صناديق فيفيان ماير.. حياة بالمزاد العلني
غسان مفاضلة
فوتوغراف
فيفيان ماير (1 فبراير 1926 – 21 أبريل 2009)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"لقد أحضرت معي حياتي كلّها".. هذه ليست، دائماً، عبارةٌ مجازيّةٌ كما توحي به من الوهلة الأولى. فهي بالنسبة للمصورة الأميركية فيفيان ماير (1926- 2009) حين فاجأت بها إحدى العائلات التي حلّت عندها للعناية بأطفالها، كانت تعني "الحياة كلّها" بتضاريسها وتفاصيلها التي أطبقت عليها في صناديقها الأثيرة.
مخبوءات الصناديق التي كانت ترافقها على مدار 40 عاماً، أثناء عملها في تدبير المنازل والعناية بالأطفال داخل مدينة شيكاغو وخارجها، لم ترَ النور إلا بعد أن بيعت في المزاد العلني قبيل وفاتها عن عمر 83 عاماً في دارٍ للرعاية الصحية، إثر ارتطام رأسها بالأرض من على مقعدٍ خشبيٍ، قُبالة شاطئ البحر.
صناديق ماير المولودة في مدينة نيويورك من أبٍ ألماني وأمّ فرنسية، تكاد تتطابق مع شخصيّتها "المتحفّظة والغامضة والمنغلقة" بحسب من عملت لديهم. شخصيّةٌ ترتبطُ مباشرةً بحميمية "الصندوق" ومماثلته بـ "بيت الأسرار" الوثيق الصلة عند غاستون باشلار بفلسفة الامتلاك وسيكولوجية "الحالمين بالأقفال". فالصناديق مقرونةٌ على الدوام بالحاجة السريّة والحدسيّة لأماكن الإخفاء. لكن، ما الذي كانت تخفيه تلك الصناديق المحكمة الإغلاق؟!.. كانت تخفي "حياتها كلّها".. تخفي كل شيء يخصّها وحدها؛ يخصّ شخصيتها، ويخصّ نظرتها للوجود (بالأحرى نظرتها للحياة وللموت) بصورةٍ ناصعةٍ، مرئيةٍ ومريبةٍ وخاطفةٍ. نعم، خاطفةٌ تماماً، مثلما كانت تخطفُ وميض الإشارة من مشهدياتها بعينٍ صائدة؛ حاذقةٍ وحادةٍ وواخزةٍ. وهو ما نلمحه ونقرأه عِبر أي صورةٍ نقعُ عليها من بين عشرات آلاف الصور التي تركتها مكدسةً في صناديقها.
اكتشاف فيفيان ماير
المصادفة وحدها قادت الشاب الثلاثيني جون مالوف في العام 2007 إلى ذلك المزاد بحثاً عما يفيده في كتاب كان يعده عن تاريخ المنطقة التي يقطنها في شيكاغو. حصل على أحد صناديق ماير بمبلغ 380 دولاراً، ليجد فيه نحو 40 ألف صورة "نيجاتيف" بالأسود والأبيض وغير مظهّرة. وبعد أقل من سنتين سوف يحصل الشاب نفسه، على أكثر من 150 ألف صورة موزعة في صناديق أخرى، وجميعها التقطت ما بين 1950 و 1970 في شيكاغو ونيويورك والعديد من عواصم ومدن العالم التي سافرت اليها في العام 1959 من بينها: تايلاند، ومصر، واليمن، وإيطاليا وفرنسا والصين والمغرب وسورية وكندا والفلبين، وهي بمشاهدها المتنوعة التي التقطتها بكاميرا ألمانية الصنع من نوع "رولفلكس" Rolleiflex، تنتمي إلى فن "تصوير الشارع" بمفرداته ومؤثثاته؛ من أطفالٍ وعمالٍ وعربات ٍ وحوانيت ومشردين ومبانٍ وطرقاتٍ وحيواناتٍ و"بورتريهاتٍ" وغيرها من تفاصيل الحياة الزاخرة بما هو راسخٌ وهامشيٌ وعابرٌ.
