ستّار نعمة.. حريّة الفنّ والتخريبُ الجميل
مناهل السهوي
فوتوغراف
يركز نعمة على الجسد كونه تجسيداً للأفكار والحياة والرغبات
شارك هذا المقال
حجم الخط
يحمل الفن وجوهاً متعددة للجمال قد تكون ضد توقعات المتلقي لتثير الأسئلة داخله عن نفسه أولاً وعن قوة معرفتهِ بها وأدراكه لماهيتها. فَعَلَ ذلك السرياليون متوجهين نحو التخريب واللامفهوم للوصول إلى المعنى المتشتت والكائن في ذاته، ومع تطور التكنولوجيا وأدوات الفنّ صار الخلق حالةً مربكة وذات أبعاد جديدة مفسحةً المجال أكثر للتجريب، لكن التجريب بحد ذاته ليس حالة غير منظمة بل تحتاج إلى إدراك الفنان لقصديته، التي قد لا تكون واضحةً في البداية له، لكن مع الوقت تغدو هذه القصدية أكثر امتداداً مفسحةً المجال لمشاركة المتلقي لها ولمعنى العمل، من هنا نستطيع التعرف على تجربة الفنان العراقي ستّار نعمة التي تشمل التشكيل والتصميم والفوتوغراف كذلك.
الصورة الرقمية والتجريب
اكتشف نعمة التصوير خلال دراسته للغرافيك ديزاين في منتصف الثمانينيات، مستمتعاً بخلق اللحظات واقتطاعها من مسيرة الزمن، مفكراً بطريقة لجلب هذه الأداة البصريّة العظيمة الى ساحة التشكيل، فكانت البداية من خلال محاولات بسيطة لأن التقنيات لم تكن متاحة في حينها إلى أن تسارع العصر وبدأ عصر الصورة الرقمية حيث توافرت الإمكانيات التقنية للتلاعب بالصورة الكلاسيكية النمطية، وحينها بدأت تجاربه.
من خلال هذه التجارب يبدو التصوير مع نعمة مساحة مختلفة للنظر، يطور من خلالها نظرة المشاهد للصورة ويمنحه مستوى ثانياً في الرؤية، من خلال تركيب المشهد وكشف طبقات متتالية للعمل، للوصول إلى الجسد الإنساني تارة أو الحقيقة البصريّة الموازية التي يريد الفنان إيصالها تارة أخرى. ما يودُّ ستار إيصاله يقول إن الصورة لا تنكشف من المرة الأولى وإن المواجهة بين المشاهد والصورة تتطور زمنياً ما يمنح العمل من جهة والمتلقي من جهة أخرى رؤية متجددة.
لكن ما الذي يوجد تحت الصورة؟ أهو الهدف حقاً؟ هذا يتبين في كلّ عمل بطريقة مختلفة وهو ما يميز أعماله، الجمع ما بين الفوتوغراف والتشكيل، إنّه نوع من التمزيق والتخريب وإعادة الخلق. لا يتوقف العمل عند لحظة التقاط الصورة، يقوم ستار بالتقاطها في حالات متعددة وإعادة خلق حالة غير موجودة في كلّ الحالات، فالعمل الفوتوغرافيّ النهائيّ هو نتيجة عدّة أعمال وليس وليد لحظته كما اعتدنا على الفوتوغراف أن يكون، وهنا يمتزج الفوتوغراف بالتشكيل من خلال الكولاج.
العبث بالصورة وكسر المألوف
تكشف أعمال نعمة عن قوّة حريّة الفنان في صنع الصورة، فالتشظي الذي تحتويه هو انعكاس لتشتت الإنسان المعاصر وضياعه لكنها تخفي داخلها كذلك المغزى والمعرفة وحقيقة العمل التي تتبدى كصورة مشتتة ربما، مستعيناً في بعض الأحيان بعنصر دخيل وأحياناً أخرى يذهب للتشويه، لكن التشويه هو صلب العمل والطريق إلى تفاعل المتفرج معه، وكأنّه يرسم مساراً للوصول إلى أعماله، يخصّ كلّ متفرج على حدة. هذا التخريب كطريقة للإبداع والخلق توجّه المتلقي نحو الرؤية عبر طريقة العبث بالعمل وكسر المألوف وفي هذا يتساءل نعمة عمّا قدمه لنا الواضح والمنظم والمنطقي وغير المخرب؟ ويجد أنّه كرّس الرتابة والانقياد خلف القواعد.
