محركاتها كأنها تشق السحاب، كما أننا ما زلنا بعيدين جدا عن القطارات الأولى حيث الحقائب المزودة بعجلتين غير موجودة، فقط الحمالون المتعجلون ببدلاتهم المهنية على الرصيف يشحنون الصناديق المرقمة قبل الصفير المؤذن بانطلاق رحلة تطول نسبيا مهما كانت المسافات قصيرة:
نحن هنا في عصر ما قبل "السياحة البطيئة" والسائح المعتمر في بلاهة القبعة لأول مرة. إننا في زمن "السفر" الحقيقي، حيث الحركة غير منفصلة عن الجهد العضلي المبذول؛ كل متر مقطوع يساوي مترا من العضل المشدود، وحيث لا يملك المسافر سوى أن "يسفر عن وجهه للأرض الفضاء، و يسفر عن أخلاقه و ما خفي منها" (لسان العرب) وطاقة تحمله للمخاطر؛ الطرق غير آمنة، قطّاع الطرق واللصوصية ينتشرون في كل مكان، وطريق العودة غير مضمونة.
730/1325 _ غادر ابن بطوطة مسقط رأسه طنجة متوجها إلى مكة. عبر الرحالة الشاب (22 سنة) شمال إفريقيا ووصل إلى البقاع المقدسة سنة 732/1332، مباشرة بعد أداء الفريضة، خرج متوجها إلى العراق والجنوب الغربي لإيران قبل أن يعود إلى مكة التي استقر بها ثلاث سنوات أدى خلالها الحج ثلاث مرات. في 730/1330، دفعه شغفه إلى مغادرة المدينة المنورة، معلنا عن انطلاق سفره الثالث الذي دام إلى 732/1332، قاده إلى اليمن والصومال وكينيا قبل العودة إلى مكة للحج الرابع. بعد طوافه بمصر وسورية والأناضول وخراسان وأفغانستان، وصل إلى دلهي 734/1337 حيث أقام هناك لمدة ناهزت 10 سنوات. بعد عودته من بعثته إلى الصين، تابع الرحلة حتى وصل إلى جزر المالديف حيث عين قاضيا قبل أن يتم إرساله إلى جنوب الهند. في 748/1348 توجه إلى سومطرة ومالابار قبل العودة إلى مكة للحج الخامس.
عاد ابن بطوطة إلى أرض الوطن سالكا أثناء رجوعه طريقا بحريا عبر تونس وسردينيا والجزائر. في 750/1350 عبر الرحالة مضيق جبل طارق، طائفا بمملكة بني نصر قبل أن يعود إلى فاس، وينضم إلى قافلة متوجهة إلى سجلماسة. في 753/1353 عبر الصحراء إلى السودان (مالي والنيجر). بعد عودته إلى فاس 748/1348، استقر بالقصر المريني حيث بدأ بحكي مغامراته وأسفاره التي أسرت الخليفة أبا عنان، ودفعته إلى تكليف كاتبه ابن الجزي بجمعها في "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" .
هل كان ابن بطوطة مستكشفا على غرار ماركو باولو؟ الجواب لا طبعا. لقد تم فتح العالم الإسلامي بشكل نهائي شرقا وغربا، ودار الإسلام الآن قصر ضيافة مترامي الأطراف من طنجة إلى القاهرة، ومن مقديشو إلى تمبكتو؛ بإمكان الرحالة السياحة والتنقل بحرية بين الدول الخاضعة كما لو يتنقل بين الغرف الفسيحة، أو يطيل المكوث في حدائقه الخلفية. رغم كل شيء الزمن لا يزال عربيا، الحضارة عربية، والعربي أو "الناطق بلغة الضاد" كما الأميركي اليوم مرحب ب"ديناره الذهبي" في أي مكان تطأه الأقدام.
