حال الفوتوغرافيا اليوم: تمرّد الصورة
نجيب مبارك
فوتوغراف
سقوط مقاتل إسباني عام 1936 للمصور روبرت كابا(فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمّة أجوبة كثيرة عن سؤال: كيف حال الصورة الفوتوغرافية اليوم؟ وهذا السؤال بخصوص فن الفوتوغرافيا، يشبه إلى حد بعيد السؤال الذي نكرّره مرّات عديدة في اليوم كلّما التقينا شخصاً نعرفه: "كيف حالك؟". ومن بين هذه الأجوبة الممكنة ما تقترحه الناقدة الإسبانية مارتا خيلي، في مقالة نُشرت أخيراً في الملحق الثقافي لجريدة البايس. إنّ جزءاً هاماً من الإبداع الفوتوغرافي المعاصر، حسب هذه الناقدة، صار يُدرك أكثر فأكثر أنّ الصورة هي عبارة عن احتكاك بين ما يُرى وما لا يُرى. وهذه الملاحظة تصير أكثر وضوحاً في وقت لم تعد فيه التكهّنات حول الطبيعة الخالصة للوسيط الفوتوغرافي تشكّل هدفاً في حدّ ذاتها، كما في الماضي، وإنّما صار الوسيط جزءاً أساسياً من المناقشات الكبرى متعدّدة التخصصات حول مجتمعنا العالمي المعاصر، المعقّد والمتحوّل على الدوام.
مستلهماً من الفلسفة والأنثروبولوجيا، ومن التاريخ والسوسيولوجيا، ومن العلوم بشكل عام، وكلّ مجالات المعرفة والفكر، صار الإبداع الفوتوغرافي مجالاً خصباً لاستكشاف تعايش مختلف نُظم الرؤية، لأنّه يميط اللّثام عن التوافقات، والثغرات، وأوجه التشابه القائمة بينها. في مرّات عدة، لا يتعلّق الأمر فقط بإنتاج صور بجودة تقنية عالية أو بتوازن جمالي مثالي حسب معايير
الحداثة المطلوبة. بل إنّه في كثير من الحالات، يلجأ المصوّرون إلى الأفلام أو الأرشيف الفوتوغرافي، أو إلى صور تمّ التقاطها لأغراض طبية أو قانونية، أو حتّى يستخدمون السرد الخيالي للكشف نهائياً عن مناطق الظلّ الخاصة بنماذج وممارسات الحكام والسلطة. وهذا يعني أنّ الفوتوغرافيا صارت تشمل جميع الجوانب التي تشكّل الجزء الأكبر من تجربتنا الإدراكية، وبالتالي الاجتماعية والسياسية، بحيث غالباً ما تكون للصور ذاتها مسؤولية مشتركة.
خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، سعى بعض المصوّرين الفوتوغرافيين، بجدّية وحماس، إلى تخليص أعمالهم الفوتوغرافية من الحقيقة والمعنى المزدوج. ثمّة إمكانيات لانهائية يمتلكها التّصوير في مجال المحاكاة، والخداع، وتحويل ما يظهر في الواقع إلى ما يُراد إثارة الانتباه إليه من مفارقات وحِيل يقوم بها الوسيط الفوتوغرافي باعتباره ضامناً لتمثُّل العالم في شكل من الأشكال. ومع نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وفي ظلّ ظهور علامات على استنفاد الحقيقة ومعها إمكانات الوسيط الفوتوغرافي، يبدو أنّ هناك ميلاً إلى نوع من القبول بأنّ الصور وحدها لم تعد تخبرنا بأيّ شيء في نهاية المطاف.
