مساهمة فريدة في التأريخ البصري الفلسطيني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مساهمة فريدة في التأريخ البصري الفلسطيني

    مساهمة فريدة في التأريخ البصري الفلسطيني
    هاني حوراني
    فوتوغراف
    خليل رصاص وعلي زعرور عبرا عن الحالة الكفاحية الفلسطينية
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    مدخل
    تشكل مساهمة الباحثة الإسرائيلية، د. رونا سيلع (Rona Sela)، في التأريخ للتصوير الفوتوغرافي الفلسطيني المبكر في فلسطين، والكشف عن الإرث البصري الفلسطيني المنهوب، والمتواري في أقبية الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية، مساهمة ثرية وفريدة في آن واحد.
    إن سيلع هي قيِّمة معارض (أو مُنظمة معارض Curator) معروفة، وباحثة في التاريخ البصري، لها سجل حافل بالأبحاث والمساهمات في تاريخ التصوير الفوتوغرافي في فلسطين، بما في ذلك التصوير الفوتوغرافي اليهودي خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، وكذلك في قضايا المتاحف المحلية والمدن المختلطة (اليهودية ــ العربية) في إسرائيل، وغيرها من الأمور.
    د. رونا سيلع قيِّمة معارض معروفة، وباحثة في التاريخ البصري
    ساهمت في التعريف بالجيلين الأول والثاني من المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين، لا سيما في تقديم ودراسة إرث رائد التصوير الفوتوغرافي العربي في فلسطين، خليل رعد، إضافة إلى التتبع المبكر لعدد من مصوري فلسطين العرب من الجيل الثاني. لاحقًا، قامت بإلقاء أضواء قوية على المصورين الفلسطينيين الذين عاصروا الثورات العربية في ثلاثينيات القرن العشرين، وصولًا إلى أحداث النكبة الفلسطينية، مثل خليل رصاص، وعلي زعرور، وغيرهما.
    غير أن المساهمة الريادية الأكثر شهرة في هذا المجال هو دورها في الكشف عن واحدة من أهم مصادر التاريخ البصري الفلسطيني، أي الصور الفوتوغرافية، وأرشيفات الأفلام السينمائية، والمواد الفنية الأخرى التي كانت قد صادرتها التشكيلات العسكرية الصهيونية، ومن ثم الجيش الإسرائيلي، قبل وإبان النكبة الفلسطينية، عام 1948، ومن ثم في مراحل لاحقة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
    وقد تم ذلك من خلال كتابها الشهير، الصادر عام 2009، تحت عنوان:
    “Made Public – Palestinian photographs in Miltary Archives In Israel”
    حملت النسخة العربية المحدثة من الكتاب (2018) عنوان "لمعاينة الجمهور، الفلسطينيون في الأرشيفات العسكرية الإسرائيلية". وكانت قد أنتجت، عام 2017، أول فيلم وثائقي لها تحت عنوان: "المنهوب والمخفي: الأراشيف الفلسطينية في إسرائيل".
    Looted and Hidden: Palestinian Archives In Israel يتناول سطو القوات الإسرائيلية على مقتنيات ومحفوظات المؤسسات الثقافية والإعلامية والبحثية التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، أثناء اجتياحها للعاصمة اللبنانية، بيروت في صيف 1982.
    ولا يفوتنا هنا التنويه بمساهماتها الأخرى، ذات الصلة بالتصوير، لا سيما مقالتها الخاصة بالنشاط الاستخباراتي لمنظمة الهاغاناه بين سنتي 1943 و1948، لجمع المعلومات عن القرى والمدن الفلسطينية من خلال التصوير الجوي. وقبل ذلك من خلال تجنيد الكشافة اليهودية لتصوير القرى والأحياء العربية المستهدفة. وهو ما خلف مصادر بصرية إسرائيلية ثمينة، وغير مستغلة حتى الآن، عن حالة القرى العربية الفلسطينية قبل تعرضها للتدمير والمحو، وإخضاع سكانها للإجلاء، قبل وإبان مواجهات العام 1948.