"تاجر البندقية" ماركو باولو بحار مغامر مدفوع بحب الثروة والذهب والأحجار النفيسة، وعميل استخباراتي لدى الإمبراطوريات الصاعدة، لا يتردد في أن ينحرف عن المسارات المألوفة ليسلك أشد الطرق خطورة في مهمة التقصي والتحري عن الشعوب والقنوات التجارية الناشئة. سليل طنجة العريقة ابن بطوطة "متمدن" متشبع بقيم الحضارة، مدفوع بحبه للمدن، للروح المشتركة التي تحركها، للعمران البشري و"العلامة المسجلة" التي تحملها الأحجار والمباني. طوال رحلته التي استغرقت أكثر من نصف عمره ظل يتعاطى مع المدن "المعشوقة" كما الشعراء: المدن في المخيال الاجتماعي تتماهى مع النساء "الحبيبات"، ولا حرج من أن يتوقف الرحالة بين مدينة وأخرى للاقتران أو الاستمتاع بعلاقة تطول أو تقصر بحسب الإقامة العاشقة.
في أي مكان تطأه القدم، ابن بطوطة يمتلك صفة "المبعوث" من الخليفة العربي لدى دول العالم الإسلامي، ويظل شاهدا بحصانته الدبلوماسية ليس فقط على تنقل الأفراد والسلع خلال القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، إنما بالأحرى على سهولة تنقل قيم الحضارة الإسلامية؛ وتحديدا القيم المدنية المادية التي شكلت السند الحقيقي لعملتها الذهبية المتداولة. مسار 120.000 كلم المقطوع في 30 سنة تقريبا يمكن اعتباره مسار هذا التمدن الإسلامي أكثر منه مسار الرحلة: ابن بطوطة رحالة الطبقة الناشئة، "برجوازي" أتيحت له رخصة السياقة القانونية (كقاض) ما جعله يسلك "الطريق السيار" الرابط بين الدول الإسلامية آنذاك؛ حيث محطات الوقوف المنتشرة على طول الخط السريع تسمح للمسافر بالاستجمام والراحة، والتزود بما يكفي من المؤن للمضي قدما.
في المرات التي كان يضطر فيها الرحالة إلى ترك الطريق السيار، والمغامرة في الطريق العادي؛ بمعنى التوغل في البلدان المجاورة غير الخاضعة للحكم الإسلامي، وبالتالي الخروج عن السنن، تتغير النبرة في الحكي، ونشعر رغم شغف الوصف ودقة التفاصيل المسرودة بالغربة التي يشعر بها "مبعوث" يمارس دوره الحضاري، ولا يتورع من موقعه الريادي أن يستنكر بعض الممارسات التي لا تتلاءم مع تعاليم الدين الحنيف: هنا بالذات يتراجع الرحالة التقدمي وتطفو على السطح عباءة "القاضي" الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. وهذا يعني رغبة الرحالة في تعبيد الطريق وإلحاقه بالسيار، كما نلحظ في محاولته فرض الزي الإسلامي على نساء جزر المالديف المسلمات اللواتي يقتصر لباسهن على ما تحت الحزام، بينما يظل الجزء الأعلى من أجسادهن عاريا. وجود امرأة على رأس الهرم الاجتماعي حال دون نجاح المهمة.
فرادة ابن بطوطة تتجلى في "أنسنة" هذا الطريق السيار "التجاري"، و جعله غير قاصر على "عولمة" السلع والبضائع، ليصبح في الأساس "عولمة إنسانية" تشمل أيضا تنقل قيم الأفراد، وشاهدا على الانفتاح في مرحلة مبكرة، ودليلا على التعايش الذي ساد بين الشعوب بشكل أو آخر: لا أحد عاش كثافة هذه اللحظة التاريخية بتناقضاتها بالطول والعرض مثل ابن بطوطة. وهذا ما لا ينساه التاريخ للرحالة العربي حتى لو نسيته الجغرفيا.
عندما يعود الغائبون منهكين ومستنفدين بعد طول سفر وغياب إلى أرض الميلاد، عادة ما تكون العودة منقوصة: يعودون فقط بأجساد معطلة مختزلة في الشفاه التي لا تني عن الحركة وسرد "زمن السفر" الذي يقابله "عطالة الحاضر" الآسن، لكن أرواحهم تظل في المنفى هائمة تائهة. ربما يشبهون قليلا أو كثيرا رجوع الموتى لتفقد عالمهم المنقضي؛ مجردين من ظلالهم كما تقول الأساطير والحكايات.
