- Al-Qiyafah
القيـافـة
تعني القيافة تتبّع الأثر وقصّه، وهي مأخوذة من قاف المحوّرة من قفا يقفو، وهذا دارج في اللّغة مثل قاع البعير المحوّرة من قعا. والقيافة تحتاج إلى ملكة خاصة ودربة، وقد برع في هذا المضمار بنو مدلج وأحياء مرّ بن نزار ابن معدّ، لما كان من فعل بني نزار الأربعة في مسيرهم نحو الأفعى الجرهميّ، ووصفهم للجمل ولم يشاهدوه، حتّى إنّ القصّاص ينعت اليوم في الجزيرة العربيّة بـ«المرّي» وامتاز العرب بالفراسة، فقال معن بن زائدة: «إذا رأيت قفا الرجل عرفت نصف عقله». فقيل له: «كيف إذا رأيت وجهه؟» قال: «ذلك عندئذ كتاب أقرؤه» وأهل الصحراء أقدر على تتبّع الأثر لما وفّرته لهم الرمال الناصعة التي تشبه الورق من مجال رحب، وهم في الغالب يسيرون حفاة، دائمو النظر إلى الأرض يستقرئون ما طبع عليها من أثر إنسان أو حيوان، وصاحب الفراسة يعرف آثار مجاوريه، ويعرف أثر الرِّجل الغريبة، بل يميّز بعضهم بين أثر وطء الإنسان الأبيض من الأسود والشاب من الشيخ والمرأة من الرجل والثيّب من العاتق، وغير مستغرب أن سار أحدهم مصادفة مع أثر ابنته وهي ترعى الأغنام، فلاحظ أنّ أثر خطاها اختلف بعدما قفزت من حافّة جرف، فعرف أنّ غشاء بكارتها قد تمزّق، فأتى بشهود ليشهدهم على ذلك، وأراهم أثرها قبل القفزة وبعدها، ولاشكّ أنّ أثر الشيخ المسنّ يختلف عن أثر الشاب ذي الحيويّة والنشاط، وقديماً قال ابن الطحّان:
حنتني حانيات الدهـر حتّـى
كأنّي خاتلٌ أدنو لصيدِ
قريب الخطو يحسب من رآني
ولستُ مقيّداً أنّي بقيدِ
وخطوة المرأة الثيّب أرحب من البنت البكر، والحامل تتكئ على عقبيها في سيرها، بينما أصابع قدميها لا تضغط على الأرض، وأثر قدم الزنجيّ العارية أملس مقارنة بالرجل الأبيض، ولا يخدع القصّاصَ الحاذقَ أن يغيّر أحدهم حذاءه أو يلبسها بالمقلوب، فهو يقدّر حجم القدم وشكلها من أثر الوطء، ويعرف وزن الإنسان وإن كان يحمل على ظهره ثقلاً أم لا.
وقصّ الأثر وتتبّع الجرّة عسير على الأرض الصلبة وفي المناطق الجبليّة لا يمارسه إلاّ مختصّ وخبير، فهو قد يستدلّ على الأثر واتجاه المسير بحصاة مقلوبة أو غصن مكسور أو عشب مدعوس، كما يجب أن يكون على دراية ومعرفة بطبيعة الأرض وتضاريسها، ويعرف الممرّات الإجباريّة والنقابات الجبليّة والمسالك التي يجتازها الإنسان الراجل أو الراكب، ويعرف أماكن المياه وصبر الكائن الحيّ على العطش، ويظلّ يخمّن المسارات التي يسلكها صاحب الأثر إلى أن يعثر له على خطوات، وأحياناً كثيرة لا يسير القصّاص متقفّياً الأثر بل يذهب ليقصّ الأثر في وادٍ يعترض طريق الشخص المطلوب تتبّعه، والقصّاص الماهر خبير بطبيعة النفس البشريّة، ومسلّح بأمثال وأقوال مأثورة نابعة من التجارب المتراكمة، يمكن أن يستفيد منها في مهنته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «الجائع والخائف والبردان لا ينام» ويعرف أنّ الخائف يجري جرياً مهولاً، فقيل: «جري الخوف ما هو كجري الطمع، جريُ الخوف يأتي بالربع» وكذلك قيل قديماً: «يكاد المريب يقول خذوني».
وقصّ أثر الحيوان أسهل من قصّ أثر البشر، لأنّ الحيوان الأليف يسير في طرق سهلة، ولا يعمد إلى التمويه والتضليل والخداع، وكثيراً ما تصدر عن الحيوان أصوات كالصهيل والرغاء والحنين والثغاء والنهيق والخوار، كما يترك الحيوان مخلّفات كالروث والبعر، تدلّ على اتجاه السير وأماكن التوقّف، وقيل: «البعرة تدلّ على البعير والأثر يدلّ على المسير» ويستطيع القصّاص معرفة الزمن بجسّ البعر أو الزبل الذي خلّفه الحيوان، والأكثر صعوبة قصّ أثر الطير في السماء والسمك في الماء، فيقصّ أثر الطائر وهو محلّق في السماء بما يسقط على الأرض من ذرق أو ريش، أو بما يسقط من مناقيره أو مخالبه، ويقصّ أثر النحل بما يسقط على الأغصان أو الصخور من رحيق أو بساق أو طلع في أثناء ذهابه وإيابه إلى مسكنه وهم لم يبصروه، والإنسان العاديّ إذا ما نظر إلى البحر لا يرى إلاّ زرقة الماء، أما الصيّاد الماهر فيرى رفوف الأسماك تلوح مع حركة الموج أو يراها كرساً أسود في الماء الراكد، أو عند الموانئ أو مصابّ الأنهار، أو يرى كلب بحر يطاردها أو يتربّص على طريقها.