    أخيرًا، لعل فرادة مساهمة سيلع في مجال التأريخ البصري الفلسطيني ناجمة ليس فقط عن
    "ساهمت سيلع في التعريف بالجيلين الأول والثاني من المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين، لاسيما رائد التصوير الفوتوغرافي العربي في فلسطين، خليل رعد"
    منهجيتها الأكاديمية النقدية المناهضة للأيديولوجية الصهيونية، وللإرث التصويري الكولونيالي الأوروبي والصهيوني الخاص بفلسطين، وإنما أيضًا من كونها تجمع في أعمالها ما بين مهمة تنظيم المعارض ذات الصلة بموضوعنا، وما بين القراءة المعمقة في الصور التي تقوم بعرضها، حيث قلما نظمت معارض لصور فوتوغرافية من دون أن يرافقها كتاب و"كاتالوج" يوثق تلك الصور، ويقدم لها، تأريخًا وتحليلًا لمضمونها وأبعادها الجمالية. ولا يبدو أن هذا الدور المزدوج لرونا سيلع غريب عن تكوينها وسيرتها المهنية، فقد سبق أن عملت في متحف حيفا، وهي تدرس في جامعة تل أبيب في اختصاصها، أي التأريخ البصري، منذ عام 1996.
    سنركز في مقالتنا هذه على التعريف بأقدم أعمال سيلع، التي انشغلت بالتأريخ للتصوير الفوتوغرافي المبكر في فلسطين، لا سيما التصوير الفوتوغرافي اليهودي الذي اتخذ بصورة رئيسية طابعًا صهيونيًا.





    التصوير في الثلاثينيات والأربعينيات
    البروباغندا الصهيونية (يسار) في مقابل الرومانسية الفلسطينية
    يعد كتاب التصوير الفوتوغرافي في فلسطين خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات (Photography in Palestine in the 1930'S & 1940'S) المنشور باللغة العبرية عام 2000 أول أعمال رونا سيلع البحثية التي تتبعت تاريخ التصوير في فلسطين، بوجهيه اليهودي والعربي الفلسطيني. ورغم أن محتواه الرئيسي تمحور حول التصوير اليهودي، سواء منه الذي اتخذ طابعًا مؤسساتيًا صهيونيًا، أو ذلك التصوير الفردي والمستقل عن المؤسسة الصهيونية، إلا أن الكتاب كان، فضلًا عن ذلك، أولى محاولات سيلع لإلقاء الضوء على التصوير المحلي الفلسطيني، وللتعريف بأبرز أعلامه، وهو الأمر الذي توسعت فيه في ما بعد، وبات مجالًا رئيسيًا من مجالات اهتمامها.
    وتكمن أهمية هذه المساهمة المبكرة في أنها تعقد مقارنة مهمة ما بين التصوير الفوتوغرافي اليهودي، الذي هيمنت عليه المؤسسة الصهيونية مبكرًا، وأدركت أهميته ووظيفته في ماكينتها الدعائية بقوة، وبين التصوير الفوتوغرافي الفلسطيني العربي الذي ظل تصويرًا فرديًا، مستقلًا وغير منظم(**).





    أولًا: التصوير اليهودي في فلسطين
    نموذج من التصوير اليهودي المبكر: تقديم المستوطنين بصورة بطولية، كبناة مجتمع جديد في فلسطين
    نساء الكيبوتسات: عاملات فرحات ومنتجات، إحدى كليشيهات التصوير الصهيوني "لليهود الجدد"
    في ما يخص نشأة وتطور التصوير الفوتوغرافي اليهودي، تعزو د.سيلع الفضل فيهما إلى عاملين رئيسيين: أولهما موجة الهجرة اليهودية الكبيرة من ألمانيا إلى فلسطين، مباشرة إثر صعود الحزب النازي إلى السلطة في ألمانيا، حيث أيقظ ذلك الصعود مشاعر الخوف لدى يهود ألمانيا من الخطر النازي المحدق بهم، أما العامل الثاني فهو تفاقم الصراع اليهودي ــ الفلسطيني خلال تلك الحقبة، أي خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات. فقد أدركت المؤسسات الصهيونية في فلسطين، كما تقول سيلع، الإمكانات الكبيرة التي ينطوي عليها الفوتوغراف، كوسيط إعلامي في ضوء الحاجة المتزايدة لمواد تساعد هذه المؤسسات على بناء صورة يمكن توظيفها على نحو مكثف لتحقيق أهدافها القومية في فلسطين.