في حال ابن بطوطة يختلف الأمر؛ ثمة مجال للشك في هذه العودة بما أنها مسبوقة بعودة قبلها، وما بين العودتين مساحة زمنية طويلة مأهولة بالزيجات والأولاد، مما يشي بعدم وجود أي شكل من الاستعجال، في رحلة يبدو أنها حجزت تذكرة الذهاب فقط. كما أن تفويضه إلى ابن جزي لتدوين رحلته دليل كاف على إصراره على عدم وضع نهاية للأوديسة التي قادته أن يذرع العالم الإسلامي شرقا وغربا، بالإضافة إلى البلدان المجاورة: طالما أن ابن بطوطة لم يتناول القلم والقرطاس لتقييد رحلته بيده، بدلا من استكتاب ابن الجزي الذي لم يكن له من داع أصلا، فذلك يعني شيئا واحدا...الرحلة ما زالت مستمرة، والعودة مجرد استراحة في "محطة الوقوف" بين وقت وآخر من حق المسافر "العريق" الذي يتوقف الآن في قصر السلطان المريني أبي عنان رفقة كاتبه الأندلسي للاستجمام والتقاط الأنفاس، قبل أن يلحق باسمه الذي يتقدمه دائما إلى الأمام.
الطابع السردي لمؤلف "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" يتوخى التنوع الأدبي بشقيه التعليمي والترفيهي (أكثر من التحرير العلمي) بهدف إشباع رغبة مشتركة: رغبة ظاهرة في حال المسافر الذي يلتهم المسافات بحثا عن كل ما هو جدير بإثارة الفضول، يشحن المتن بالتفاصيل والإحالات عندما يقتضي الأمر، وأحيانا يكتفي بالتلميح والإشارة عندما يغني السياق المشترك عن الاتساع والتطويل. ورغبة مستترة في حال القارئ المسافر الآخر في الزمن بين السطور، الشغوف و"المتواطئ" بتتبع الرحلة كاملة أو مسلسلة. "القراءة" سفر يجمع بين المسافريْن (الكاتب والقارئ) معا في محطة ما من الرحلة. بإمكانهما أن يكملا الرحلة سويا حتى خط الوصول، كما بإمكان أحدهما التخلي مؤقتا دون التأثير على المسار؛ "زمن القراءة هو زمن الحكي". ابن بطوطة رحالة قبل كل شيء، القارئ رفيق في هذه الرحلة شريطة استغنائه عن الطريق...والاكتفاء بتتبع الشريط الوثائقي "الانتقائي" الذي تتشكل مشهدياته شيئا فشيئا مستعرضة تفاصيل هذه الرحلة.
نقطة النهاية التي وضعها ابن الجزي (كما تجري العادة في الحكايات بأن يقوم الملك بتكليف كاتبه بالتدوين حتى تكون عبرة للآخر) في الثالث من ذي الحجة 765 هجرية على مؤلف "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" ليست نقطة نهاية الرحلة. السفر في عقيدة المسلم ركن من أركان الدين لا ينتهي بانتهاء المناسك، اسم من أسماء الشهور العربية، ورحلة الشتاء و الصيف. ابن بطوطة لا يزال مسافرا رفقة اسمه المكوكي في الزمان والمكان ...رفقة القصص و الحكايات التي تتجدد باستمرار.
أليس هو القائل: "السفر يتركك قبل كل شيء بلا صوت، قبل أن يحولك إلى قاص".
لا يزال ينتظر الاسم الكثير من القصص والحكايات، بعد أن أصبح الآن طابعا بريديا متداولا، مطارا دوليا لطنجة، قطارا سريعا، ميدالية نقدية رفيعة للمملكة المغربية، تجمعات علمية، مهرجانا ثقافيا...وفوق هذا كله يشكل الرمز لوحده بحمولته الإيجابية لنا جميعا الخطوة العملية الأولى التي تفتتح مشوار الألف ألف ميل.
دائما وأبدا على خطى ابن بطوطة!
ميشرافي عبد الودود
فوتوغراف
من المعرض
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة سعة مترحلة في الاسم يصعب تحديدها – مشروطة على الدوام بحجم سعة المسمى؛ بحيث يسعى كل طرف إلى حيازة الطرف الآخر، في إطار رسم ملكية مشتركة متنازع عليها منذ البداية.
