الفُوتوغرافيا الكولونيالية: فُرْجة بصرية على عنْف التاريخ
فريد الزاهي
فوتوغراف
رولان بارث
شارك هذا المقال
حجم الخط
يستهل رولان بارث كتابه الغرفة الوضيئة (1980) بما يلي: "في يوم ما من وقت سحيق، عثرت على صورة فوتوغرافية لجيروم الأخ الأكبر لنابوليون (1852)، فقلت في نفسي حينها بدهشة لم أستطع أبدا أن أحد منها: (أنا أرى العينين اللتين رأتا الإمبراطور)". وبالرغم من النزعة المرآوية المضاعفة لهذه الشهادة فإنها تنبئ عن الوساطة الغريبة التي تمارسها الفوتوغرافيا، بين الحاضر والغائب وبين الذات وذوات أخرى، بل بين الذات والتاريخ. إنها شهادة واستحضار في آن واحد. وفي ذلك تكمن قوتها وسلطتها.
هل لنا أن نقول الشيء نفسه عن الصور التي تجعلنا ماثلين أمام مغرب ومغاربة نهاية القرن التاسع عشر وبدايات وأواسط القرن العشرين؟
نستطيع أن نعبر عن هذا الإحساس بقدرة الصورة على منحنا، في ما وراء الزمن، معرفة ما يثوي خلف الفضاء الحاضر، بعد التحولات التي عرفتها الأماكن والناس والحياة. وفي تلك الرعشة التي تصيبنا ونحن نرى الشكل الأول لمناطق طفولتنا، وللإحساس الغريب بمشاهدة أولئك الذين عاشوا في تلك الأماكن بزي مغاير ووعي آخر... إنهم نسخ فائتة منا يعبقون ربما بروحنا ونفَسنا، من يدري؟
الصورة والتاريخ...
تأتي علاقة الفوتوغرافيا بالتاريخ من طبيعتها و"جوهرها". إنها تلتقط المرئي في حدثيته وتعيّنه من حيث هو كذلك. وربما لهذا السبب، أي نظرا لطابعها التناظري مع ما تعيّنه وتشير إليه، ولعلاقتها الوثيقة بالمرئي إلى حدود التماهي البصري، طال الزمن كي يتم الاعتراف بالفوتوغرافيا كفن. فقد سرقت السينما منها طابعها الفني في تناسل الصور وحركيتها وخلقها للحكاية التخييلية. الصورة دائما تعيين لهذا الشيء أو لذاك الفضاء أو الشخص لتحمله إلى الخلود في شكله ذاك وفي اللحظة تلك. فهي في مباشرتها لا تنفصل عن مرجعيتها إلا بما نريد لها أن تنفصل عنه وفي وقت لاحق.
"الصورة الفوتوغرافية، كما يردد بارث، تملك بطبيعتها شيئا من تحصيل الحاصل: الغليون فيها دائما غليون لا يمكن تغييره". لعل هذا التعريف هو ما يجعل الصورة الفوتوغرافية أوثق وثيقة في علاقتها بالماضي لأنها تستحضره كما لو كان يوجد هنا والآن أمام نظرنا، خلافا للوثيقة التاريخية أو للتأريخ الذي يكون في الآن نفسه تاريخا وحكاية (Histoire/histoire). يتحدث بارث عن الفوضى التي تطبع الفوتوغرافيا والتي تجعلها غير قابلة للتصنيف. هذه الفوضى تتبدى في الصورة الكولونيالية بما لا يدع مجالا للشك. هذا القائد العسكري أو ذاك يكون في رحلة "للتهدئة"، يتابع هذا الحدث أو ذاك، ويعود بكاتالوغ مليء بالصور ويهدي هذه الصور للمقيم العام، الجنرال ليوطي من باب التقدير المرجعي. ومن بين هذه الصور يجد الباحث العديد من اللقطات التي لا علاقة لها مباشرة بعملية التهدئة وبالحرب وبالأسرى والقتلى. هكذا تنشدُّ عدسة المصور إلى نساء المنطقة وإلى الصبيان، بل إلى الحيوانات حتى، منفصلا عن مهمته التوثيقية إلى حد كبير ليقوم بمهمة الإثنوغرافي.