    المهاجرون الجدد اليهود الى فلسطين: ضحايا أم غزاة؟
    لقد كانت هناك حاجة لتأسيس لغة كولونيالية تعبر عن المؤسسة القومية الصهيونية في فلسطين وتخدمها، علمًا أن هذه اللغة سبق أن طورت من قبل، على يد التصوير الكولونيالي الغربي
    "أدركت المؤسسات الصهيونية في فلسطين الإمكانات الكبيرة التي ينطوي عليها الفوتوغراف، كوسيط لبناء صورة يمكن توظيفها على نحو مكثف لتحقيق أهدافها القومية في فلسطين"
    للبلاد المقدسة خلال القرن التاسع عشر. وهكذا فقد لعب التصوير الفوتوغرافي اليهودي دورًا مفتاحيًا في بناء هذه اللغة المنشودة، من خلال الصور التي أنتجت عن "اليهودي الجديد" في البلاد الجديدة، أي فلسطين. كما أسهم هذا التصوير الفوتوغرافي اليهودي المبكر، من ناحية أخرى، في طريقة تقديمه للسكان المحليين، أي الفلسطينيين، في صور زرية، حيث خلقت المؤسسة اليهودية رموزًا مصورة لتتناسب والتطلعات الصهيونية لسنوات عديدة لاحقة، وهو ما أثر بصورة قوية على الطريقة التي قُدِم فيها الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني لآجال طويلة.
    لقد وعت المؤسسة اليهودية مبكرًا الإمكانات الكامنة في الوسيط الفوتوغرافي، التي يمكن توظيفها في خدمة الغايات الدعائية، ولا سيما في تقديم صورة بصرية جذابة عن الفكرة الصهيونية. وهكذا تعددت دوائر التصوير في المكاتب الإعلامية التابعة لمختلف المؤسسات اليهودية، التي توسعت أكثر خلال عقدي الثلاثينيات والاربعينيات، لا سيما تلك التابعة للصندوق القومي اليهودي (JNF)، وصندوق كيرن هايسود ((The Karen Hayesed Fund، ولدى الوكالة اليهودية ذاتها، حيث لعبت الصناديق القومية اليهودية الآنفة دورًا قياديًا بارزًا، ليس فقط في التطوير المؤسسي لدوائر التصوير الفوتوغرافي اليهودي المحلي، وإنما أيضًا في التأثير على لغة التصوير العامة والخاصة في المجتمع اليهودي داخل فلسطين.
    لقد أسست هذه الصناديق خدماتها التصويرية بصورة رئيسية من أجل تزويد الصحافة اليهودية عبر العالم بمواد دعائية وإخبارية مصورة، وكذلك لإمداد حملاتها التعبوية الهادفة إلى جمع التبرعات لصالح الاستيطان الصهيوني، أو تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، إضافة الى الترويج بشكل عام للفكرة الصهيونية. وفي الوقت نفسه ساهمت دوائر التصوير التابعة للصناديق القومية، وغيرها من المؤسسات، في تزويد الصحف المحلية اليهودية، وكذلك الصحف الأجنبية بالصور، إلى جانب تغذية أجهزة الإعلام الجماهيرية بمواد مصورة لغايات إقامة المعارض، وإنتاج الملصقات والبطاقات والطوابع البريدية، وغيرها.
    تصف رونا سيلع الدور الذي لعبته المؤسسات اليهودية في توظيف الفوتوغراف، وغيره من الوسائط البصرية (كالسينما والتصاميم الطباعية)، من أجل ترويج صور بطولية ذات طبيعة منمطة حول ما يسمى "باليهودي الجديد في أرض ــ إسرائيل"، (أي فلسطين)؛ "صور أكبر من الحياة ذاتها، ذات ملامح أوروبية، عديمة الهوية الفردية، صورة رياديين يجسدون الفكرة الصهيونية، ويشكلون رموزًا مثيولوجية". وقد استخدمت هذه الصور على نطاق واسع من قبل الحركات العمالية اليهودية والمؤسسات القومية اليهودية، على حد سواء، لاجتذاب الأعضاء والمؤيدين.
    وتضيف سيلع أنه مع نهاية عشرينيات القرن الماضي ظهر نفوذ سوفييتي واضح على طرائق عمل المؤسسات الصهيونية، حيث تجلى ذلك في محاولة بناء نموذج توضيحي قائم على "خليط من الواقع والريادية المثالية" ذات الطابع القومي ــ المدني اليهودي". وذلك لتوفير مواد فوتوغرافية تصلح لتضمينها في القصص الإخبارية والمقالات الصحفية، وتساهم في تقوية محتواها.