عبد الكريم عيد الحشاش
القيـافـة
تعني القيافة تتبّع الأثر وقصّه، وهي مأخوذة من قاف المحوّرة من قفا يقفو، وهذا دارج في اللّغة مثل قاع البعير المحوّرة من قعا. والقيافة تحتاج إلى ملكة خاصة ودربة، وقد برع في هذا المضمار بنو مدلج وأحياء مرّ بن نزار ابن معدّ، لما كان من فعل بني نزار الأربعة في مسيرهم نحو الأفعى الجرهميّ، ووصفهم للجمل ولم يشاهدوه، حتّى إنّ القصّاص ينعت اليوم في الجزيرة العربيّة بـ«المرّي» وامتاز العرب بالفراسة، فقال معن بن زائدة: «إذا رأيت قفا الرجل عرفت نصف عقله». فقيل له: «كيف إذا رأيت وجهه؟» قال: «ذلك عندئذ كتاب أقرؤه» وأهل الصحراء أقدر على تتبّع الأثر لما وفّرته لهم الرمال الناصعة التي تشبه الورق من مجال رحب، وهم في الغالب يسيرون حفاة، دائمو النظر إلى الأرض يستقرئون ما طبع عليها من أثر إنسان أو حيوان، وصاحب الفراسة يعرف آثار مجاوريه، ويعرف أثر الرِّجل الغريبة، بل يميّز بعضهم بين أثر وطء الإنسان الأبيض من الأسود والشاب من الشيخ والمرأة من الرجل والثيّب من العاتق، وغير مستغرب أن سار أحدهم مصادفة مع أثر ابنته وهي ترعى الأغنام، فلاحظ أنّ أثر خطاها اختلف بعدما قفزت من حافّة جرف، فعرف أنّ غشاء بكارتها قد تمزّق، فأتى بشهود ليشهدهم على ذلك، وأراهم أثرها قبل القفزة وبعدها، ولاشكّ أنّ أثر الشيخ المسنّ يختلف عن أثر الشاب ذي الحيويّة والنشاط، وقديماً قال ابن الطحّان:
حنتني حانيات الدهـر حتّـى
كأنّي خاتلٌ أدنو لصيدِ
قريب الخطو يحسب من رآني
ولستُ مقيّداً أنّي بقيدِ
وخطوة المرأة الثيّب أرحب من البنت البكر، والحامل تتكئ على عقبيها في سيرها، بينما أصابع قدميها لا تضغط على الأرض، وأثر قدم الزنجيّ العارية أملس مقارنة بالرجل الأبيض، ولا يخدع القصّاصَ الحاذقَ أن يغيّر أحدهم حذاءه أو يلبسها بالمقلوب، فهو يقدّر حجم القدم وشكلها من أثر الوطء، ويعرف وزن الإنسان وإن كان يحمل على ظهره ثقلاً أم لا.
وقصّ الأثر وتتبّع الجرّة عسير على الأرض الصلبة وفي المناطق الجبليّة لا يمارسه إلاّ مختصّ وخبير، فهو قد يستدلّ على الأثر واتجاه المسير بحصاة مقلوبة أو غصن مكسور أو عشب مدعوس، كما يجب أن يكون على دراية ومعرفة بطبيعة الأرض وتضاريسها، ويعرف الممرّات الإجباريّة والنقابات الجبليّة والمسالك التي يجتازها الإنسان الراجل أو الراكب، ويعرف أماكن المياه وصبر الكائن الحيّ على العطش، ويظلّ يخمّن المسارات التي يسلكها صاحب الأثر إلى أن يعثر له على خطوات، وأحياناً كثيرة لا يسير القصّاص متقفّياً الأثر بل يذهب ليقصّ الأثر في وادٍ يعترض طريق الشخص المطلوب تتبّعه، والقصّاص الماهر خبير بطبيعة النفس البشريّة، ومسلّح بأمثال وأقوال مأثورة نابعة من التجارب المتراكمة، يمكن أن يستفيد منها في مهنته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: «الجائع والخائف والبردان لا ينام» ويعرف أنّ الخائف يجري جرياً مهولاً، فقيل: «جري الخوف ما هو كجري الطمع، جريُ الخوف يأتي بالربع» وكذلك قيل قديماً: «يكاد المريب يقول خذوني».
وقصّ أثر الحيوان أسهل من قصّ أثر البشر، لأنّ الحيوان الأليف يسير في طرق سهلة، ولا يعمد إلى التمويه والتضليل والخداع، وكثيراً ما تصدر عن الحيوان أصوات كالصهيل والرغاء والحنين والثغاء والنهيق والخوار، كما يترك الحيوان مخلّفات كالروث والبعر، تدلّ على اتجاه السير وأماكن التوقّف، وقيل: «البعرة تدلّ على البعير والأثر يدلّ على المسير» ويستطيع القصّاص معرفة الزمن بجسّ البعر أو الزبل الذي خلّفه الحيوان، والأكثر صعوبة قصّ أثر الطير في السماء والسمك في الماء، فيقصّ أثر الطائر وهو محلّق في السماء بما يسقط على الأرض من ذرق أو ريش، أو بما يسقط من مناقيره أو مخالبه، ويقصّ أثر النحل بما يسقط على الأغصان أو الصخور من رحيق أو بساق أو طلع في أثناء ذهابه وإيابه إلى مسكنه وهم لم يبصروه، والإنسان العاديّ إذا ما نظر إلى البحر لا يرى إلاّ زرقة الماء، أما الصيّاد الماهر فيرى رفوف الأسماك تلوح مع حركة الموج أو يراها كرساً أسود في الماء الراكد، أو عند الموانئ أو مصابّ الأنهار، أو يرى كلب بحر يطاردها أو يتربّص على طريقها.
عبد الكريم عيد الحشاش