بيد أن هذه الطبيعة التوثيقية للفوتوغرافيا ليست من قبيل الطبيعة التوثيقية للوثيقة التاريخية. فإذا كانت الوثيقة تهمس بالتاريخ وتتلبس بالإيديولوجيا، فإن الصورة تفضح ما تصوره لأنها تكشفه وتكشف عنه وتتطلب فرجة (تاريخية متجددة). إنها تفضح مباشرة حتى النظرة الإيديولوجية الثاوية وراءها، والمنظور الكولونيالي الذي تتشبع به.
فرجات التاريخ، من الصورة إلى الكارت بوسطال
الصورة الفوتوغرافية ذات طابع فرجوي ولهذا فهي تفصح عن طبيعتها تلك حين تتحول إلى كارت بوسطال وتأخذ أبعادا أخرى. وليس من الغريب، بل إنه لأمر منطقي أن يتحول هذا الطابع الفرجوي، المرتبط بتخليد انتصارات المعمّر العسكرية والتحديثية والاحتلالية، إلى ما يشبه الحدّ الذي به تتحدَّد الفوتوغرافيا الكولونيالية. إذ إننا لاحظنا أن الأرشيفات العسكرية البصرية لم تكن تتسم بالسرية لأن الأفلام الوثائقية كانت تعرض هنا وهناك في ما بين الضفتين، كما أن أغلب الصور الفوتوغرافية التي نعثر عليها في وثائق وزارة الخارجية نعثر عليها بالمقابل وقد تحولت إلى بطائق بريدية. وهو أمر يبين عن تجاوز الفعل الفوتوغرافي لضرورات التوثيق والمتابعة ليتحول إلى خطاب بصري يعبر عن عقلية وعصر بكامله بقيمه ومطامحه.
إن تحول الفوتوغرافيا التسجيلية إلى كارت بوسطال يفصح عن أمرين هامين في نظرنا وفي نظرتنا لتحولات الفعل الفوتوغرافي الكولونيالي. فهو يهدف أولا إلى تعميم النظرة الجمالية والتسجيلية للمستعِمر وتبليغها لتتحول هذه النظرة إلى فعل تواصلي من خلال الفوتوغرافيا، بحيث يتمّ التعبير من خلال الصورة عن سلطة النظرة القادرة على نقل الخبر البصري عن الآخر في بدائيته الآسرة، وتبيان التفوق التقني والخبري ومن ثم الإمساك بروح الآخر من خلال تأبيده في الصورة.
وهو من ناحية ثانية، يستهدف التثبيت الإثنوغرافي لنمْذجة الآخر من خلال نماذج types ترتبط إلى حدّ كبير بتلك التي ابتكرها الفن التشكيلي الاستشراقي، ولكن بمنحها هنا طابعا "واقعيا". الصورة الإثنوغرافية صورة كارطبوسطالية بامتياز لأنها تقدم الآخر باعتباره كيانا نموذجيا للفرجة: إنه شخص يمارس وضعية التصوير أو تفرض عليه، من حيث إن الوضعية Pose ضرب من الراحة pause التي تعزل الآخر عن سياقه وتحوله إلى موضوع مطلق للصورة بكل تقنياتها من تأطير وتجميد.... وربما كان الوجه في هذا السياق مفتاح التعرُّف reconnaissance الإثنوغرافي لأنه يقدم مجموعة من الملامح التي كانت الصورة الكاريكاتورية قد تمكنت منها في فترة معينة هي فترة أولى قبل شيوع الفوتوغرافيا. إن هذه النمذجة الإثنوغرافية هي وسيلة لتصنيف الآخر البدائي والتعرف عليه.
