قومي (امن)
National security - Sécurité nationale
القومي (الأمن ـ)
الأمن القومي national security هو مجموع المفاهيم والإجراءات التي تعتمدها الدولة (الأمّة) لممارسة سيادتها على أراضيها وصيانة مجتمعها وتراثها ضمن مجالاتها البرية والبحرية والجوية من أي تهديد خارجي، وكذلك حماية مصالحها في الداخل والخارج، وضمان الحياة الحرة والآمنة لمواطنيها ولمن يعيش في حماها.
يرتبط مفهوم الأمن القومي ارتباطاً مباشراً بوجود الأمة[ر] وتراثها الثقافي والتاريخي وسيادتها على أراضيها وعلاقاتها بالأمم الأخرى وخاصة الدول المجاورة لها. إذ إن غياب هذه السيادة يعني عدم توافر الأمن الضروري للأمة المعنية، كما أن غياب الأمن القومي يعني انتفاء السيادة أو انتفاء القدرة على توفير الشروط اللازمة للسيادة. ويفسر هذا الأمر أسباب تعصب الأمم لأمنها وحرصها عليه بعدّه أكثر الأمور قداسة وأساس وجودها وبقائها.
تنزع كلّ أمة إلى إقامة دولة قومية لها، لأن وجودها يظلّ ناقصا بلا دولة[ر]. ولأن مفهوم الأمة مرتبط بالأرض؛ فقد جاء مصطلح الوطن[ر] والمواطنة ليميز الأمة من القبيلة، وجاء مصطلح الوطنية مرتبطاً بمفهوم الأمن القومي، أي تعلق أبناء الأمة بوطنهم وتلاحمهم واتفاق مصالحهم واستعدادهم للدفاع عن أمتهم ومصالحها. ويعد التراث الثقافي والحضاري من أبرز عوامل المواطنة وأكثرها تأثيراً في توجيه السلوك السياسي والاجتماعي للأفراد والجماعات التي تؤلّف الأمة.
والدولة في حقيقة الأمر واقع سياسي قد لا تتطابق حدوده مع حدود الأمة وحدود المناطق التي يعيش فيها أفرادها، فإذا لم يكن هذا التطابق قائما؛ يمكن أن تشتمل الدولة على أكثر من قومية؛ فتكون امبراطورية أو دولة اتحادية متعددة القوميات، أو تكون دولة قطرية إقليمية وجزءاً من أمة أكبر.
مما سبق يتبين أن الأمن القومي موضوع متعدد الوجوه، ويختلف مفهومه من دولة إلى دولة ومن أمة إلى أمة. وهناك على الأقل ثلاثة أنواع من الأمن، يمكن تمييز أحدها من الآخر: الأمن القومي والأمن الوطني (القطري) والأمن الإقليمي أو المحلي. وقد تتطابق الأنواع الثلاثة أو تختلف وفقاً لتركيبة الدولة واجتماعها في أمة واحدة وممارستها سيادتها، أو تفرق الأمة الواحدة إلى دول، أو وجود أكثر من أمة في دولة واحدة. وكل من أنواع الأمن هذه على علاقة وثيقة بالحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا من أسباب عدم ثبوت تعريف الأمن القومي على حال، وإنما كان يتطور بمرور الزمن ويرقى مع ارتقاء مفهوم الأمة و الدولة والوطن و تتباين مفاهيمه مع تباين مفهوم الحرية وحق تقرير المصير[ر] والعيش المشترك.
يعد مصطلح الأمن القومي حديثاً نسبياً، ظهر مع بزوغ عصر القوميات، وارتبط بالمفهوم (الجيوسياسي geopolitic) وتبلورت خصائصه بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونهاية عصر الاستعمار والاعتراف بحق تقرير المصير. غير أن مفهوم الأمن في حد ذاته قديم قدم المجتمعات الإنسانية وتضارب مصالحها وميلها إلى العدوان[ر] والتوسع، وإن تعددت أسماؤه، أو المسوّغات التي استعملت لتسويغ سلوك المجتمعات عبر التاريخ.