بعد أن قام مالوف بمسح الصور ضوئياً أدهشته جاذبية موضوعاتها وفرادة لقطاتها. ورغم عدم تيقّنه من قيمتها الفنية، ظلّ يتساءل عمن قام بالتقاط هذا العدد الهائل من الصور، ولماذا ظلّت بصورتها السالبة ولم تُظهّر أو تُعرض حتى الآن، وهل هي بالفعل ذات قيمة فنية كما يعتقد هو نفسه، وهل صاحبها ما يزال على قيد الحياة؟ وغيرها من الأسئلة التي ظلّت تحوم في دائرة صور الصندوق.
وبعد أن عثر في محتويات صندوقه على مظروفٍ يحمل إسم فيفيان ماير، راح يبحث عنها في محرك (جوجل) من دون أن يعثر على أي معلومةٍ تشير إليها. ولأن تلك الصور لا تُفيد مشروعه في شيء، قرر الاحتفظ بها في مخزنه لمدة عامين "ظلت الأمور على حالها حتى عام 2009 عندما دفعني الفضول للبحث عنها مرةً أخرى، فوجدت نعيها منشوراً في صفحة الوفيات منذ أيامٍ قليلةٍ. ومنذ ذلك، أصبحت فيفيان شغلي الشاغل"، يقول جون مالوف.
بعد أن أدرك أن صاحبة الصور التي رحلت حديثاً من دون أن تتزوج أو تنجب أطفالاً، تكاد تكون مجهولةً تماماً، وأنّه الوحيد الذي شاهد صورها بعد تظهيرها (حتى قبل أن تشاهدها هي بنفسها)؛ قام بإنشاء مدونة على موقع "فليكر" flicker الخاص بالصور الفوتوغرافية، ونشر فيه 200 صورة مرفقةً بسؤالٍ حول أهميتها، وماذا بإمكانه أن يفعل حيالها.
سرعان ما انتشرت الصور على نطاقٍ واسعٍ، ما حفّز مالوف على التواصل مع الذين اشتروا بقية الصناديق من المزاد، ليشتريها منهم. حصل مجدداً على ما يقارب100 ألف صورة "نيجاتيف" ونحو 700 فيلم فوتوغرافي ملون، و2000 فيلم فوتوغرافي أسود وأبيض، وتسجيلات مرئية ومسموعة. إضافة إلى المقتنيات الهائلة والمتنوعة التي احتوتها تلك الصناديق، من الملابس والأحذية والقبعات والإكسسوارات والنشرات الإعلانية وتذاكر الحافلات والقطارات والصحف والفواتير والقصاصات، وغيرها الكثير، التي سوف تشكّل نقطة البداية في رحلة الكشف عن فنانةٍ لم يطّلع أحدٌ على منجزها طوال حياتها.
تجميع قطع "البازل" وتركيبها
أمام الإرث الهائل من المواد المرئية والمسموعة التي خلّفتها ماير في صناديقها المقفلة، وجد مالوف نفسه أمام مشهدٍ أشبه ما يكون بقطع "البازل" المبعثرة وغير المكتملة. كان عليه أن يجد القطع المنقوصة قبل أن يقوم بتركيبها في مشهديات الفيلم الوثائقي "العثور على فيفيان ماير" Finding Vivian Maier الذي شارك في إعداده وإخراجه مع شارلي سيسكل عام 2013، بالاشتراك مع موقع الـ"بي بي سي"، وحصد العديد من الجوائز الأوروبية، إلى جانب ترشّحه لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي.
بدأ رحلته بما يشبه التحقيق الاستقصائي عن "فتاة الكاميرا" الغامضة والمجهولة. وصل إلى العناوين التي أقامت فيها منذ طفولتها وحتى وفاتها. كانت البداية من الطفولة القاسية التي عانتها بعد أن هجر الأب أسرته، لتواصل طفولتها بين أميركا وفرنسا، مُقيمةً في العديد من دور العناية بالأطفال، ومتنقلةً بين أكثر من أبٍ وأمٍ بدلاء.