يقول: "لا أعتبر ما أفعله خيانة، أنا فقط أخون الماء الراكد برمي حجر فيه، وما المانع من أن نعجن الصورة، أن نقطعها أو نحرقها، ستبقى صورة فوتوغرافية بالنهاية لكن ببعد جمالي آخر، أحياناً تعبيري وأحياناً سوريالي، وفي النهاية القصد قصد آخر والعملية عملية موازية تطمح لنتائج أخرى لكن بنفس الأدوات".
يرى نعمة أن الفوتوغراف هو محاولة إمساك لحظة ما من هذا الزمن المنفلت والمستمر، وأن للفوتوغراف بُعدا فلسفيا وروحيا هائلا، وهو موضوع يدعو للتأمل ويمنحنا مفردات جمالية خاصة وهذا ما يحتاجة التشكيل كفن، فالبصر هو أولى حواس الفنان التشكيلي وأهمها والتي تلتقي بخفّة وشغف بمفردات الوجود، اللقاء النقي الأول قبل أن تدخل التحضيرات والقصدية في تطويع المفردة. ويتابع قائلاً: "علاقتي بالفوتوغراف أو علاقة الفوتوغراف بالتشكيل (بمعنى أدق) علاقة متشابكة فكلاهما زاده البصر، حتى أني أحاول إذابة الحاجز بين الفوتوغراف كجنس تشكيلي والتشكيل من خلال تجربتي. الفوتوغراف دهشة عظيمة".
الدفاع عن الجسد الإنساني
في أعمال نعمة مواجهة لتقييد الجسد الإنساني وسعي لتحرير الإنسان مما رماه العصر الحديث عليه من أزمات ومخاوف، لكننا كذلك نكتشف دلالة الفن عبر قوته وحريته من خلال ذاته وحسب، فلا قواعد هنا ولا خطط مألوفة، إنّه حدس الفنان وحسب في خلق حالة فنية جديدة ومتكاملة في ذاتها مقدماً خير مثال عن قوة الفن المعاصر في ملامسة حياة الإنسان وإعادة تشكيل هويته، حيث التمزيق في طبقات الصور والذي يكشف عن أجزاء من الجسد الإنساني ليصل إلى العري الجزئي أحياناً والكامل أحياناً أخرى يذكرنا بما نملكه خلف ما يغطينا من توجهات وصراعات وعقائد، الذهاب نحو فهمنا خلف ما نحن عليه ومنحنا الحرية الأولى التي نملكها، حرية الجسد.
يركز نعمة على الجسد كونه تجسيدا للأفكار والحياة والرغبات، فلا يسع الإنسان أن يكون شيئاً دون هذه الحدود والجلد واللحم، فالإنسان يعرف نفسه عن طريق جسده وستّار يعمّق هذه المعرفة بكشفها أكثر وبفضحها أيضاً، ببساطة عبر تجريده من الثياب لكنه ليس تجريدا ماديّا وحسب رغم قوة هذه النظرية، فالمادة هي المكوّن الأول الذي يعرّف الإنسان على جسده، هي طريقة معرفته للعالم من حوله لكن هذا الجسد هو متبدل ومتغيّر يحمل صوراً عديدة لنا متجددة، قوية وضعيفة، لكنها كلّها تقوم على أساس ألّا وجود لفكرةِ "أن تكون" دون الجسد، ولذلك فتشريحه عن طريق الفوتوغراف والكولاج هو أحد سبل رؤيته بوضوح والتعامل معه بطريقة أكثر جرأة وحرية، "هذا الجسد وحسب اعتقادي هو وعاء أرواحنا والذي يحمل كلّ حواسنا، يحمل أيضاً سعادتنا، أوجاعنا وهاجسنا الدائم الغريب والمحبط بالفناء"، يقول نعمة.
من جهة أخرى فعلاقة الفنان العراقي بالجسد هي علاقة عضوية، ووجودية لأنّه وحسب ما يرى فإن أجسادنا وحيدة ومفرطة بالوحدة فهي بشكلها الماديّ منفصلة وكائنة بذاتها وكلّ محاولات التواصل والاندماج هي التي أنتجت الفن. يقول عن ذلك: "كلما أردتُ أن أتذكر بأنني موجود أتحسس جسدي، يداي وشعري وأحياناً أفتح عينيّ بشكل مفرط على غير العادة لأتشرب محيطي، وعلى هذا الأساس حاولت أن يكون الجسد موضوعي ولأني أرى فيه نقطة جمال مركزية واختزالاً مُهماً لكلّ الأسئلة الأزلية، وهنا طبعاً يكرر الفن الأسئلة ويحاول طرح إجابات غير إجابات الفلاسفة، الإجابة هنا مثل من تسأله سؤالاً ويجيبك بمقطوعة موسيقية".