الاسم المفرد غالبا علبة رسائل بريدية شاغرة لتسهيل التواصل وعملية التلقي للمالك، كما تعفي سعاة البريد (الآخر) على تتبع العنوان البريدي للاسم الجينيالوجي الكامل بسلسلته الطويلة المضللة. للأفواه طرقها في تدجين "الوحشي" وتحويله إلى "مستساغ" يجري سلسا على الألسن: الاسم المخيف "تأبط شرا" مثال بارز.
هذه السعة المترحلة تتحول في حال أسماء العظماء والعباقرة إلى شساعة لا حدود لها ترخي بظلالها المديدة على قاماتهم العملاقة، دون الحديث على قامات معاصريهم التي تكاد تنمحي تماما. تستحيل معها الإحاطة، أو التحديد إلى الدرجة التي تغري بعض الأعلام والمشاهير من الفنانين في عصرنا باستعمال ضمير الغائب إزاء الحديث عن أنفسهم وتجاربهم، مرددين أسماءهم على مسمع من مخاطبيهم، أمام استهجان الجميع واستغرابهم لما يبدو تعاليا فجا. لكن "أنا الآخر" شئنا أم أبينا كما يقول آرثر رامبو.
ربما يحتاج المرء إلى المناداة على نفسه بمختلف حروف النداء بين وقت وآخر، في محاولة يائسة لاسترجاع اسمه الزلق (من كثرة ما لاكته الألسنة) الذي استحوذ عليه الآخرون بصورة أو أخرى، و ربما يحتاج الفنان أن يقتني تذكرة لحضور عرضه متنكرا في الصفوف الأخيرة، بعد أن مسحت أضواء الكاميرا المصوبة ملامح وجهه في العرض الأول، أو أن يتخفى الملياردير قدر ما يستطيع في اسم غفل مؤقت، أو أن يستعيد البهلوان كذلك تجاعيده وتعاسته ممزقا قناع البودرة الضاحك قبلما ينتهي الاحتفال الصاخب بقليل...
(يبدو أن الأسماء تعمل عمل المفاتيح في الأول، وبمرور الزمن يستغني مستعملوها عن الأبواب التي تفتحها، ثم لاحقا عما تفضي إليه هذه الأبواب من غرف، مكتفين ب "الإقامة في مفاتيحهم" بمحض الإرادة أو انعدامها).
لكم أن تتصوروا جسامة مهمة الإحاطة بهذه السعة الاسمية المترحلة التي تتحول إلى مدى "أنطولوجي" إذا كان الاسم هو: ابن بطوطة.
ابن بطوطة.
الاسم الذي يرن كجرس معدني، الاسم الحركي السريع الذي يرافقنا كقطار سريع منذ رحلاتنا الأولى، المنطوق بخفة ورشاقة، دفعة واحدة بالطائين اللتين تلاحق إحداهما الأخرى: طاء طنجة (مسقط رأسه) المهرولة نحو طاء مضيق جبل طارق (بوابة عبور المتوسط). هذه الطاء المتكررة أكثر من مجرد حرف أبجدي؛ بل حرف وجودي بامتياز. لنقل ختم الوجودي في الأبجدي الذي يجعل اسم ابن بطوطة يمضي قدما باستمرار؛ لا غرابة أن يتكرر رنين هذه الطاء مرة أخرى في اسم الأسطورة المغربي "عويطة" أسرع عداء في سباقات 1500، 2000، 3000، و5000 متر في الثمانينيات. ف"الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون" بتعبير ابن عربي.
"على خطى ابن بطوطة"، يسافر بنا المعرض الذي ينظمه متحف بنك المغرب بالرباط، والمستمر لغاية 31 ديسمبر/ كانون الأول 2018، "من طنجة إلى القاهرة"، و"من مقديشو إلى تمبكتو". المعرض محاكاة للمسار الطويل من خلال المقتطفات، القطع النقدية المؤرخة للسلاطين الذين لقيهم أو عايشهم الرحالة، والصور والخرائط المبينة للأوطان ومحطات الأسفار.