مقوّمات الأمن القومي
تبني الدولة ـ الأمة أمنها القومي استناداً إلى مصالحها العليا، وتختلف تلك المصالح من أمة إلى أخرى وفق تطلعاتها وعلاقاتها بالدول الأخرى، ونظرتها إلى العالم من حولها. وقد تبالغ بعض الدول أو الأمم في متطلباتها الأمنية على حساب الأمم الأخرى؛ فتكون عدوانية توسعية، والأمثلة على ذلك كثيرة، أو تكتفي بتوفير الأمن والحماية لرعاياها، وتتخيّر أفضل الوسائل للدفاع عن سيادتها وعن ذاتها. ومن هنا يمكن القول: إن الأمن القومي يتضمن جملة العناصر الاستراتيجية التي توفر للدولة (الأمة) القدرة اللازمة للدفاع عن ذاتها أمام الأخطار الخارجية والداخلية التي قد تتعرض لها أو تهدد مصالحها؛ بما في ذلك استقرارها السياسي والاجتماعي.
تضع الدولة استراتيجية متكاملة لأمنها تتماشى مع تطلعاتها المرحلية والمستقبلية، وتشتمل على ثوابت وخطوط حمراء لايمكن تجاوزها أو تجاهلها، كما تشتمل على متغيرات قابلة للتعديل والتبديل وفق الشروط الراهنة والقدرات المادية والمعنوية المتوافرة، واعتماداً على الروابط الاجتماعية بين رعاياها وعلاقاتها مع الأمم الأخرى. وتعد تلك الاستراتيجية الموجه الرئيسي لجميع المناشط السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تنهجها الدولة لتحقيق أهدافها.
التنظيمات المسؤولة عن الأمن القومي
تعدّ القيادة السياسية الأداة الرئيسة المسؤولة عن الأمن القومي. وتكون بقية الأجهزة التنفيذية مسؤولة أمامها فيما يتصل بها. وتختار كل دولة التنظيم المناسب لأمنها القومي ومتابعة تحقيق أهدافها وتنفيذ استراتيجياتها العليا وتعديلها وفق الشروط الراهنة. و أكثرها يميل إلى أن تكون هناك هيئة عليا تتولى تنسيق جميع مناشط الدولة وفق منهج محدد مبني على إجماع قومي. والغاية من وجود الهيئة المذكورة تقديم النصح والمشورة إلى القيادة السياسية العليا حول مسائل الأمن القوميّ بما يتفق والسياسات الداخلية والخارجية والعسكرية والمصادر اللازمة لتنفيذها، وتوجيه نشاط أجهزة الأمن والمخابرات وتحديد أهدافها ومهامها. وقد تحمل هذه الهيئة اسم «مجلس الأمن القومي» National Security Council، أو لجنة الأمن العليا، أو مجلس الوزراء المصغر أو غير ذلك. ومهما اختلفت التسميات فالمهمة واحدة، والتشكيل متشابه، ويرأسه غالباً رئيس الجمهورية في البلاد ذات النظام الرئاسي، أو رئيس مجلس الوزراء أو الوزير الأول في البلاد الأخرى، ويضم أعضاء أساسيين، فيهم نائب الرئيس ووزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان ووزير الداخلية والمسؤول عن أجهزة الأمن والمخابرات ومجموعة من المستشارين المتخصصين في شؤون الأمن والدفاع والخارجية.