العنف المزدوج للفوتوغرافيا الكولونيالية
ثمة ما يجعل الفوتوغرافيا بالأخص والتصوير عموما في بلاد من قَبيل المغرب أمرا يتميز بعنف مزدوج: عنف خرق المعتقد الخاص بتحريم التصوير الذي ساد بالمغرب بشكل أكثر حدة وحرْفية منه في بلدان أخرى، مغاربية أو عربية، نظرا للانغلاق الذي عرفه المغرب حتى نهايات القرن التاسع عشر. ففي الجزائر القريبة، المستعمرة منذ ثلاثينيات ذلك القرن، مورس فيها التصوير بشتى أشكاله، أما تونس وغيرها من البلدان العربية فقد كانت تحت الهيمنة العثمانية التي كانت تحتمل التصوير. هذا العنف المزدوج يتبدّى في ضربين من الصور التي تجعل من التصوير الفوتوغرافي مرة أخرى فعلا مزدوجا: فعل تصوير ينتج الصورة، وفعل تصوير ينزع عن المصوّر غيريَّته ويلحقه بالذات:
الأول منهما يتعلق بالتصوير الذي مورس قهرا على الذوات المغربية لأغراض أرشيفية وإدارية وتوثيقية، كما نجد ذلك في وقت "التهدئة" وخلال الاعتقالات وحالات الاستسلام وتوثيق صور بعض القواد والأعيان المستسلمين أو المهزومين، الذين تفرض عليهم وضعية الوقوف أمام الكاميرا ليتم التقاط صور لهم مواجهة ومن الجانب. ثمة نموذج جزائري، ربما يكون قد مورس بشكل جزئي بالمغرب يفصح عنه كتاب موريس غارانجي "نساء جزائريات"، يتحدث فيه المصور عن تجربته في تصوير النساء الجزائريات سنة 1960، حين قررت الحكومة الفرنسية بالجزائر وضع بطاقات هوية لكل "الأهالي". فوجد المصور المكلف بذلك نفسه يصور أكثر من مائتي شخص في اليوم، ومن بينهم نساء. وكان على هؤلاء النساء طبعا أن ينزعن عنهن النقاب لضرورات التصوير. وبهذا الصدد كتب فليب دوبوا في كتابه الفعل الفوتوغرافي: "إنها تعرية رهيبة لوجوه النساء، في استهزاء بكل تقاليد البلد. ونحن نستنبط علاقات القوة المتحكمة في ذلك، والسحق والاعتداء والإهانة التي تؤدي إليها وضعية من ذاك القبيل. بالجملة ثمة مركز كل عنف وعماء الاستعمار. لكن، حين نرى إلى تلك الصور للنساء الجزائريات السافرات، المستعرضات حرفيا للتلصُّص البصري البوليسي للمستعمر، وحين نتفحصهن في سفور وجههن، وخاصة في المواجهة الصارمة والكاملة لنظرتهن (في المقابل التام لعيننا)، علينا أن نعترف بأن ليس ثمة أي أثر للخجل أو العار أو الهروب أو الهزيمة".
والثاني عبارة عن صور تمثل حالة "قهرية" أخرى تتمثل في اللجوء إلى المومسات والبنات والنساء الفقيرات ليتم التقاط صور لهن باعتبارهن "نماذج موريسكية أو مغربية أو حضرية أو قروية"، بل أحيانا لتعريتهن جزئيا أو كليا وتحويل تلك الصور بعد تلوينها أحيانا باليد إلى كارتبوسطالات موجهة بالأخص للخارج. تخضع هذه الصور لهمَّين مختلفين ومتواشجين أحيانا: هم التعرف الإثنوغرافي وهمُّ النمذجة التي كان يقوم بها مصورون تجاريون هدفهم الأول أن يقدموا المغرب الغريب العجيب pittoresque للمشاهدين الغربيين المتعطشين للجديد الآتي إليهم مما وراء البحار.
قد تصلح الفوتوغرافيا لجمّاعي الصور العتيقة؛ غير أنها تظل مع ذلك صورا ناضحة بالتاريخ، تفصح عن نظرة الآخر في طابعها الإيديولوجي، كما في طابعها التأريخي. إنها اقتطاع لحيوات ومسْرحة لكائنات مقهورة وخاضعة، غير أنها من جهة أخرى تُبين عن معاني أخرى يلزم أن ننتبه لها لعلاقتها بماضينا التاريخي. الصورة الكولونيالية لا تغير التاريخ كليةً لأن هذا التاريخ يتسلل إليها رغما عن كل ما تحمله من منظور كولونيالي... وثمة يكمن التباسها وقوتها وقدرتها على الإفصاح عن اللامرئي المباشر... يكفينا فقط أن نعرف كيف نقرأها وننفُذ بعيوننا الفطنة إلى ثرائها الداخلي...