طبعا لا توجد في هذه الرحلة درجة أولى ودرجة ثانية أو ثالثة، لا توجد بواخر شراعية تمخر المياه الهوينى بهدير محركاتها كأنها تشق السحاب، كما أننا ما زلنا بعيدين جدا عن القطارات الأولى حيث الحقائب المزودة بعجلتين غير موجودة، فقط الحمالون المتعجلون ببدلاتهم المهنية على الرصيف يشحنون الصناديق المرقمة قبل الصفير المؤذن بانطلاق رحلة تطول نسبيا مهما كانت المسافات قصيرة:
نحن هنا في عصر ما قبل "السياحة البطيئة" والسائح المعتمر في بلاهة القبعة لأول مرة. إننا في زمن "السفر" الحقيقي، حيث الحركة غير منفصلة عن الجهد العضلي المبذول؛ كل متر مقطوع يساوي مترا من العضل المشدود، وحيث لا يملك المسافر سوى أن "يسفر عن وجهه للأرض الفضاء، و يسفر عن أخلاقه و ما خفي منها" (لسان العرب) وطاقة تحمله للمخاطر؛ الطرق غير آمنة، قطّاع الطرق واللصوصية ينتشرون في كل مكان، وطريق العودة غير مضمونة.
730/1325 _ غادر ابن بطوطة مسقط رأسه طنجة متوجها إلى مكة. عبر الرحالة الشاب (22 سنة) شمال إفريقيا ووصل إلى البقاع المقدسة سنة 732/1332، مباشرة بعد أداء الفريضة، خرج متوجها إلى العراق والجنوب الغربي لإيران قبل أن يعود إلى مكة التي استقر بها ثلاث سنوات أدى خلالها الحج ثلاث مرات. في 730/1330، دفعه شغفه إلى مغادرة المدينة المنورة، معلنا عن انطلاق سفره الثالث الذي دام إلى 732/1332، قاده إلى اليمن والصومال وكينيا قبل العودة إلى مكة للحج الرابع. بعد طوافه بمصر وسورية والأناضول وخراسان وأفغانستان، وصل إلى دلهي 734/1337 حيث أقام هناك لمدة ناهزت 10 سنوات. بعد عودته من بعثته إلى الصين، تابع الرحلة حتى وصل إلى جزر المالديف حيث عين قاضيا قبل أن يتم إرساله إلى جنوب الهند. في 748/1348 توجه إلى سومطرة ومالابار قبل العودة إلى مكة للحج الخامس.
عاد ابن بطوطة إلى أرض الوطن سالكا أثناء رجوعه طريقا بحريا عبر تونس وسردينيا والجزائر. في 750/1350 عبر الرحالة مضيق جبل طارق، طائفا بمملكة بني نصر قبل أن يعود إلى فاس، وينضم إلى قافلة متوجهة إلى سجلماسة. في 753/1353 عبر الصحراء إلى السودان (مالي والنيجر). بعد عودته إلى فاس 748/1348، استقر بالقصر المريني حيث بدأ بحكي مغامراته وأسفاره التي أسرت الخليفة أبا عنان، ودفعته إلى تكليف كاتبه ابن الجزي بجمعها في "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" .
هل كان ابن بطوطة مستكشفا على غرار ماركو باولو؟ الجواب لا طبعا. لقد تم فتح العالم الإسلامي بشكل نهائي شرقا وغربا، ودار الإسلام الآن قصر ضيافة مترامي الأطراف من طنجة إلى القاهرة، ومن مقديشو إلى تمبكتو؛ بإمكان الرحالة السياحة والتنقل بحرية بين الدول الخاضعة كما لو يتنقل بين الغرف الفسيحة، أو يطيل المكوث في حدائقه الخلفية. رغم كل شيء الزمن لا يزال عربيا، الحضارة عربية، والعربي أو "الناطق بلغة الضاد" كما الأميركي اليوم مرحب ب"ديناره الذهبي" في أي مكان تطأه الأقدام.