    وهكذا، كانت صور الأشخاص (كالجنود، أو المستوطنين) تلتقط من زوايا غير مألوفة، أو غير عادية، "إما من زاوية عالية، أو من زاوية منخفضة، بقصد إضفاء طابع بطولي عليهم"، وقد
    "تصف سيلع الدور الذي لعبته المؤسسات اليهودية في توظيف الفوتوغراف، من أجل ترويج صور بطولية ذات طبيعة منمطة حول ما يسمى "باليهودي الجديد في أرض ــ إسرائيل"، (أي فلسطين)"
    ظل هذا النمط من التصوير، المستمد من الفهم الصهيوني، شائعًا حتى أواسط الستينيات من القرن العشرين. أما الموضوعات المختارة لتلك الصور، فقد كانت تستدعي بصورة متواترة: الجنود اليهود الفخورون، تارة من خلال إظهار تعابير وجوههم، أو من خلال "إظهارهم وهم يسيرون في خطى عسكرية صارمة... إلخ"، وكذلك هو الحال مع صور العمال اليهود الذين يظهرون دائمًا في هيئة حسنة في أثناء عملهم، أو وهم في طريقهم للعمل، أو أثناء حراثة الأرض بآلات زراعية حديثة، أو تصوير أبراج المراقبة في المستوطنات الزراعية، باعتبارها رموزًا للدفاع الذاتي عن تلك المستوطنات... إلخ.
    تخلص رونا سيلع من عرضها التاريخي للتصوير المؤسسي الصهيوني إلى أنه، وبمرور الوقت، قد تبنى العديد من المصورين اليهود، من خلال أعمالهم التصويرية، الأيديولوجية السائدة، خالقين مفردات بصرية قومية صهيونية صلبة غير قابلة للنقد، حتى وإن لم يكن هؤلاء يعون بالضرورة دلالات هذه المفردات وخلفياتها الأيديولوجية. ولا غرابة فقد كانت المؤسسة (الصهيونية) هي "المتعهد الرئيسي للعمل في حقل التصوير الفوتوغرافي"، حيث أجبر العديد من المصورين على تبني النمط السائد للتصوير الذي تمت بلورته بصورة متدرجة، ولذلك فإن قلة قليلة من المصورين اليهود حاولوا الخروج على الخط المهيمن، والمفروض من قبل الصناديق الصهيونية، بل إن العديد من المصورين ذوي الخلفيات المتنوعة، ممن وصلوا إلى إسرائيل جالبين معهم أساليبهم الشخصية المتماسكة في التصوير الفوتوغرافي، لم يلبثوا أن طوعوها "للحاجات القومية".



    الآخر – الفلسطيني في التصوير الفوتوغرافي اليهودي
    صورة الفلسطيني في الفوتوغراف الصهيوني: بدائي ومتعاون، فيما اليهودي الجديد حداثي وأخلاقي!!
    صورة الفلسطيني في الفوتوغراف الصهيوني
    لكن الطابع الكولونيالي الخاص بالتصوير اليهودي في فلسطين لم يقتصر على تعظيم الذات اليهودية، وخلق صورة بطولية للمستوطنين، من النساء والرجال العاملين في حقول التعاونيات الزراعية "الكيبوتسات"، وفي ما بعد الجنود المدافعين عن الكيان الصهيوني الجديد في فلسطين، وإنما تضمن وجهًا آخر، ألا وهو ازدراء "الآخر ــ الفلسطيني"، وتصويره بصورة متخلفة، رثة.
    اعتقد القادة الصهاينة أنه من أجل بسط سيطرتهم على الأراضي الفلسطينية، وكسب التأييد من جانب الرأي العام العالمي، لتأسيس دولة يهودية في فلسطين، فإنه يجب عليهم تأسيس نظام للتسيير الذاتي في البلاد مؤهل لكسب التعاطف، وغير قابل للنقد، أو التساؤل حول شرعيته. لقد استخدم هؤلاء القادة التصورات التي كان قد خلقها التصوير الأوروبي للبلاد المقدسة، كبنية تحتية لبناء صور نمطية صهيونية عن فلسطين، والفلسطينيين، سكان البلاد الأصليين. وهي التصورات المستمدة من الإنجيل والعهد الجديد، التي ترى أن البلاد المقدسة، أو فلسطين، لم تعرف سوى تغييرات قليلة منذ ذلك الزمن. وكما قدم التصوير الأوروبي الشرق باعتباره
    "تضمن الطابع الكولونيالي الخاص بالتصوير اليهودي في فلسطين ازدراء "الآخر ــ الفلسطيني"، وتصويره بصورة متخلفة، رثة"
    مزيجًا من المشاهد التي تجمع ما بين الإثارة الحسية والسحر والتخلف، التي تعود إلى عهد بعيد، فقد استخدمت المؤسسة الصهيونية هذه الصور الاستشراقية، وغيرها، لصالحها، ولغايات تلبية احتياجاتها، وهكذا كانت صورة "الآخر غير المتطور"، التي رسمت لسكان البلاد، أي الفلسطينيين، ضرورية لتظهير وإبراز الهوية الحديثة الجذابة "لليهودي الجديد".