تعرّف مالوف على عديدٍ من الأسر التي عملت فيفيان لديها في تدبير المنازل والعناية بالأطفال، وهو العمل الذي بدأته وهي في الـ 25 من عمرها، ولمدة 40 عاماً من دون توقف. العديد من العائلات التي التقاها أجمعت على أن شخصيتها تتسم بالتناقض، والغموض، والتحفّظ. فيما رأى آخرون أن لديها غضباً مكبوتاً، وأنها ربما كانت تعاني مرضاً عقليّاً. والبعض وصف تصرفاتها بالجنون. إحدى العائلات ساورها الشكّ في أن تكون المربية "جاسوسة" خاصةّ أنها كانت تمضي بعض الوصولات، وتعرف نفسها للغرباء، بإسماءٍ مستعارةٍ.
سيدة أخرى كانت ترعاها فيفيان عندما كانت طفلة قالت: "ربما كانت فيفيان نفسها ضحيةً في طفولتها، خصوصاً أنها كانت دائما تحذّرني من الرجال، وتقول إن كل ما يريدونه هو الجنس فقط. وربما تكون قد تعرضت للاغتصاب، أو لاعتداء ما في طفولتها". لكن سيدةً أخرى أكّدت أنّ فيفيان "عاشت حياتها كما أرادت لها أن تكون".
ربما عاشت كما كانت تريد، لكنها بالتأكيد، لم تكن ترغب بالنهاية التراجيدية التي ودّعت بها شيخوختها. أخذ منها الزمن شغفها برصد تمثيلات الحياة وتنويعاتها؛ في الحب، والعنف، والبؤس، والرقّة، والقبح، والسخرية اللاذعة، وفي جميع المفارقات التي انتهت بـ"فتاة الكاميرا" من دون مسكن أو مال، لتُصبح "حياتها كلّها" قبيل أن يرتطم رأسها بالأرض من على مقعدها الأخير؛ معروضةً في المزاد.
من المجهول.. إلى صفحات التاريخ
لم يكتف مالوف بما حقّقته صور ماير التي واصل نشرها على موقع فليكر، من شيوعٍ وحفاوةٍ. فقرّر التواصل مع عددٍ من المتاحف لتنظيم معرضٍ لمختارات من صورها، إلا أنها اعتذرت عن قبول أعمالٍ منسوبةٍ لفنانةٍ مجهولةٍ ومتوفاةٍ. لكنه في آخر المطاف، استطاع تنظيم معارضٍ لصورها في العديد من المدن حول العالم، منها: نيويورك ولندن وألمانيا ولوس أنجلوس والدنمارك. وكان إقبال الناس وزحامهم على تلك المعارض غير مسبوقٍ، ولم تشهده أي معارضٍ فوتوغرافيةٍ من قبل.
من هنا، بدأت الأخبار والصحف والبرامج، تتحدث عن مكانة فيفيان ماير في عالم الصورة الفوتوغرافية، بوصفها واحدة من أهم مصوري القرن العشرين.
المصور جويل ميرفيتز شبّه الانطباع الأول الذي تتركه صورها بـ "البهجة التي تصادفك في الطريق"، ووصف ماير بـ "المصورة العبقرية". بينما وضعتها ماري مارك إلى جانب أربعة مصورين كبار من رواد مصوري الشارع، وهم: روبرت فرانك، وإليزابيت موديل، وهيلين ليفيت، وديان أربيس، وذلك لفرادتها، وإحساسها العالي في تأطير الصورة التي جمعت بين الفكاهي والتراجيدي بلقطةٍ عابرةٍ وواخزةٍ.
بعد وفاتها مباشرة، عبرت ماير من عالم المجهول إلى عالم الأضواء، ليحتل اسمها مكانته البارزة في مدونات التاريخ، كما أراد لها مكتشفها جون مالوف.
حياة في صناديق مقفلة
لا تنفصل صناديق ماير بمخبوءاتها الفوتوغرافية، عن صناديق حياتها الداخلية ونمط شخصيتها. وإذا كان هناك من تماثل بين "هندسة الصندوق وسيكولوجية التلصّص والسريّة"، فإننا نجد تعبيرات هذا التماثل موزعة في جلّ ممارساتها الحياتية والفنية؛ في صناديقها، وفي حجرتها التي تقطنها، وحتى في صندوق الكاميرا الذي عبرت منه إلى مشهديات العالم بخفّةٍ خاطفةٍ.