"تاجر البندقية" ماركو باولو بحار مغامر مدفوع بحب الثروة والذهب والأحجار النفيسة، وعميل استخباراتي لدى الإمبراطوريات الصاعدة، لا يتردد في أن ينحرف عن المسارات المألوفة ليسلك أشد الطرق خطورة في مهمة التقصي والتحري عن الشعوب والقنوات التجارية الناشئة. سليل طنجة العريقة ابن بطوطة "متمدن" متشبع بقيم الحضارة، مدفوع بحبه للمدن، للروح المشتركة التي تحركها، للعمران البشري و"العلامة المسجلة" التي تحملها الأحجار والمباني. طوال رحلته التي استغرقت أكثر من نصف عمره ظل يتعاطى مع المدن "المعشوقة" كما الشعراء: المدن في المخيال الاجتماعي تتماهى مع النساء "الحبيبات"، ولا حرج من أن يتوقف الرحالة بين مدينة وأخرى للاقتران أو الاستمتاع بعلاقة تطول أو تقصر بحسب الإقامة العاشقة.
في أي مكان تطأه القدم، ابن بطوطة يمتلك صفة "المبعوث" من الخليفة العربي لدى دول العالم الإسلامي، ويظل شاهدا بحصانته الدبلوماسية ليس فقط على تنقل الأفراد والسلع خلال القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، إنما بالأحرى على سهولة تنقل قيم الحضارة الإسلامية؛ وتحديدا القيم المدنية المادية التي شكلت السند الحقيقي لعملتها الذهبية المتداولة. مسار 120.000 كلم المقطوع في 30 سنة تقريبا يمكن اعتباره مسار هذا التمدن الإسلامي أكثر منه مسار الرحلة: ابن بطوطة رحالة الطبقة الناشئة، "برجوازي" أتيحت له رخصة السياقة القانونية (كقاض) ما جعله يسلك "الطريق السيار" الرابط بين الدول الإسلامية آنذاك؛ حيث محطات الوقوف المنتشرة على طول الخط السريع تسمح للمسافر بالاستجمام والراحة، والتزود بما يكفي من المؤن للمضي قدما.
في المرات التي كان يضطر فيها الرحالة إلى ترك الطريق السيار، والمغامرة في الطريق العادي؛ بمعنى التوغل في البلدان المجاورة غير الخاضعة للحكم الإسلامي، وبالتالي الخروج عن السنن، تتغير النبرة في الحكي، ونشعر رغم شغف الوصف ودقة التفاصيل المسرودة بالغربة التي يشعر بها "مبعوث" يمارس دوره الحضاري، ولا يتورع من موقعه الريادي أن يستنكر بعض الممارسات التي لا تتلاءم مع تعاليم الدين الحنيف: هنا بالذات يتراجع الرحالة التقدمي وتطفو على السطح عباءة "القاضي" الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. وهذا يعني رغبة الرحالة في تعبيد الطريق وإلحاقه بالسيار، كما نلحظ في محاولته فرض الزي الإسلامي على نساء جزر المالديف المسلمات اللواتي يقتصر لباسهن على ما تحت الحزام، بينما يظل الجزء الأعلى من أجسادهن عاريا. وجود امرأة على رأس الهرم الاجتماعي حال دون نجاح المهمة.
فرادة ابن بطوطة تتجلى في "أنسنة" هذا الطريق السيار "التجاري"، و جعله غير قاصر على "عولمة" السلع والبضائع، ليصبح في الأساس "عولمة إنسانية" تشمل أيضا تنقل قيم الأفراد، وشاهدا على الانفتاح في مرحلة مبكرة، ودليلا على التعايش الذي ساد بين الشعوب بشكل أو آخر: لا أحد عاش كثافة هذه اللحظة التاريخية بتناقضاتها بالطول والعرض مثل ابن بطوطة. وهذا ما لا ينساه التاريخ للرحالة العربي حتى لو نسيته الجغرفيا.
عندما يعود الغائبون منهكين ومستنفدين بعد طول سفر وغياب إلى أرض الميلاد، عادة ما تكون العودة منقوصة: يعودون فقط بأجساد معطلة مختزلة في الشفاه التي لا تني عن الحركة وسرد "زمن السفر" الذي يقابله "عطالة الحاضر" الآسن، لكن أرواحهم تظل في المنفى هائمة تائهة. ربما يشبهون قليلا أو كثيرا رجوع الموتى لتفقد عالمهم المنقضي؛ مجردين من ظلالهم كما تقول الأساطير والحكايات.