    إن الهوة الواسعة ما بين المستوطنات التي طورها المهاجرون اليهود، ومشاريع الاستيطان، سريعة النمو، ذات الملامح الغريبة الحديثة، وما بين حالة البلاد (الفلسطينية) التي تم تقديمها من وجهة التصوير اليهودي باعتبارها بلادًا "مهدمة، مهملة، تنتظر إعادة الاعمار"، وفرت مفارقة صارخة لترجيح كفة الحركة الصهيونية، ولمنحها قوة سياسية حاسمة، خاصة لدى القوى الغربية التي كان عليها أن تحسم السؤال الخاص بالصراع القائم بين العرب واليهود في فلسطين. وأكثر من ذلك ـ تقول رونا سيلع ـ إن استخدام الصور الإنجيلية لفلسطين أفضى إلى استجابة محددة سلفًا على السؤال المتعلق بالحق التاريخي للسيطرة على الأرض.
    ومن منظور التصوير الصهيوني لما سمته رونا سيلع "بالتطور المزدوج" الذي عرفته فلسطين، حيث يتجاور المجتمع الفلسطيني "البدائي"، والمجتمع اليهودي "الحديث والأخلاقي"، جنبًا إلى جنب، عرضت في الوقت نفسه صورًا فوتوغرافية عديدة للتعايش اليهودي ـ الفلسطيني في تلك الحقبة: خط الباصات اليهودي ـ العربي المشترك على طريق تل أبيب ـ القدس ـ بيروت؛ احتفالات اليوم الأول من أيار في الرملة، بشعارات تجمع ما بين العبرية واليديشية والعربية، يهود يعلمون العرب كيف يحاربون البعوض الناقل لمرض الملاريا... إلخ.
    وبصورة مشابهة، كانت النصوص المرافقة لتلك الصور تركز أكثر فأكثر على تلك المضامين: الفلسطينيون يقدمون الماء ليهود، يزورونهم، يساعدوهم في إزالة العوائق من أجل إقامة مستوطنة جديدة، أو مساعدتهم في بناء المستوطنات!!
    لقد اعتمد تصوير "الفلسطينيين"، أو "الآخر"، في الفوتوغراف اليهودي على توصيفات رئيسية نمطية (Motifs)، أحدهما هو "القديم/ الحديث"، و"قبل/ بعد"، من ناحية أولى، وعلى "تعاون الآخر"، والعلاقات اليهودية "الجيدة - المستنيرة" مع الفلسطينيين.
    في صدد هذا التنميط "للفلسطيني ـ الآخر"، تقول سيلع إن الصناديق (اليهودية) التي كانت تمثل المؤسسة (الصهيونية) كانت تقدم المناطق الفلسطينية، كما كانت قائمة قبل ظهور الحركة الصهيونية في فلسطين باعتبارها مناطق بدائية خاوية. فالماضي كان يتم تعريفه، أو وصفه، بأنه "الفلسطينيون البدائيون"، بينما يتم ربط الحاضر "بالتقدم والحداثة اليهودية". كانت هذه الاستراتيجية الشائعة في تنميط "الفلسطيني ـ الآخر"، من خلال مختلف المعارض التي نظمت من قبل تلك الصناديق، والتي كان يؤكد عليها من خلال عدة وسائل: الصور الفوتوغرافية، الرسوم التوضيحية المقارنة والنصوص، هذا إضافة إلى الأفلام السينمائية التي كانت توزع داخل فلسطين، أو خارجها.