طلبتْ من بعض العائلات التي تعمل لديها أن تضع قفلاً على حجرتها المكدّسة بالصناديق والمقفلة أيضاً. الحجرة والصناديق والأقفال، لا تخرج عن كونها شكلاً من "أشكال الذاكرة وصورها الحميمة" التي تخصّها وحدها؛ إنها مرتبطة بالخفايا المكبوتة، والطبائع المتحفظة والكتومة.
على النقيض من ذلك، فهي لا تتوانى في التقاط مشاهدها الفوتوغرافية عن اقتحام خصوصيات الآخرين، والتطفّل عليهم بعيون متلصّصة، لكنها حادة وجريئة ونافذة. كانت كاميرا "رولفلكس" التي تحوزها، تتيح لها إمكانية استراق أكثر المشاهد خصوصيةً، وعن مسافاتٍ قريبةٍ من دون أن تلفت إليها الأنظار (التصوير من الأسفل من دون أن ترفع الكاميرا إلى مستوى العينين)، كما هو الشأن، دائماً، مع "مصور الشارع" الذي يلاحظ، يتبنّى، ويلتقط مشهده. وعليه، أيضاً، أن يخفي نفسه قدر الإمكان.
هل كانت الصورة الفوتوغرافية لديها تشكّل "معادلاً بصرياً" لعالمها الداخلي؟!.. ربما كانت معادلاً موازياً، أو مغايراً لعوالمها السحيقة! لكنها في جميع الحالات، كانت تسمح لها بإقامة صلاتٍ أكثر جرأةً، وأكثر حدّةً وتجريداً، بل وأكثر "جرحاً" لعالمها الخارجي.
صورها قصيرةٌ ونشطةٌ، حادةٌ ومخنوقةٌ، وميضٌ متماوجٌ، صراخٌ صامتٌ؛ وجميعها صفاتٌ للصورة الصامتة "يلزم الفوتوغرافيا أن تكون صامتةً، لا يتعلق الأمر بالرصانة، وإنما بالموسيقي"، وفق رولان بارت في "الغرف المضيئة".
الحركة الأساسية في صورها، بطيفها الواسع والمتنوّع، لا تكمن في المفاجأة أوالمباغتة، بل تكمن في "المجاز" المثقل بالحادث العرضي، وكأنه الغلاف الشفّاف لموضوعاتها؛ مجازٌ مثقلٌ بالجرح الساكن والمخضّب بإشارات الموت والزوال.
بشعرها القصير وملامحها الدقيقة، وبالكاميرا التي كانت تحاوط عنقها على الدوام، تقف فيفيان أمام المرايا والواجهات الزجاجية للمحال التجارية، وتلتقط صوراً شخصية لنفسها. صور "سيلفي" بأوضاع وهيئات مختلفة، وكلها تُفيد بأنّ جميع المعاني الممكنة، محجوبة، لكنها واضحةٌ وجليّةٌ فيما تبثّه من إشارات وإيماءات. وضوحٌ يسحبُ معه المشهد كلّه باتجاة مركزية النظرة الصارمة التي رافقتها منذ الطفولة. ولا تبتسم أبداً. انعكاس صورتها الشخصية على السطوح الشفيفة والصقيلة، مثقلٌ، تماماً، بما هو واخزٌ وجارحٌ. انعكاسٌ للهالة التي تكتسي مشهدها وتخترقه بصمتٍ رصين.
عُثر في صناديقها المقفلة على تسجيل صوتي بلسانها تختزل فيه نظرتها لدورة الحياة والموت "لا شئ صنع ليبقى إلى الأبد. يجب أن نترك مكاناً للآخرين. يجب أن تذهب، ليأخذ أحدهم فرصة أخرى مكانك، حتى يصل إلى النهاية، ويأخذ أحدهم مكانه أيضاً".