في حال ابن بطوطة يختلف الأمر؛ ثمة مجال للشك في هذه العودة بما أنها مسبوقة بعودة قبلها، وما بين العودتين مساحة زمنية طويلة مأهولة بالزيجات والأولاد، مما يشي بعدم وجود أي شكل من الاستعجال، في رحلة يبدو أنها حجزت تذكرة الذهاب فقط. كما أن تفويضه إلى ابن جزي لتدوين رحلته دليل كاف على إصراره على عدم وضع نهاية للأوديسة التي قادته أن يذرع العالم الإسلامي شرقا وغربا، بالإضافة إلى البلدان المجاورة: طالما أن ابن بطوطة لم يتناول القلم والقرطاس لتقييد رحلته بيده، بدلا من استكتاب ابن الجزي الذي لم يكن له من داع أصلا، فذلك يعني شيئا واحدا...الرحلة ما زالت مستمرة، والعودة مجرد استراحة في "محطة الوقوف" بين وقت وآخر من حق المسافر "العريق" الذي يتوقف الآن في قصر السلطان المريني أبي عنان رفقة كاتبه الأندلسي للاستجمام والتقاط الأنفاس، قبل أن يلحق باسمه الذي يتقدمه دائما إلى الأمام.
الطابع السردي لمؤلف "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" يتوخى التنوع الأدبي بشقيه التعليمي والترفيهي (أكثر من التحرير العلمي) بهدف إشباع رغبة مشتركة: رغبة ظاهرة في حال المسافر الذي يلتهم المسافات بحثا عن كل ما هو جدير بإثارة الفضول، يشحن المتن بالتفاصيل والإحالات عندما يقتضي الأمر، وأحيانا يكتفي بالتلميح والإشارة عندما يغني السياق المشترك عن الاتساع والتطويل. ورغبة مستترة في حال القارئ المسافر الآخر في الزمن بين السطور، الشغوف و"المتواطئ" بتتبع الرحلة كاملة أو مسلسلة. "القراءة" سفر يجمع بين المسافريْن (الكاتب والقارئ) معا في محطة ما من الرحلة. بإمكانهما أن يكملا الرحلة سويا حتى خط الوصول، كما بإمكان أحدهما التخلي مؤقتا دون التأثير على المسار؛ "زمن القراءة هو زمن الحكي". ابن بطوطة رحالة قبل كل شيء، القارئ رفيق في هذه الرحلة شريطة استغنائه عن الطريق...والاكتفاء بتتبع الشريط الوثائقي "الانتقائي" الذي تتشكل مشهدياته شيئا فشيئا مستعرضة تفاصيل هذه الرحلة.
نقطة النهاية التي وضعها ابن الجزي (كما تجري العادة في الحكايات بأن يقوم الملك بتكليف كاتبه بالتدوين حتى تكون عبرة للآخر) في الثالث من ذي الحجة 765 هجرية على مؤلف "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" ليست نقطة نهاية الرحلة. السفر في عقيدة المسلم ركن من أركان الدين لا ينتهي بانتهاء المناسك، اسم من أسماء الشهور العربية، ورحلة الشتاء و الصيف. ابن بطوطة لا يزال مسافرا رفقة اسمه المكوكي في الزمان والمكان ...رفقة القصص و الحكايات التي تتجدد باستمرار.
أليس هو القائل: "السفر يتركك قبل كل شيء بلا صوت، قبل أن يحولك إلى قاص".
لا يزال ينتظر الاسم الكثير من القصص والحكايات، بعد أن أصبح الآن طابعا بريديا متداولا، مطارا دوليا لطنجة، قطارا سريعا، ميدالية نقدية رفيعة للمملكة المغربية، تجمعات علمية، مهرجانا ثقافيا...وفوق هذا كله يشكل الرمز لوحده بحمولته الإيجابية لنا جميعا الخطوة العملية الأولى التي تفتتح مشوار الألف ألف ميل.
دائما وأبدا على خطى ابن بطوطة!