ربما لهذا السبب، شرع بعض المبدعين المعاصرين في الاضطلاع بمهمّة فكّ رموز الصمت الكامن في الصور، بما تُضمره وتحجم عن إبرازه، من أجل العثور على حكايات أخرى، أو نَقْلِ الدلالات من مواضعها، بغرض خلق معان جديدة كان يصعب الوصول إليها حتّى الآن. وهذا أمر غير مسبوق. نحن نعلم أنّ التصوير الفوتوغرافي، منذ اختراعه، انخرط بشغف كبير في محاولة تسجيل العالم، أي تصوير حالة العالم كما هو. وكثير من المصوّرين البارعين منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم تناوبوا الوقوف خلف كاميراتهم لتصوير وعرض العالم ووصفه، مدافعين عن مواقف متغيرّة ضد الواقع، وهي مواقف انتقلت من الذاتية الواعية إلى الموضوعية الصريحة. ومع ذلك، في القرن 21، مع وصول أشكال ضخمة من الإنتاج والتوزيع وتداول الصور واستهلاكها (التصوير الرقمي، الإنترنت، الشبكات الاجتماعية، وما إلى ذلك)، فرضت الصّور نفسها على هذا الواقع. ثمّ إنّه صار من الشائع، مع عملية تسويق المشاعر المرئية، أن يتمّ التشكيك في القيمة الخاصة لهذه المشاعر وسبل التحقق منها.
هنا، وصلنا إلى المفارقة التاريخية. هل الصور لم تعد في حاجة إلى من يشاهدها؟ ربّما، على العكس من ذلك. نعم، إنّ الصور تقاوم مَن يتجاهل النظر إليها، أو يقف عند سطحها من دون الرغبة في تأمّلها. وهي في إعلانها التمرّد علينا، تطالب منا الإنصات إليها الآن، بأن نجتهد في تفسير الصمت الذي تحتويه، خصوصاً في مرحلتها الراهنة، ما دام أنها صارت تمارس عملها بشكل نقدي على وجهات نظر حقيقية، وتقوم بتغييرها. وباختصار، هناك الكثير ممّا يمكن للصّور أن تقوله عنّا، خصوصاً وأن الأُذن صارت مشحونة جداً والواقع أضحى إشكالياً. إنّ الإبداع الفني عرف دائماً مراحل قطيعة، ومن خصائص الفنّ أنّه يسائل باستمرار حدوده، أبعاده وأصنافه. ومع ذلك، عانى الإبداع الفوتوغرافي وما زال يعاني من شكل من أشكال
"الغيتوات"، ساهم في انتشارها عدد من التقلبات التاريخية والثقافية المختلفة، التي حالت في بعض الأحيان من اتّخاذ المسافة النقدية الضرورية لمساءلة هذا الفن. ربما نكون قد وصلنا إلى نقطة صارت فيها القطيعة والتحرّر ينبعان من الصور ذاتها، ويمكن أن يكون هذا واحداً من الأجوبة الكثيرة عن الوضعية الراهنة للصورة الفوتوغرافية. إنّ هذه الصور نفسها هي الّتي تسائل حدودها الخاصة، مبرزةً في الوقت ذاته "مَسامّيتها" وأسرارها الكامنة.
إنّ استكشاف العالم من خلال هذه الصور المتمرّدة ينطوي على البحث، بشكل نقدي ومستقل، عن الوضعية الراهنة للفن الفوتوغرافي (من خلال التساؤل ليس عن "حالته الراهنة" فقط، وإنما عن "حالتنا المشتركة الراهنة" أيضاً). هذا يفرض كذلك تشجيع التجارب الحسّية والعاطفية التي تسمح بالمقارنة بين ما نشاهده وما نعيشه، بين ما نعرفه وما نجهله، بمعنى مساءلة الأفكار الجاهزة والمسبقة من كلّ نوع، وتحليل عمليات الإدراك، وكيفية خلق الأحاسيس، والأفكار، ودراسة توجّهات حياة المواطنين، والثقافات في مختلف السياقات الاجتماعية، السياسية والاقتصادية. وباختصار، توفير فضاء عام يمنح المعنى للتجربة.