دور العلم والتقانة في بناء الأمن القومي
كان من نتائج التطور السريع والمذهل الذي شهده العلم والتقانة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، أن حدثت تبدلات جوهرية في جميع مناحي الحياة العامة على المستوى المحلي والدولي والعالمي. والواقع أن متطلبات الأمن القومي والحرب الباردة والتنافس الشديد بين القوى العالمية كانت من الدوافع الرئيسية للتطوير العلمي والتقني لتعزيز الأمن القومي. وقد ازدادت التباينات في المرحلة الأخيرة بين الأمم الغنية المتطورة علمياً وتقنياً والأمم المقصّرة في هذا المجال إلى درجة خطيرة. وتتميز الملامح الحضارية في العصر الحاضر باعتمادها على العلم والتقانة اعتماداً مطلقاً، وبروز دور الاستثمارات الضخمة والدولية والعالمية في مجالات العلم والتقانة والأبحاث في سباق حضاري محموم، الأمر الذي منح الدول المتطورة فرصاً أوفى وإمكانات أكبر لضمان أمنها ومنحه الأفضلية الأولى على سائر علاقاتها الدولية والعالمية، ومزاحمة الدول الأخرى على مصادرها وممارسة السيطرة والهيمنة عليها عن طريق الضغوط العلمية والتقنية والاقتصادية ناهيك عن الضغوط السياسية والعسكرية. ويقف التقدم العلمي اليوم وراء كثير من الظواهر الاقتصادية والسياسية والثقافية التي حملت صفة العولمة ويسرت هيمنة الدول الكبرى والغنية على مقدرات الأمم الأخرى بحجة فتح أبواب المنافسة والتجارة الحرة، الأمر الذي هدد الهوية الثقافية والخصوصيات القومية التي تميز أمة من أخرى.
ومن ثمّ أصبح التطور العلمي والتقني مكوّناً أساسياً من مقومات الأمن القومي بعدّه ركيزة من ركائز الدفاع عن الأمة وتراثها وحماية مصالحها، وبعدّه مصدراً أساسياً من مصادر الثروة؛ وقوّة إنتاجية يمكن لأصغر الدول الاستفادة منها إذا ما سعت إلى تملّكها. وقد أفضى هذا التطور كذلك إلى تبدل مراكز الأجهزة المعنية واختصاصاتها، فاحتل العلماء والتقنيون مكانة الريادة في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وفرض نوعاً جديداً من العلاقات بين القوى المهيمنة التي تملك التقانة وبين بقية الدول، وفتحت آفاقا جديدة لوجود مؤسسات عالمية ضخمة متعددة الجنسيات تملك من القوة والنفوذ ما يمكنها من فرض سياساتها ومنهجها، ووضعت أمام البشرية معضلات معقدة لابد من تضافر الجهود لحلّها والتغلب عليها لتوفير العيش الآمن للأمم جميعها.
محمد وليد الجلاد
National security - Sécurité nationale
القومي (الأمن ـ)
الأمن القومي national security هو مجموع المفاهيم والإجراءات التي تعتمدها الدولة (الأمّة) لممارسة سيادتها على أراضيها وصيانة مجتمعها وتراثها ضمن مجالاتها البرية والبحرية والجوية من أي تهديد خارجي، وكذلك حماية مصالحها في الداخل والخارج، وضمان الحياة الحرة والآمنة لمواطنيها ولمن يعيش في حماها.
يرتبط مفهوم الأمن القومي ارتباطاً مباشراً بوجود الأمة[ر] وتراثها الثقافي والتاريخي وسيادتها على أراضيها وعلاقاتها بالأمم الأخرى وخاصة الدول المجاورة لها. إذ إن غياب هذه السيادة يعني عدم توافر الأمن الضروري للأمة المعنية، كما أن غياب الأمن القومي يعني انتفاء السيادة أو انتفاء القدرة على توفير الشروط اللازمة للسيادة. ويفسر هذا الأمر أسباب تعصب الأمم لأمنها وحرصها عليه بعدّه أكثر الأمور قداسة وأساس وجودها وبقائها.
تنزع كلّ أمة إلى إقامة دولة قومية لها، لأن وجودها يظلّ ناقصا بلا دولة[ر]. ولأن مفهوم الأمة مرتبط بالأرض؛ فقد جاء مصطلح الوطن[ر] والمواطنة ليميز الأمة من القبيلة، وجاء مصطلح الوطنية مرتبطاً بمفهوم الأمن القومي، أي تعلق أبناء الأمة بوطنهم وتلاحمهم واتفاق مصالحهم واستعدادهم للدفاع عن أمتهم ومصالحها. ويعد التراث الثقافي والحضاري من أبرز عوامل المواطنة وأكثرها تأثيراً في توجيه السلوك السياسي والاجتماعي للأفراد والجماعات التي تؤلّف الأمة.