    جانب آخر من النمط المتكرر الذي وسم التصوير اليهودي الكولونيالي في فلسطين هو تقديم صورة "التعاون وعلاقات الجيرة الطيبة"، التي أقامها المستوطنون اليهود مع الفلسطينيين. تقول رونا سيلع إن قادة المؤسسة الصهيونية واجهوا المعضلة الأخلاقية التي خلقتها الصهيونية
    "صورت المؤسسة الصهيونية الصراع باعتباره صراعًا محتمًا ما بين التأخر الذي كان عليه المجتمع الفلسطيني والتقدم الذي يمثله اليهودي الجديد في البلاد المقدسة، أي فلسطين"
    ذاتها، فالصناديق اليهودية تعاملت بطريقتها الخاصة مع هذه الصراعات، حيث بحثوا، على سبيل المثال، عن وسيلة لتحديد "اليهودي الجديد" في علاقته مع "الشرقي ـ الآخر المتخلف"، ليس فقط من خلال خلق صور حديثة له، أي "لليهودي الجديد"، بوصفه الشخص المستنير صاحب المعرفة، وإنما أيضًا من خلال خلق صور أخلاقية له، من خلال تعامله مع الآخر. لقد استثمرت هذه الصناديق جهودًا كثيرة لتظهر صور التعايش مع الفلسطينيين، في حين أخفوا حقيقة أن المستوطنين اليهود ربما قاموا، أو أنهم قاموا فعلًا، بالإساءة إلى الشعب الفلسطيني، كما هو الحال غالبًا إبان الصراع مع السكان الفلسطينيين.
    وهكذا تكثر الصور التي تسلط الضوء على علاقات الجوار الجيدة والمستنيرة التي أقامها المستوطنون اليهود مع الفلسطينيين؛ المساعدات التي قدمها هؤلاء لجيرانهم المحتاجين على الصعد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، والمكاسب التي جناها الفلسطينيون من قبل المستوطنين اليهود. وهكذا فقد صورت المؤسسة الصهيونية الصراع الذي عرفته البلاد باعتباره صراعًا محتمًا ما بين التأخر الذي كان عليه المجتمع الفلسطيني والتقدم الذي يمثله اليهودي الجديد في البلاد المقدسة، أي فلسطين.
    وتتوقف سيلع عند معرض صور فوتوغرافية كان صندوق مؤسسة كيرين هايسود قد أقامه في متحف تل أبيب، في عام 1943، كمثال صارخ، أو كحالة دراسية نموذجية عن كيفية استخدام التصوير الفوتوغرافي والفنون الأخرى، كأدوات دعائية من قبل المؤسسة الصهيونية، وكيف تلاشت الحدود ما بين الفن والدعاية.





    التصوير الطليعي اليهودي في فلسطين
    تعرج سيلع على جانب آخر من التصوير اليهودي في فلسطين، خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، ونعني هنا الاتجاهات الطليعية في الفوتوغراف اليهودي المستقل. وبالاستناد إلى المعرض الذي كانت قد أقامته حول التصوير الفلسطيني خلال الحقبة المذكورة آنفًا، وبعد توقفها المطول عند الاتجاهات الكولونيالية في التصوير اليهودي المؤسسي - الصهيوني، تلقي الضوء على ملامح التصوير الطليعي اليهودي الذي اتخذ طابعًا تجريبيًا ومستقلًا، وكان على صلة وثيقة أكثر بالتصوير التجاري (بما في ذلك التصوير الإعلاني والتصوير الصناعي). وهو التصوير الذي اتخذ سمتًا فنيًا، متحررًا من محددات الشروط التعاقدية التي حكمت التصوير المؤسسي، أو الرسمي، ويتوافر على أرضية ملائمة للتصوير التجريبي والأعمال التي تخترق الحدود المألوفة، حيث تطور على هامش المؤسسة الصهيونية، وبصورة متدرجة نوع من التصوير التجريبي ـ الفني، والذي تطلع نحو توسيع الحدود المتاحة أمام اللغة الفوتوغرافية.
    إن الغالبية العظمى من المصورين القادمين من ألمانيا وأوروبا الوسطى، ممن عملوا في فلسطين خلال الثلاثينيات والأربعينيات، كانوا متأثرين بالاتجاهات الطليعية السائدة في الفن الألماني، الذي يعود إلى نهاية العشرينيات ومطلع الثلاثينيات. وهو ما يفسر كيف ازدهر استخدام الصور الفوتوغرافية في المجتمع اليهودي المحلي خلال تلك السنوات. كان من بين المصورين الذين نشطوا في البلاد خلال تلك الحقبة، خريجو المدارس الفنية، وبعض هؤلاء كانوا يملكون استوديوهات تصوير نشطة في ألمانيا قبل هجرتهم إلى فلسطين، وقد حصل بعض هؤلاء على الشهرة وعلى تقديرات مرموقة قبل هجرتهم إلى فلسطين.