وفي خاتمة المطاف، ومع آخر مفارقات حياتها، تلفظ ماير أنفاسها في دار الرعاية الصحيّة، بالتزامن مع الخيوط الأولى التي كانت تَنسجُ، بالمصادفة وحدها، مشهديات "العثور على فيفيان ماير".
* ناقد وتشكيلي أردني
غسان مفاضلة
فوتوغراف
فيفيان ماير (1 فبراير 1926 – 21 أبريل 2009)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"لقد أحضرت معي حياتي كلّها".. هذه ليست، دائماً، عبارةٌ مجازيّةٌ كما توحي به من الوهلة الأولى. فهي بالنسبة للمصورة الأميركية فيفيان ماير (1926- 2009) حين فاجأت بها إحدى العائلات التي حلّت عندها للعناية بأطفالها، كانت تعني "الحياة كلّها" بتضاريسها وتفاصيلها التي أطبقت عليها في صناديقها الأثيرة.
مخبوءات الصناديق التي كانت ترافقها على مدار 40 عاماً، أثناء عملها في تدبير المنازل والعناية بالأطفال داخل مدينة شيكاغو وخارجها، لم ترَ النور إلا بعد أن بيعت في المزاد العلني قبيل وفاتها عن عمر 83 عاماً في دارٍ للرعاية الصحية، إثر ارتطام رأسها بالأرض من على مقعدٍ خشبيٍ، قُبالة شاطئ البحر.
صناديق ماير المولودة في مدينة نيويورك من أبٍ ألماني وأمّ فرنسية، تكاد تتطابق مع شخصيّتها "المتحفّظة والغامضة والمنغلقة" بحسب من عملت لديهم. شخصيّةٌ ترتبطُ مباشرةً بحميمية "الصندوق" ومماثلته بـ "بيت الأسرار" الوثيق الصلة عند غاستون باشلار بفلسفة الامتلاك وسيكولوجية "الحالمين بالأقفال". فالصناديق مقرونةٌ على الدوام بالحاجة السريّة والحدسيّة لأماكن الإخفاء. لكن، ما الذي كانت تخفيه تلك الصناديق المحكمة الإغلاق؟!.. كانت تخفي "حياتها كلّها".. تخفي كل شيء يخصّها وحدها؛ يخصّ شخصيتها، ويخصّ نظرتها للوجود (بالأحرى نظرتها للحياة وللموت) بصورةٍ ناصعةٍ، مرئيةٍ ومريبةٍ وخاطفةٍ. نعم، خاطفةٌ تماماً، مثلما كانت تخطفُ وميض الإشارة من مشهدياتها بعينٍ صائدة؛ حاذقةٍ وحادةٍ وواخزةٍ. وهو ما نلمحه ونقرأه عِبر أي صورةٍ نقعُ عليها من بين عشرات آلاف الصور التي تركتها مكدسةً في صناديقها.
اكتشاف فيفيان ماير
المصادفة وحدها قادت الشاب الثلاثيني جون مالوف في العام 2007 إلى ذلك المزاد بحثاً عما يفيده في كتاب كان يعده عن تاريخ المنطقة التي يقطنها في شيكاغو. حصل على أحد صناديق ماير بمبلغ 380 دولاراً، ليجد فيه نحو 40 ألف صورة "نيجاتيف" بالأسود والأبيض وغير مظهّرة. وبعد أقل من سنتين سوف يحصل الشاب نفسه، على أكثر من 150 ألف صورة موزعة في صناديق أخرى، وجميعها التقطت ما بين 1950 و 1970 في شيكاغو ونيويورك والعديد من عواصم ومدن العالم التي سافرت اليها في العام 1959 من بينها: تايلاند، ومصر، واليمن، وإيطاليا وفرنسا والصين والمغرب وسورية وكندا والفلبين، وهي بمشاهدها المتنوعة التي التقطتها بكاميرا ألمانية الصنع من نوع "رولفلكس" Rolleiflex، تنتمي إلى فن "تصوير الشارع" بمفرداته ومؤثثاته؛ من أطفالٍ وعمالٍ وعربات ٍ وحوانيت ومشردين ومبانٍ وطرقاتٍ وحيواناتٍ و"بورتريهاتٍ" وغيرها من تفاصيل الحياة الزاخرة بما هو راسخٌ وهامشيٌ وعابرٌ.