في مواجهة تمرّد الصورة، يجب على الممارسات الفوتوغرافية اتخاذ القرارات والتصرّف وفقاً لذلك. وفي المقابل، يجب أن يدمج المصورون الفوتوغرافيون ضمن مطالبهم ويعترفوا بضرورة العمل على هذه الصور بطريقة مختلفة، من خلال التخلّي عن النظر إلى الصورة الفوتوغرافية بكونها إمّا "واحدة" أو "كلّية"، بحسب اقتراح الفيلسوف الفرنسي جورج ديدي- هوبرمان، أو نبقى، كما هي الحال دائماً، في وضع المراقب أمام صور تتوالى من شاشة إلى أخرى، ومن صفحة إلى أخرى، ونحن نهمس مراراً وتكراراً: "كل شيء على ما يرام".
نجيب مبارك
فوتوغراف
سقوط مقاتل إسباني عام 1936 للمصور روبرت كابا(فرانس برس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمّة أجوبة كثيرة عن سؤال: كيف حال الصورة الفوتوغرافية اليوم؟ وهذا السؤال بخصوص فن الفوتوغرافيا، يشبه إلى حد بعيد السؤال الذي نكرّره مرّات عديدة في اليوم كلّما التقينا شخصاً نعرفه: "كيف حالك؟". ومن بين هذه الأجوبة الممكنة ما تقترحه الناقدة الإسبانية مارتا خيلي، في مقالة نُشرت أخيراً في الملحق الثقافي لجريدة البايس. إنّ جزءاً هاماً من الإبداع الفوتوغرافي المعاصر، حسب هذه الناقدة، صار يُدرك أكثر فأكثر أنّ الصورة هي عبارة عن احتكاك بين ما يُرى وما لا يُرى. وهذه الملاحظة تصير أكثر وضوحاً في وقت لم تعد فيه التكهّنات حول الطبيعة الخالصة للوسيط الفوتوغرافي تشكّل هدفاً في حدّ ذاتها، كما في الماضي، وإنّما صار الوسيط جزءاً أساسياً من المناقشات الكبرى متعدّدة التخصصات حول مجتمعنا العالمي المعاصر، المعقّد والمتحوّل على الدوام.
مستلهماً من الفلسفة والأنثروبولوجيا، ومن التاريخ والسوسيولوجيا، ومن العلوم بشكل عام، وكلّ مجالات المعرفة والفكر، صار الإبداع الفوتوغرافي مجالاً خصباً لاستكشاف تعايش مختلف نُظم الرؤية، لأنّه يميط اللّثام عن التوافقات، والثغرات، وأوجه التشابه القائمة بينها. في مرّات عدة، لا يتعلّق الأمر فقط بإنتاج صور بجودة تقنية عالية أو بتوازن جمالي مثالي حسب معايير
"الفوتوغرافيا صارت تشمل جميع الجوانب التي تشكّل الجزء الأكبر من تجربتنا الإدراكية، وبالتالي الاجتماعية والسياسية، بحيث غالباً ما تكون للصور ذاتها مسؤولية مشتركة" |
خلال الثلث الأخير من القرن العشرين، سعى بعض المصوّرين الفوتوغرافيين، بجدّية وحماس، إلى تخليص أعمالهم الفوتوغرافية من الحقيقة والمعنى المزدوج. ثمّة إمكانيات لانهائية يمتلكها التّصوير في مجال المحاكاة، والخداع، وتحويل ما يظهر في الواقع إلى ما يُراد إثارة الانتباه إليه من مفارقات وحِيل يقوم بها الوسيط الفوتوغرافي باعتباره ضامناً لتمثُّل العالم في شكل من الأشكال. ومع نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وفي ظلّ ظهور علامات على استنفاد الحقيقة ومعها إمكانات الوسيط الفوتوغرافي، يبدو أنّ هناك ميلاً إلى نوع من القبول بأنّ الصور وحدها لم تعد تخبرنا بأيّ شيء في نهاية المطاف.