في النهاية تلقي تجربة ستّار نعمة الضوء على الجزء المخفي من الإنسان والذي تحاول الأعراف والتقاليد تقييده وحصره بمفاهيم وقوالب جاهزة، ونعمة بأعماله إنما يحرك نظرتنا واعتقاداتنا حول أجسادنا في محاولة لإعادة التفكير بعلاقتنا بها.
مناهل السهوي
فوتوغراف
يركز نعمة على الجسد كونه تجسيداً للأفكار والحياة والرغبات
شارك هذا المقال
حجم الخط
يحمل الفن وجوهاً متعددة للجمال قد تكون ضد توقعات المتلقي لتثير الأسئلة داخله عن نفسه أولاً وعن قوة معرفتهِ بها وأدراكه لماهيتها. فَعَلَ ذلك السرياليون متوجهين نحو التخريب واللامفهوم للوصول إلى المعنى المتشتت والكائن في ذاته، ومع تطور التكنولوجيا وأدوات الفنّ صار الخلق حالةً مربكة وذات أبعاد جديدة مفسحةً المجال أكثر للتجريب، لكن التجريب بحد ذاته ليس حالة غير منظمة بل تحتاج إلى إدراك الفنان لقصديته، التي قد لا تكون واضحةً في البداية له، لكن مع الوقت تغدو هذه القصدية أكثر امتداداً مفسحةً المجال لمشاركة المتلقي لها ولمعنى العمل، من هنا نستطيع التعرف على تجربة الفنان العراقي ستّار نعمة التي تشمل التشكيل والتصميم والفوتوغراف كذلك.
الصورة الرقمية والتجريب
اكتشف نعمة التصوير خلال دراسته للغرافيك ديزاين في منتصف الثمانينيات، مستمتعاً بخلق اللحظات واقتطاعها من مسيرة الزمن، مفكراً بطريقة لجلب هذه الأداة البصريّة العظيمة الى ساحة التشكيل، فكانت البداية من خلال محاولات بسيطة لأن التقنيات لم تكن متاحة في حينها إلى أن تسارع العصر وبدأ عصر الصورة الرقمية حيث توافرت الإمكانيات التقنية للتلاعب بالصورة الكلاسيكية النمطية، وحينها بدأت تجاربه.
"تكشف أعمال نعمة عن قوّة حريّة الفنان في صنع الصورة، فالتشظي الذي تحتويه هو انعكاس لتشتت الإنسان المعاصر" |
لكن ما الذي يوجد تحت الصورة؟ أهو الهدف حقاً؟ هذا يتبين في كلّ عمل بطريقة مختلفة وهو ما يميز أعماله، الجمع ما بين الفوتوغراف والتشكيل، إنّه نوع من التمزيق والتخريب وإعادة الخلق. لا يتوقف العمل عند لحظة التقاط الصورة، يقوم ستار بالتقاطها في حالات متعددة وإعادة خلق حالة غير موجودة في كلّ الحالات، فالعمل الفوتوغرافيّ النهائيّ هو نتيجة عدّة أعمال وليس وليد لحظته كما اعتدنا على الفوتوغراف أن يكون، وهنا يمتزج الفوتوغراف بالتشكيل من خلال الكولاج.
ستّار نعمة: أحاول إذابة الحاجز بين الفوتوغراف كجنس تشكيلي والتشكيل من خلال تجربتي. الفوتوغراف دهشة عظيمة |
العبث بالصورة وكسر المألوف
تكشف أعمال نعمة عن قوّة حريّة الفنان في صنع الصورة، فالتشظي الذي تحتويه هو انعكاس لتشتت الإنسان المعاصر وضياعه لكنها تخفي داخلها كذلك المغزى والمعرفة وحقيقة العمل التي تتبدى كصورة مشتتة ربما، مستعيناً في بعض الأحيان بعنصر دخيل وأحياناً أخرى يذهب للتشويه، لكن التشويه هو صلب العمل والطريق إلى تفاعل المتفرج معه، وكأنّه يرسم مساراً للوصول إلى أعماله، يخصّ كلّ متفرج على حدة. هذا التخريب كطريقة للإبداع والخلق توجّه المتلقي نحو الرؤية عبر طريقة العبث بالعمل وكسر المألوف وفي هذا يتساءل نعمة عمّا قدمه لنا الواضح والمنظم والمنطقي وغير المخرب؟ ويجد أنّه كرّس الرتابة والانقياد خلف القواعد.