"صناديق ماير تتطابق مع شخصيّتها المتحفّظة والغامضة والمنغلقة" |
وبعد أن عثر في محتويات صندوقه على مظروفٍ يحمل إسم فيفيان ماير، راح يبحث عنها في محرك (جوجل) من دون أن يعثر على أي معلومةٍ تشير إليها. ولأن تلك الصور لا تُفيد مشروعه في شيء، قرر الاحتفظ بها في مخزنه لمدة عامين "ظلت الأمور على حالها حتى عام 2009 عندما دفعني الفضول للبحث عنها مرةً أخرى، فوجدت نعيها منشوراً في صفحة الوفيات منذ أيامٍ قليلةٍ. ومنذ ذلك، أصبحت فيفيان شغلي الشاغل"، يقول جون مالوف.
بعد أن أدرك أن صاحبة الصور التي رحلت حديثاً من دون أن تتزوج أو تنجب أطفالاً، تكاد تكون مجهولةً تماماً، وأنّه الوحيد الذي شاهد صورها بعد تظهيرها (حتى قبل أن تشاهدها هي بنفسها)؛ قام بإنشاء مدونة على موقع "فليكر" flicker الخاص بالصور الفوتوغرافية، ونشر فيه 200 صورة مرفقةً بسؤالٍ حول أهميتها، وماذا بإمكانه أن يفعل حيالها.
سرعان ما انتشرت الصور على نطاقٍ واسعٍ، ما حفّز مالوف على التواصل مع الذين اشتروا بقية الصناديق من المزاد، ليشتريها منهم. حصل مجدداً على ما يقارب100 ألف صورة "نيجاتيف" ونحو 700 فيلم فوتوغرافي ملون، و2000 فيلم فوتوغرافي أسود وأبيض، وتسجيلات مرئية ومسموعة. إضافة إلى المقتنيات الهائلة والمتنوعة التي احتوتها تلك الصناديق، من الملابس والأحذية والقبعات والإكسسوارات والنشرات الإعلانية وتذاكر الحافلات والقطارات والصحف والفواتير والقصاصات، وغيرها الكثير، التي سوف تشكّل نقطة البداية في رحلة الكشف عن فنانةٍ لم يطّلع أحدٌ على منجزها طوال حياتها.
لا تتوانى فيفيان ماير في التقاط مشاهدها الفوتوغرافية عن اقتحام خصوصيات الآخرين، والتطفّل عليهم بعيون متلصّصة، لكنها حادة وجريئة ونافذة |
تجميع قطع "البازل" وتركيبها
أمام الإرث الهائل من المواد المرئية والمسموعة التي خلّفتها ماير في صناديقها المقفلة، وجد مالوف نفسه أمام مشهدٍ أشبه ما يكون بقطع "البازل" المبعثرة وغير المكتملة. كان عليه أن يجد القطع المنقوصة قبل أن يقوم بتركيبها في مشهديات الفيلم الوثائقي "العثور على فيفيان ماير" Finding Vivian Maier الذي شارك في إعداده وإخراجه مع شارلي سيسكل عام 2013، بالاشتراك مع موقع الـ"بي بي سي"، وحصد العديد من الجوائز الأوروبية، إلى جانب ترشّحه لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي.
بدأ رحلته بما يشبه التحقيق الاستقصائي عن "فتاة الكاميرا" الغامضة والمجهولة. وصل إلى العناوين التي أقامت فيها منذ طفولتها وحتى وفاتها. كانت البداية من الطفولة القاسية التي عانتها بعد أن هجر الأب أسرته، لتواصل طفولتها بين أميركا وفرنسا، مُقيمةً في العديد من دور العناية بالأطفال، ومتنقلةً بين أكثر من أبٍ وأمٍ بدلاء.