ربما لهذا السبب، شرع بعض المبدعين المعاصرين في الاضطلاع بمهمّة فكّ رموز الصمت الكامن في الصور، بما تُضمره وتحجم عن إبرازه، من أجل العثور على حكايات أخرى، أو نَقْلِ الدلالات من مواضعها، بغرض خلق معان جديدة كان يصعب الوصول إليها حتّى الآن. وهذا أمر غير مسبوق. نحن نعلم أنّ التصوير الفوتوغرافي، منذ اختراعه، انخرط بشغف كبير في محاولة تسجيل العالم، أي تصوير حالة العالم كما هو. وكثير من المصوّرين البارعين منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم تناوبوا الوقوف خلف كاميراتهم لتصوير وعرض العالم ووصفه، مدافعين عن مواقف متغيرّة ضد الواقع، وهي مواقف انتقلت من الذاتية الواعية إلى الموضوعية الصريحة. ومع ذلك، في القرن 21، مع وصول أشكال ضخمة من الإنتاج والتوزيع وتداول الصور واستهلاكها (التصوير الرقمي، الإنترنت، الشبكات الاجتماعية، وما إلى ذلك)، فرضت الصّور نفسها على هذا الواقع. ثمّ إنّه صار من الشائع، مع عملية تسويق المشاعر المرئية، أن يتمّ التشكيك في القيمة الخاصة لهذه المشاعر وسبل التحقق منها.
هنا، وصلنا إلى المفارقة التاريخية. هل الصور لم تعد في حاجة إلى من يشاهدها؟ ربّما، على العكس من ذلك. نعم، إنّ الصور تقاوم مَن يتجاهل النظر إليها، أو يقف عند سطحها من دون الرغبة في تأمّلها. وهي في إعلانها التمرّد علينا، تطالب منا الإنصات إليها الآن، بأن نجتهد في تفسير الصمت الذي تحتويه، خصوصاً في مرحلتها الراهنة، ما دام أنها صارت تمارس عملها بشكل نقدي على وجهات نظر حقيقية، وتقوم بتغييرها. وباختصار، هناك الكثير ممّا يمكن للصّور أن تقوله عنّا، خصوصاً وأن الأُذن صارت مشحونة جداً والواقع أضحى إشكالياً. إنّ الإبداع الفني عرف دائماً مراحل قطيعة، ومن خصائص الفنّ أنّه يسائل باستمرار حدوده، أبعاده وأصنافه. ومع ذلك، عانى الإبداع الفوتوغرافي وما زال يعاني من شكل من أشكال
"شرع بعض المبدعين المعاصرين في الاضطلاع بمهمّة فكّ رموز الصمت الكامن في الصور، بما تُضمره وتحجم عن إبرازه، من أجل العثور على حكايات أخرى" |
إنّ استكشاف العالم من خلال هذه الصور المتمرّدة ينطوي على البحث، بشكل نقدي ومستقل، عن الوضعية الراهنة للفن الفوتوغرافي (من خلال التساؤل ليس عن "حالته الراهنة" فقط، وإنما عن "حالتنا المشتركة الراهنة" أيضاً). هذا يفرض كذلك تشجيع التجارب الحسّية والعاطفية التي تسمح بالمقارنة بين ما نشاهده وما نعيشه، بين ما نعرفه وما نجهله، بمعنى مساءلة الأفكار الجاهزة والمسبقة من كلّ نوع، وتحليل عمليات الإدراك، وكيفية خلق الأحاسيس، والأفكار، ودراسة توجّهات حياة المواطنين، والثقافات في مختلف السياقات الاجتماعية، السياسية والاقتصادية. وباختصار، توفير فضاء عام يمنح المعنى للتجربة.
في مواجهة تمرّد الصورة، يجب على الممارسات الفوتوغرافية اتخاذ القرارات والتصرّف وفقاً لذلك. وفي المقابل، يجب أن يدمج المصورون الفوتوغرافيون ضمن مطالبهم ويعترفوا بضرورة العمل على هذه الصور بطريقة مختلفة، من خلال التخلّي عن النظر إلى الصورة الفوتوغرافية بكونها إمّا "واحدة" أو "كلّية"، بحسب اقتراح الفيلسوف الفرنسي جورج ديدي- هوبرمان، أو نبقى، كما هي الحال دائماً، في وضع المراقب أمام صور تتوالى من شاشة إلى أخرى، ومن صفحة إلى أخرى، ونحن نهمس مراراً وتكراراً: "كل شيء على ما يرام".