    ثانيًا: التصوير الفوتوغرافي الفلسطيني
    من صور خليل رعد: انعكاس للحياة اليومية في فلسطين
    بالمقارنة مع الاهتمام البالغ الذي أولته المؤسسات الصهيونية، ولا سيما الصناديق القومية في فلسطين، بالتصوير الفوتوغرافي، فإن رونا سيلع تلاحظ أن القيادات السياسية الفلسطينية قامت بجهود متواضعة للغاية في استخدام الصورة الفوتوغرافية من أجل تطوير حملتها الخاصة ضد الاستيطان اليهودي، أو في الصراع ضد الصهيونية عمومًا، والذي كانت الصورة جزءًا منه. وعليه، فقد اتسم التصوير الفوتوغرافي الفلسطيني في تلك الحقبة بكونه تصويرًا قائمًا على أفراد، على النقيض من التصوير الفوتوغرافي اليهودي الذي كان في جله تصويرًا مؤسسيًا ومنظمًا، ولذلك فقد افتقد التصوير الفلسطيني للتوجيه القيادي أو السياسي.
    وتوضح رونا سيلع هذا الأمر بقولها:
    انغمس المصورون المحليون الفلسطينيون في أعمال أقرب ما تكون إلى التصوير الوثائقي، والتصوير الأنثروبولوجي Anthropologist Photography، ولم يكونوا أبدًا دعاة سياسيين في أعمالهم الفوتوغرافية. خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، افتقر التصوير المحلي الفلسطيني إلى الطابع المؤسسي، وقد أنتج المصورون الفلسطينيون صورهم في غالب الأحوال، في ظروف تعاقدات مهنية مستقلة، سواء كانت هذه التعاقدات خاصة، أم تجارية، بما في ذلك تعاقداتهم مع الصحافة المصورة الأجنبية.
    وهنا، يجب التأكيد أن العديد من المصورين المحليين الفلسطينيين اقتفوا أثر المصورين الأرمن، الذي سبق أن أسسوا، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تقاليد مهنة التصوير المحلية في فلسطين. وفقط في أواخر الأربعينيات، بدأ عدد من المصورين الفلسطينيين (ودائمًا من مواقع فردية غير منظمة) يتخذون مواقف سياسية من خلال صورهم التي التقطوها إبان الصراع اليهودي ـ الفلسطيني، ليوثقوا عواقبها المأساوية. وهي صور سرعان ما استخدمت من قبل الإعلام الفلسطيني. إن هذا التطور سيظهر بصورة مركزة خلال سبعينيات القرن الماضي، مع نشوء حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة، ولا سيما بعد انطلاق الانتفاضة الأولى عام 1987، حين بات التصوير الفوتوغرافي أداة فعالة في بناء صورة جديدة للفلسطيني المقاوم. وتسويق هذه الصورة من قبل المنظمات الفلسطينية.
    وعلى الرغم من أن التصوير الفوتوغرافي الفلسطيني خلال الثلاثينيات والأربعينيات لم يخلُ من أثر النزعة القومية لدى الفلسطينيين ـ تقول رونا سيلع ـ، التي ربما وظفت من قبل المؤسسات الإعلامية الفلسطينية، تحت تأثير اليقظة القومية، ذات الطابع الرومانسي، على الشعب الفلسطيني في ذلك الحين، بل وربما تحت تأثير تقليد التصوير الفوتوغرافي اليهودي الذي انشغل بالموضوعات التي تتغنى باليهودي الجديد، وتضفي عليه سمات بطولية. إلا أن المصورين الفلسطينيين، في غالبيتهم، انشغلوا بتناول موضوعات الحياة الفلسطينية، في مجالات التجارة والأسواق والزراعة والثقافة وغيرها، حيث عكست صورهم الحياة اليومية النشطة، الحية والمنتجة لبلادهم. إن هذه الصور كانت تمتلك القوة الكافية لإظهار تناقضها الصريح مع الزعم الذي روج لفلسطين كبلد مهجور، قاحل، مُهمل وغير متطور، ينتظر العمل على استعادته وإحيائه وإنقاذه. إن تلك الصور التي التقطها المصورون الفلسطينيون لبلادهم ومجتمعهم كان ينبغي على أي نظام إعلامي يعي طبيعة الوسيط الفوتوغرافي وقوته الاتصالية أن يستخدمها في نضاله الوطني، تقول سيلع.