تعرّف مالوف على عديدٍ من الأسر التي عملت فيفيان لديها في تدبير المنازل والعناية بالأطفال، وهو العمل الذي بدأته وهي في الـ 25 من عمرها، ولمدة 40 عاماً من دون توقف. العديد من العائلات التي التقاها أجمعت على أن شخصيتها تتسم بالتناقض، والغموض، والتحفّظ. فيما رأى آخرون أن لديها غضباً مكبوتاً، وأنها ربما كانت تعاني مرضاً عقليّاً. والبعض وصف تصرفاتها بالجنون. إحدى العائلات ساورها الشكّ في أن تكون المربية "جاسوسة" خاصةّ أنها كانت تمضي بعض الوصولات، وتعرف نفسها للغرباء، بإسماءٍ مستعارةٍ.
سيدة أخرى كانت ترعاها فيفيان عندما كانت طفلة قالت: "ربما كانت فيفيان نفسها ضحيةً في طفولتها، خصوصاً أنها كانت دائما تحذّرني من الرجال، وتقول إن كل ما يريدونه هو الجنس فقط. وربما تكون قد تعرضت للاغتصاب، أو لاعتداء ما في طفولتها". لكن سيدةً أخرى أكّدت أنّ فيفيان "عاشت حياتها كما أرادت لها أن تكون".
ربما عاشت كما كانت تريد، لكنها بالتأكيد، لم تكن ترغب بالنهاية التراجيدية التي ودّعت بها شيخوختها. أخذ منها الزمن شغفها برصد تمثيلات الحياة وتنويعاتها؛ في الحب، والعنف، والبؤس، والرقّة، والقبح، والسخرية اللاذعة، وفي جميع المفارقات التي انتهت بـ"فتاة الكاميرا" من دون مسكن أو مال، لتُصبح "حياتها كلّها" قبيل أن يرتطم رأسها بالأرض من على مقعدها الأخير؛ معروضةً في المزاد.
من المجهول.. إلى صفحات التاريخ
لم يكتف مالوف بما حقّقته صور ماير التي واصل نشرها على موقع فليكر، من شيوعٍ وحفاوةٍ. فقرّر التواصل مع عددٍ من المتاحف لتنظيم معرضٍ لمختارات من صورها، إلا أنها اعتذرت عن قبول أعمالٍ منسوبةٍ لفنانةٍ مجهولةٍ ومتوفاةٍ. لكنه في آخر المطاف، استطاع تنظيم معارضٍ لصورها في العديد من المدن حول العالم، منها: نيويورك ولندن وألمانيا ولوس أنجلوس والدنمارك. وكان إقبال الناس وزحامهم على تلك المعارض غير مسبوقٍ، ولم تشهده أي معارضٍ فوتوغرافيةٍ من قبل.
"لا تنفصل صناديق ماير بمخبوءاتها الفوتوغرافية، عن صناديق حياتها الداخلية ونمط شخصيتها" |
المصور جويل ميرفيتز شبّه الانطباع الأول الذي تتركه صورها بـ "البهجة التي تصادفك في الطريق"، ووصف ماير بـ "المصورة العبقرية". بينما وضعتها ماري مارك إلى جانب أربعة مصورين كبار من رواد مصوري الشارع، وهم: روبرت فرانك، وإليزابيت موديل، وهيلين ليفيت، وديان أربيس، وذلك لفرادتها، وإحساسها العالي في تأطير الصورة التي جمعت بين الفكاهي والتراجيدي بلقطةٍ عابرةٍ وواخزةٍ.
بعد وفاتها مباشرة، عبرت ماير من عالم المجهول إلى عالم الأضواء، ليحتل اسمها مكانته البارزة في مدونات التاريخ، كما أراد لها مكتشفها جون مالوف.
حياة في صناديق مقفلة
لا تنفصل صناديق ماير بمخبوءاتها الفوتوغرافية، عن صناديق حياتها الداخلية ونمط شخصيتها. وإذا كان هناك من تماثل بين "هندسة الصندوق وسيكولوجية التلصّص والسريّة"، فإننا نجد تعبيرات هذا التماثل موزعة في جلّ ممارساتها الحياتية والفنية؛ في صناديقها، وفي حجرتها التي تقطنها، وحتى في صندوق الكاميرا الذي عبرت منه إلى مشهديات العالم بخفّةٍ خاطفةٍ.