والدولة في حقيقة الأمر واقع سياسي قد لا تتطابق حدوده مع حدود الأمة وحدود المناطق التي يعيش فيها أفرادها، فإذا لم يكن هذا التطابق قائما؛ يمكن أن تشتمل الدولة على أكثر من قومية؛ فتكون امبراطورية أو دولة اتحادية متعددة القوميات، أو تكون دولة قطرية إقليمية وجزءاً من أمة أكبر.
مما سبق يتبين أن الأمن القومي موضوع متعدد الوجوه، ويختلف مفهومه من دولة إلى دولة ومن أمة إلى أمة. وهناك على الأقل ثلاثة أنواع من الأمن، يمكن تمييز أحدها من الآخر: الأمن القومي والأمن الوطني (القطري) والأمن الإقليمي أو المحلي. وقد تتطابق الأنواع الثلاثة أو تختلف وفقاً لتركيبة الدولة واجتماعها في أمة واحدة وممارستها سيادتها، أو تفرق الأمة الواحدة إلى دول، أو وجود أكثر من أمة في دولة واحدة. وكل من أنواع الأمن هذه على علاقة وثيقة بالحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهذا من أسباب عدم ثبوت تعريف الأمن القومي على حال، وإنما كان يتطور بمرور الزمن ويرقى مع ارتقاء مفهوم الأمة و الدولة والوطن و تتباين مفاهيمه مع تباين مفهوم الحرية وحق تقرير المصير[ر] والعيش المشترك.
يعد مصطلح الأمن القومي حديثاً نسبياً، ظهر مع بزوغ عصر القوميات، وارتبط بالمفهوم (الجيوسياسي geopolitic) وتبلورت خصائصه بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونهاية عصر الاستعمار والاعتراف بحق تقرير المصير. غير أن مفهوم الأمن في حد ذاته قديم قدم المجتمعات الإنسانية وتضارب مصالحها وميلها إلى العدوان[ر] والتوسع، وإن تعددت أسماؤه، أو المسوّغات التي استعملت لتسويغ سلوك المجتمعات عبر التاريخ.
مقوّمات الأمن القومي
تبني الدولة ـ الأمة أمنها القومي استناداً إلى مصالحها العليا، وتختلف تلك المصالح من أمة إلى أخرى وفق تطلعاتها وعلاقاتها بالدول الأخرى، ونظرتها إلى العالم من حولها. وقد تبالغ بعض الدول أو الأمم في متطلباتها الأمنية على حساب الأمم الأخرى؛ فتكون عدوانية توسعية، والأمثلة على ذلك كثيرة، أو تكتفي بتوفير الأمن والحماية لرعاياها، وتتخيّر أفضل الوسائل للدفاع عن سيادتها وعن ذاتها. ومن هنا يمكن القول: إن الأمن القومي يتضمن جملة العناصر الاستراتيجية التي توفر للدولة (الأمة) القدرة اللازمة للدفاع عن ذاتها أمام الأخطار الخارجية والداخلية التي قد تتعرض لها أو تهدد مصالحها؛ بما في ذلك استقرارها السياسي والاجتماعي.
تضع الدولة استراتيجية متكاملة لأمنها تتماشى مع تطلعاتها المرحلية والمستقبلية، وتشتمل على ثوابت وخطوط حمراء لايمكن تجاوزها أو تجاهلها، كما تشتمل على متغيرات قابلة للتعديل والتبديل وفق الشروط الراهنة والقدرات المادية والمعنوية المتوافرة، واعتماداً على الروابط الاجتماعية بين رعاياها وعلاقاتها مع الأمم الأخرى. وتعد تلك الاستراتيجية الموجه الرئيسي لجميع المناشط السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تنهجها الدولة لتحقيق أهدافها.