فريد الزاهي
فوتوغراف
رولان بارث
شارك هذا المقال
حجم الخط
يستهل رولان بارث كتابه الغرفة الوضيئة (1980) بما يلي: "في يوم ما من وقت سحيق، عثرت على صورة فوتوغرافية لجيروم الأخ الأكبر لنابوليون (1852)، فقلت في نفسي حينها بدهشة لم أستطع أبدا أن أحد منها: (أنا أرى العينين اللتين رأتا الإمبراطور)". وبالرغم من النزعة المرآوية المضاعفة لهذه الشهادة فإنها تنبئ عن الوساطة الغريبة التي تمارسها الفوتوغرافيا، بين الحاضر والغائب وبين الذات وذوات أخرى، بل بين الذات والتاريخ. إنها شهادة واستحضار في آن واحد. وفي ذلك تكمن قوتها وسلطتها.
هل لنا أن نقول الشيء نفسه عن الصور التي تجعلنا ماثلين أمام مغرب ومغاربة نهاية القرن التاسع عشر وبدايات وأواسط القرن العشرين؟
نستطيع أن نعبر عن هذا الإحساس بقدرة الصورة على منحنا، في ما وراء الزمن، معرفة ما يثوي خلف الفضاء الحاضر، بعد التحولات التي عرفتها الأماكن والناس والحياة. وفي تلك الرعشة التي تصيبنا ونحن نرى الشكل الأول لمناطق طفولتنا، وللإحساس الغريب بمشاهدة أولئك الذين عاشوا في تلك الأماكن بزي مغاير ووعي آخر... إنهم نسخ فائتة منا يعبقون ربما بروحنا ونفَسنا، من يدري؟
الصورة والتاريخ...
تأتي علاقة الفوتوغرافيا بالتاريخ من طبيعتها و"جوهرها". إنها تلتقط المرئي في حدثيته وتعيّنه من حيث هو كذلك. وربما لهذا السبب، أي نظرا لطابعها التناظري مع ما تعيّنه وتشير إليه، ولعلاقتها الوثيقة بالمرئي إلى حدود التماهي البصري، طال الزمن كي يتم الاعتراف بالفوتوغرافيا كفن. فقد سرقت السينما منها طابعها الفني في تناسل الصور وحركيتها وخلقها للحكاية التخييلية. الصورة دائما تعيين لهذا الشيء أو لذاك الفضاء أو الشخص لتحمله إلى الخلود في شكله ذاك وفي اللحظة تلك. فهي في مباشرتها لا تنفصل عن مرجعيتها إلا بما نريد لها أن تنفصل عنه وفي وقت لاحق.
"الصورة الفوتوغرافية، كما يردد بارث، تملك بطبيعتها شيئا من تحصيل الحاصل: الغليون فيها دائما غليون لا يمكن تغييره". لعل هذا التعريف هو ما يجعل الصورة الفوتوغرافية أوثق وثيقة في علاقتها بالماضي لأنها تستحضره كما لو كان يوجد هنا والآن أمام نظرنا، خلافا للوثيقة التاريخية أو للتأريخ الذي يكون في الآن نفسه تاريخا وحكاية (Histoire/histoire). يتحدث بارث عن الفوضى التي تطبع الفوتوغرافيا والتي تجعلها غير قابلة للتصنيف. هذه الفوضى تتبدى في الصورة الكولونيالية بما لا يدع مجالا للشك. هذا القائد العسكري أو ذاك يكون في رحلة "للتهدئة"، يتابع هذا الحدث أو ذاك، ويعود بكاتالوغ مليء بالصور ويهدي هذه الصور للمقيم العام، الجنرال ليوطي من باب التقدير المرجعي. ومن بين هذه الصور يجد الباحث العديد من اللقطات التي لا علاقة لها مباشرة بعملية التهدئة وبالحرب وبالأسرى والقتلى. هكذا تنشدُّ عدسة المصور إلى نساء المنطقة وإلى الصبيان، بل إلى الحيوانات حتى، منفصلا عن مهمته التوثيقية إلى حد كبير ليقوم بمهمة الإثنوغرافي.