طلبتْ من بعض العائلات التي تعمل لديها أن تضع قفلاً على حجرتها المكدّسة بالصناديق والمقفلة أيضاً. الحجرة والصناديق والأقفال، لا تخرج عن كونها شكلاً من "أشكال الذاكرة وصورها الحميمة" التي تخصّها وحدها؛ إنها مرتبطة بالخفايا المكبوتة، والطبائع المتحفظة والكتومة.
على النقيض من ذلك، فهي لا تتوانى في التقاط مشاهدها الفوتوغرافية عن اقتحام خصوصيات الآخرين، والتطفّل عليهم بعيون متلصّصة، لكنها حادة وجريئة ونافذة. كانت كاميرا "رولفلكس" التي تحوزها، تتيح لها إمكانية استراق أكثر المشاهد خصوصيةً، وعن مسافاتٍ قريبةٍ من دون أن تلفت إليها الأنظار (التصوير من الأسفل من دون أن ترفع الكاميرا إلى مستوى العينين)، كما هو الشأن، دائماً، مع "مصور الشارع" الذي يلاحظ، يتبنّى، ويلتقط مشهده. وعليه، أيضاً، أن يخفي نفسه قدر الإمكان.
هل كانت الصورة الفوتوغرافية لديها تشكّل "معادلاً بصرياً" لعالمها الداخلي؟!.. ربما كانت معادلاً موازياً، أو مغايراً لعوالمها السحيقة! لكنها في جميع الحالات، كانت تسمح لها بإقامة صلاتٍ أكثر جرأةً، وأكثر حدّةً وتجريداً، بل وأكثر "جرحاً" لعالمها الخارجي.
صورها قصيرةٌ ونشطةٌ، حادةٌ ومخنوقةٌ، وميضٌ متماوجٌ، صراخٌ صامتٌ؛ وجميعها صفاتٌ للصورة الصامتة "يلزم الفوتوغرافيا أن تكون صامتةً، لا يتعلق الأمر بالرصانة، وإنما بالموسيقي"، وفق رولان بارت في "الغرف المضيئة".
"عُثر في صناديقها المقفلة على تسجيل صوتي بلسانها تختزل فيه نظرتها لدورة الحياة والموت" |
بشعرها القصير وملامحها الدقيقة، وبالكاميرا التي كانت تحاوط عنقها على الدوام، تقف فيفيان أمام المرايا والواجهات الزجاجية للمحال التجارية، وتلتقط صوراً شخصية لنفسها. صور "سيلفي" بأوضاع وهيئات مختلفة، وكلها تُفيد بأنّ جميع المعاني الممكنة، محجوبة، لكنها واضحةٌ وجليّةٌ فيما تبثّه من إشارات وإيماءات. وضوحٌ يسحبُ معه المشهد كلّه باتجاة مركزية النظرة الصارمة التي رافقتها منذ الطفولة. ولا تبتسم أبداً. انعكاس صورتها الشخصية على السطوح الشفيفة والصقيلة، مثقلٌ، تماماً، بما هو واخزٌ وجارحٌ. انعكاسٌ للهالة التي تكتسي مشهدها وتخترقه بصمتٍ رصين.
عُثر في صناديقها المقفلة على تسجيل صوتي بلسانها تختزل فيه نظرتها لدورة الحياة والموت "لا شئ صنع ليبقى إلى الأبد. يجب أن نترك مكاناً للآخرين. يجب أن تذهب، ليأخذ أحدهم فرصة أخرى مكانك، حتى يصل إلى النهاية، ويأخذ أحدهم مكانه أيضاً".
وفي خاتمة المطاف، ومع آخر مفارقات حياتها، تلفظ ماير أنفاسها في دار الرعاية الصحيّة، بالتزامن مع الخيوط الأولى التي كانت تَنسجُ، بالمصادفة وحدها، مشهديات "العثور على فيفيان ماير".
* ناقد وتشكيلي أردني