"يرى نعمة أن الفوتوغراف هو محاولة إمساك لحظة ما من هذا الزمن المنفلت والمستمر، وأن للفوتوغراف بُعدا فلسفيا وروحيا هائلا" |
يرى نعمة أن الفوتوغراف هو محاولة إمساك لحظة ما من هذا الزمن المنفلت والمستمر، وأن للفوتوغراف بُعدا فلسفيا وروحيا هائلا، وهو موضوع يدعو للتأمل ويمنحنا مفردات جمالية خاصة وهذا ما يحتاجة التشكيل كفن، فالبصر هو أولى حواس الفنان التشكيلي وأهمها والتي تلتقي بخفّة وشغف بمفردات الوجود، اللقاء النقي الأول قبل أن تدخل التحضيرات والقصدية في تطويع المفردة. ويتابع قائلاً: "علاقتي بالفوتوغراف أو علاقة الفوتوغراف بالتشكيل (بمعنى أدق) علاقة متشابكة فكلاهما زاده البصر، حتى أني أحاول إذابة الحاجز بين الفوتوغراف كجنس تشكيلي والتشكيل من خلال تجربتي. الفوتوغراف دهشة عظيمة".
الدفاع عن الجسد الإنساني
في أعمال نعمة مواجهة لتقييد الجسد الإنساني وسعي لتحرير الإنسان مما رماه العصر الحديث عليه من أزمات ومخاوف، لكننا كذلك نكتشف دلالة الفن عبر قوته وحريته من خلال ذاته وحسب، فلا قواعد هنا ولا خطط مألوفة، إنّه حدس الفنان وحسب في خلق حالة فنية جديدة ومتكاملة في ذاتها مقدماً خير مثال عن قوة الفن المعاصر في ملامسة حياة الإنسان وإعادة تشكيل هويته، حيث التمزيق في طبقات الصور والذي يكشف عن أجزاء من الجسد الإنساني ليصل إلى العري الجزئي أحياناً والكامل أحياناً أخرى يذكرنا بما نملكه خلف ما يغطينا من توجهات وصراعات وعقائد، الذهاب نحو فهمنا خلف ما نحن عليه ومنحنا الحرية الأولى التي نملكها، حرية الجسد.
يركز نعمة على الجسد كونه تجسيدا للأفكار والحياة والرغبات، فلا يسع الإنسان أن يكون شيئاً دون هذه الحدود والجلد واللحم، فالإنسان يعرف نفسه عن طريق جسده وستّار يعمّق هذه المعرفة بكشفها أكثر وبفضحها أيضاً، ببساطة عبر تجريده من الثياب لكنه ليس تجريدا ماديّا وحسب رغم قوة هذه النظرية، فالمادة هي المكوّن الأول الذي يعرّف الإنسان على جسده، هي طريقة معرفته للعالم من حوله لكن هذا الجسد هو متبدل ومتغيّر يحمل صوراً عديدة لنا متجددة، قوية وضعيفة، لكنها كلّها تقوم على أساس ألّا وجود لفكرةِ "أن تكون" دون الجسد، ولذلك فتشريحه عن طريق الفوتوغراف والكولاج هو أحد سبل رؤيته بوضوح والتعامل معه بطريقة أكثر جرأة وحرية، "هذا الجسد وحسب اعتقادي هو وعاء أرواحنا والذي يحمل كلّ حواسنا، يحمل أيضاً سعادتنا، أوجاعنا وهاجسنا الدائم الغريب والمحبط بالفناء"، يقول نعمة.
"في أعمال نعمة مواجهة لتقييد الجسد الإنساني وسعي لتحرير الإنسان مما رماه العصر الحديث عليه من أزمات ومخاوف" |
في النهاية تلقي تجربة ستّار نعمة الضوء على الجزء المخفي من الإنسان والذي تحاول الأعراف والتقاليد تقييده وحصره بمفاهيم وقوالب جاهزة، ونعمة بأعماله إنما يحرك نظرتنا واعتقاداتنا حول أجسادنا في محاولة لإعادة التفكير بعلاقتنا بها.