    وفي هذا السياق، تدرج رونا سيلع أهم المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين في تلك الحقبة (الثلاثينيات والأربعينات)، وهم: خليل رعد، داوود صابونجي، فضل سابا، كريمة عبود
    "القيادات السياسية الفلسطينية قامت بجهود متواضعة للغاية في استخدام الصورة الفوتوغرافية من أجل تطوير حملتها الخاصة ضد الاستيطان اليهودي، أو في الصراع ضد الصهيونية عمومًا"
    (المصورة الفلسطينية الأولى التي عملت بالتعاون مع سابا). ومن بين المصورين الأرمن النشطين في فلسطين حينذاك، تشير سيلع إلى إيليا كهفدجيان، وهارنيت نكشيان.
    هذا، ولا يفوت سيلع أن تشير إلى أن العديد من المصورين الفوتوغرافيين الفلسطينيين كانوا قد تأثروا أيضًا بالتصوير الأوروبي للقرن التاسع عشر، ذلك التصوير الذي استحضر صورًا تضفي على الشرق مزيجًا من الإثارة والرومانسية والسحر. وهي صور عنت للعالم الغربي أيضًا: أماكن متخلفة غير متطورة وقابلة للكسر.
    إن العديد من الصور التي أنتجها مصورون فلسطينيون تعيد إلى الأذهان مشاهد من العهد الجديد، وحتى لو كان الدافع إلى ذلك اعتبارات تجارية كانت تسعى للاستجابة للطلب الأوروبي المتنامي على صور البلاد المقدسة، أو على صور لمشاهد وردت في الكتاب المقدس، إلا أن هذا الترابط ما بين هذه الصور، وبين الإرث البصري الأوروبي للمشاهد الدينية الواردة في الإنجيل، أو العهد الجديد، لا يمكن تجاهله.
    في أواخر الأربعينيات، أصبح وعي المصورين الفلسطينيين الأفراد أكثر حدة، وبالرغم من أنهم ظلوا يمارسون عملهم بصورة مستقلة، وغير مرتبطين بمؤسسات، فإن العديد منهم أخذ يوثق الصراع الناشب بين العرب واليهود والمتصاعد وصولًا إلى عام 1948 وتداعياتها، ويظهر ذلك خاصة لدى كل من خليل رصاص، وعلي زعرور، اللذين كانا ناشطين بالتصوير منذ مرحلة سابقة. إن العديد من الصور التي التقطوها تصف الجنود العرب والمقاتلين الفلسطينيين في أثناء عملهم، أو خلال مسيراتهم العسكرية، اصطفافهم، تجمعاتهم وغير ذلك من الأوضاع. من ناحية أخرى، هنالك صور أخرى تعرض آثار الدمار الذي لحق بالسكان اليهود، المنازل المدمرة، صور نهب ممتلكات اليهود في القدس الشرقية، القوافل العسكرية اليهودية التي تمت مهاجمتها وإصابتها... إلخ، إضافة إلى صور اللاجئين الفلسطينيين التي استخدمت على نطاق واسع في الصحافة بهدف الترويج لأهداف وطنية.
    وتنتهي سيلع في عرضها للتصوير الفوتوغرافي الفلسطيني في تلك الحقبة إلى حكم ملخصه أن المصورين المتميزين فيها كانوا، إلى جانب مصوري نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، هم خليل رعد من القدس، وكريمة عبود من بيت لحم. ولفترة نهاية الأربعينيات، ومطلع الخمسينيات، هارنيت نكاشيان في غزة.





    * اعتمدنا في التعريف بالكتاب المذكور على نصه الإنكليزي الموجود على موقع د. سيلع الإلكتروني: www.ronasela.com، ومقالتنا هنا هي مدخل إلى مساهمتها في الكشف عن محطات مهمة في التاريخ الفوتوغرافي الفلسطيني.


    ــ باحث في الفنون البصرية. رسام ومصور.

يعمل...
X