بيد أن هذه الطبيعة التوثيقية للفوتوغرافيا ليست من قبيل الطبيعة التوثيقية للوثيقة التاريخية. فإذا كانت الوثيقة تهمس بالتاريخ وتتلبس بالإيديولوجيا، فإن الصورة تفضح ما تصوره لأنها تكشفه وتكشف عنه وتتطلب فرجة (تاريخية متجددة). إنها تفضح مباشرة حتى النظرة الإيديولوجية الثاوية وراءها، والمنظور الكولونيالي الذي تتشبع به.
فرجات التاريخ، من الصورة إلى الكارت بوسطال
الصورة الفوتوغرافية ذات طابع فرجوي ولهذا فهي تفصح عن طبيعتها تلك حين تتحول إلى كارت بوسطال وتأخذ أبعادا أخرى. وليس من الغريب، بل إنه لأمر منطقي أن يتحول هذا الطابع الفرجوي، المرتبط بتخليد انتصارات المعمّر العسكرية والتحديثية والاحتلالية، إلى ما يشبه الحدّ الذي به تتحدَّد الفوتوغرافيا الكولونيالية. إذ إننا لاحظنا أن الأرشيفات العسكرية البصرية لم تكن تتسم بالسرية لأن الأفلام الوثائقية كانت تعرض هنا وهناك في ما بين الضفتين، كما أن أغلب الصور الفوتوغرافية التي نعثر عليها في وثائق وزارة الخارجية نعثر عليها بالمقابل وقد تحولت إلى بطائق بريدية. وهو أمر يبين عن تجاوز الفعل الفوتوغرافي لضرورات التوثيق والمتابعة ليتحول إلى خطاب بصري يعبر عن عقلية وعصر بكامله بقيمه ومطامحه.
إن تحول الفوتوغرافيا التسجيلية إلى كارت بوسطال يفصح عن أمرين هامين في نظرنا وفي نظرتنا لتحولات الفعل الفوتوغرافي الكولونيالي. فهو يهدف أولا إلى تعميم النظرة الجمالية والتسجيلية للمستعِمر وتبليغها لتتحول هذه النظرة إلى فعل تواصلي من خلال الفوتوغرافيا، بحيث يتمّ التعبير من خلال الصورة عن سلطة النظرة القادرة على نقل الخبر البصري عن الآخر في بدائيته الآسرة، وتبيان التفوق التقني والخبري ومن ثم الإمساك بروح الآخر من خلال تأبيده في الصورة.
وهو من ناحية ثانية، يستهدف التثبيت الإثنوغرافي لنمْذجة الآخر من خلال نماذج types ترتبط إلى حدّ كبير بتلك التي ابتكرها الفن التشكيلي الاستشراقي، ولكن بمنحها هنا طابعا "واقعيا". الصورة الإثنوغرافية صورة كارطبوسطالية بامتياز لأنها تقدم الآخر باعتباره كيانا نموذجيا للفرجة: إنه شخص يمارس وضعية التصوير أو تفرض عليه، من حيث إن الوضعية Pose ضرب من الراحة pause التي تعزل الآخر عن سياقه وتحوله إلى موضوع مطلق للصورة بكل تقنياتها من تأطير وتجميد.... وربما كان الوجه في هذا السياق مفتاح التعرُّف reconnaissance الإثنوغرافي لأنه يقدم مجموعة من الملامح التي كانت الصورة الكاريكاتورية قد تمكنت منها في فترة معينة هي فترة أولى قبل شيوع الفوتوغرافيا. إن هذه النمذجة الإثنوغرافية هي وسيلة لتصنيف الآخر البدائي والتعرف عليه.