التنظيمات المسؤولة عن الأمن القومي
تعدّ القيادة السياسية الأداة الرئيسة المسؤولة عن الأمن القومي. وتكون بقية الأجهزة التنفيذية مسؤولة أمامها فيما يتصل بها. وتختار كل دولة التنظيم المناسب لأمنها القومي ومتابعة تحقيق أهدافها وتنفيذ استراتيجياتها العليا وتعديلها وفق الشروط الراهنة. و أكثرها يميل إلى أن تكون هناك هيئة عليا تتولى تنسيق جميع مناشط الدولة وفق منهج محدد مبني على إجماع قومي. والغاية من وجود الهيئة المذكورة تقديم النصح والمشورة إلى القيادة السياسية العليا حول مسائل الأمن القوميّ بما يتفق والسياسات الداخلية والخارجية والعسكرية والمصادر اللازمة لتنفيذها، وتوجيه نشاط أجهزة الأمن والمخابرات وتحديد أهدافها ومهامها. وقد تحمل هذه الهيئة اسم «مجلس الأمن القومي» National Security Council، أو لجنة الأمن العليا، أو مجلس الوزراء المصغر أو غير ذلك. ومهما اختلفت التسميات فالمهمة واحدة، والتشكيل متشابه، ويرأسه غالباً رئيس الجمهورية في البلاد ذات النظام الرئاسي، أو رئيس مجلس الوزراء أو الوزير الأول في البلاد الأخرى، ويضم أعضاء أساسيين، فيهم نائب الرئيس ووزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان ووزير الداخلية والمسؤول عن أجهزة الأمن والمخابرات ومجموعة من المستشارين المتخصصين في شؤون الأمن والدفاع والخارجية.
دور العلم والتقانة في بناء الأمن القومي
كان من نتائج التطور السريع والمذهل الذي شهده العلم والتقانة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخاصة في العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، أن حدثت تبدلات جوهرية في جميع مناحي الحياة العامة على المستوى المحلي والدولي والعالمي. والواقع أن متطلبات الأمن القومي والحرب الباردة والتنافس الشديد بين القوى العالمية كانت من الدوافع الرئيسية للتطوير العلمي والتقني لتعزيز الأمن القومي. وقد ازدادت التباينات في المرحلة الأخيرة بين الأمم الغنية المتطورة علمياً وتقنياً والأمم المقصّرة في هذا المجال إلى درجة خطيرة. وتتميز الملامح الحضارية في العصر الحاضر باعتمادها على العلم والتقانة اعتماداً مطلقاً، وبروز دور الاستثمارات الضخمة والدولية والعالمية في مجالات العلم والتقانة والأبحاث في سباق حضاري محموم، الأمر الذي منح الدول المتطورة فرصاً أوفى وإمكانات أكبر لضمان أمنها ومنحه الأفضلية الأولى على سائر علاقاتها الدولية والعالمية، ومزاحمة الدول الأخرى على مصادرها وممارسة السيطرة والهيمنة عليها عن طريق الضغوط العلمية والتقنية والاقتصادية ناهيك عن الضغوط السياسية والعسكرية. ويقف التقدم العلمي اليوم وراء كثير من الظواهر الاقتصادية والسياسية والثقافية التي حملت صفة العولمة ويسرت هيمنة الدول الكبرى والغنية على مقدرات الأمم الأخرى بحجة فتح أبواب المنافسة والتجارة الحرة، الأمر الذي هدد الهوية الثقافية والخصوصيات القومية التي تميز أمة من أخرى.
ومن ثمّ أصبح التطور العلمي والتقني مكوّناً أساسياً من مقومات الأمن القومي بعدّه ركيزة من ركائز الدفاع عن الأمة وتراثها وحماية مصالحها، وبعدّه مصدراً أساسياً من مصادر الثروة؛ وقوّة إنتاجية يمكن لأصغر الدول الاستفادة منها إذا ما سعت إلى تملّكها. وقد أفضى هذا التطور كذلك إلى تبدل مراكز الأجهزة المعنية واختصاصاتها، فاحتل العلماء والتقنيون مكانة الريادة في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وفرض نوعاً جديداً من العلاقات بين القوى المهيمنة التي تملك التقانة وبين بقية الدول، وفتحت آفاقا جديدة لوجود مؤسسات عالمية ضخمة متعددة الجنسيات تملك من القوة والنفوذ ما يمكنها من فرض سياساتها ومنهجها، ووضعت أمام البشرية معضلات معقدة لابد من تضافر الجهود لحلّها والتغلب عليها لتوفير العيش الآمن للأمم جميعها.
محمد وليد الجلاد