العنف المزدوج للفوتوغرافيا الكولونيالية
ثمة ما يجعل الفوتوغرافيا بالأخص والتصوير عموما في بلاد من قَبيل المغرب أمرا يتميز بعنف مزدوج: عنف خرق المعتقد الخاص بتحريم التصوير الذي ساد بالمغرب بشكل أكثر حدة وحرْفية منه في بلدان أخرى، مغاربية أو عربية، نظرا للانغلاق الذي عرفه المغرب حتى نهايات القرن التاسع عشر. ففي الجزائر القريبة، المستعمرة منذ ثلاثينيات ذلك القرن، مورس فيها التصوير بشتى أشكاله، أما تونس وغيرها من البلدان العربية فقد كانت تحت الهيمنة العثمانية التي كانت تحتمل التصوير. هذا العنف المزدوج يتبدّى في ضربين من الصور التي تجعل من التصوير الفوتوغرافي مرة أخرى فعلا مزدوجا: فعل تصوير ينتج الصورة، وفعل تصوير ينزع عن المصوّر غيريَّته ويلحقه بالذات:
الأول منهما يتعلق بالتصوير الذي مورس قهرا على الذوات المغربية لأغراض أرشيفية وإدارية وتوثيقية، كما نجد ذلك في وقت "التهدئة" وخلال الاعتقالات وحالات الاستسلام وتوثيق صور بعض القواد والأعيان المستسلمين أو المهزومين، الذين تفرض عليهم وضعية الوقوف أمام الكاميرا ليتم التقاط صور لهم مواجهة ومن الجانب. ثمة نموذج جزائري، ربما يكون قد مورس بشكل جزئي بالمغرب يفصح عنه كتاب موريس غارانجي "نساء جزائريات"، يتحدث فيه المصور عن تجربته في تصوير النساء الجزائريات سنة 1960، حين قررت الحكومة الفرنسية بالجزائر وضع بطاقات هوية لكل "الأهالي". فوجد المصور المكلف بذلك نفسه يصور أكثر من مائتي شخص في اليوم، ومن بينهم نساء. وكان على هؤلاء النساء طبعا أن ينزعن عنهن النقاب لضرورات التصوير. وبهذا الصدد كتب فليب دوبوا في كتابه الفعل الفوتوغرافي: "إنها تعرية رهيبة لوجوه النساء، في استهزاء بكل تقاليد البلد. ونحن نستنبط علاقات القوة المتحكمة في ذلك، والسحق والاعتداء والإهانة التي تؤدي إليها وضعية من ذاك القبيل. بالجملة ثمة مركز كل عنف وعماء الاستعمار. لكن، حين نرى إلى تلك الصور للنساء الجزائريات السافرات، المستعرضات حرفيا للتلصُّص البصري البوليسي للمستعمر، وحين نتفحصهن في سفور وجههن، وخاصة في المواجهة الصارمة والكاملة لنظرتهن (في المقابل التام لعيننا)، علينا أن نعترف بأن ليس ثمة أي أثر للخجل أو العار أو الهروب أو الهزيمة".
والثاني عبارة عن صور تمثل حالة "قهرية" أخرى تتمثل في اللجوء إلى المومسات والبنات والنساء الفقيرات ليتم التقاط صور لهن باعتبارهن "نماذج موريسكية أو مغربية أو حضرية أو قروية"، بل أحيانا لتعريتهن جزئيا أو كليا وتحويل تلك الصور بعد تلوينها أحيانا باليد إلى كارتبوسطالات موجهة بالأخص للخارج. تخضع هذه الصور لهمَّين مختلفين ومتواشجين أحيانا: هم التعرف الإثنوغرافي وهمُّ النمذجة التي كان يقوم بها مصورون تجاريون هدفهم الأول أن يقدموا المغرب الغريب العجيب pittoresque للمشاهدين الغربيين المتعطشين للجديد الآتي إليهم مما وراء البحار.
قد تصلح الفوتوغرافيا لجمّاعي الصور العتيقة؛ غير أنها تظل مع ذلك صورا ناضحة بالتاريخ، تفصح عن نظرة الآخر في طابعها الإيديولوجي، كما في طابعها التأريخي. إنها اقتطاع لحيوات ومسْرحة لكائنات مقهورة وخاضعة، غير أنها من جهة أخرى تُبين عن معاني أخرى يلزم أن ننتبه لها لعلاقتها بماضينا التاريخي. الصورة الكولونيالية لا تغير التاريخ كليةً لأن هذا التاريخ يتسلل إليها رغما عن كل ما تحمله من منظور كولونيالي... وثمة يكمن التباسها وقوتها وقدرتها على الإفصاح عن اللامرئي المباشر... يكفينا فقط أن نعرف كيف نقرأها وننفُذ بعيوننا الفطنة إلى ثرائها الداخلي...