أربعة عقود من إبداع المصور العالمي "الأخضر"
بوعلام رمضاني 1
فوتوغراف
"الأخضر" عمق شهرته العالمية برعاية اليونسكو بتصويره مناظر عالمية
شارك هذا المقال
حجم الخط
كثيرة هي الحالات التي وجدت فيها نفسي أقضي ما تسمى "عطلة عمل". وهكذا بعد تحقيق ثقافي إثر أسبوع قضيته في بيروت قبل اندلاع حراك الشعب اللبناني بمناسبة زيارة عائلية، ها أنا أعاود الكرة في ساحل سان تروبيه البديع وعروس جنوب فرنسا رفقة زوجة كادت أن تتصل بالشرطة للإعلان عن اختفاء زوجها الذي دخل معرضًا مبهرًا أنساه نفسه وشريكة حياته وابنه. إنه المعرض الاستعادي الذي تحتضنه قاعة جان ديسبان من فاتح الشهر الماضي حتى التاسع عشر من الشهر الجاري على بعد أمتار من رصيف يصطف فيه الرسامون قبالة بواخر خرافية أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع، على حد تعبير سائحة فرنسية غير مصابة بالفاقة استنادا لمظهرها، لكنها فقيرة جدا مثلي مقارنة بأصحاب البواخر التي تبهر الكثيرين.
أربعة عقود من التصوير
المعرض الذي حظيت بزيارته، وأنا أحاول كسر روتين حياتي الخاصة والمهنية، زادني إيمانا أن الوقوف عند لوحات ناطقة بجمال يوفق صاحبه بين الإبداع الفني والالتزام الإنساني الذي يضرب في صلب إحدى أهم قضايا وتحديات الساعة ـ إن لم تكن أهمها ـ ليس وقوفا عاديا لما يتركه في نفس الزائر من شعور ضروري بل وحتمي لتوازن الجسم والنفس على السواء. تحت رعاية وإشراف فوج أروقة الفن المعاصر "بيل أر فين أر" ومدينة سان تروبيه ـ التي خلدها الممثل الساخر الراحل لوييه دو فونيس بدوره في كوميديا "دركي في سان تروبيه"- حضر المصور الفرنسي العالمي "الأخضر" بلوحات ساحرة تغطي أربعين سنة من حياته المهنية اللصيقة بتاريخ نضاله المستميت من أجل حماية الأرض التي استبيحت، وأصبحت مزبلة في كثير من مناطق المعمورة كما جسدت ذلك تشكيلة القاذورات التي عرضت في مدخل قاعة المعرض. يان أرتوس برتران، أو "ياب" اسمه الفني المختصر، رفع التحدي الذي يفرضه تنظيم معرض في قلب ساحل ساحر قد لا يسمح بزيارة معرض مغلق في عز الصيف. وتمكن من صنع الحدث بعيدا عن باريس المحتكرة للأضواء الثقافية والفنية والأدبية، ليس لأنه اشتهر بمعارض سابقة لمدة أربعين عاما فحسب، بل لأنه صاحب شخصية مرادفة لعدة مواهب مكنته من دخول البيوت الشعبية والمخملية من خلال ألبومات وكتب جميلة باع منها ملايين النسخ، وأفلام وأشرطة وتحقيقات تلفزيونية صحافية نشرتها مجلات متخصصة شهيرة، وهي المجلات التي نشرت في وقت سابق صور اللوحات التي أبهرت سياح ساحل تروبيه.
تصوير الأرض من السماء
كل اللوحات التي يتوقف عندها الزائر لمعرض المصور العالمي "الأخضر"، تفشل محاولته في تفضيل هذه اللوحة عن تلك بسبب الدقة الفنية والتعبيرية التي تعكس حسا متقدما ومتفردا بخصوصية المنظر، وسيطرة تقنية توفرها وسائل ضخمة يعرف صاحبها كيف يوظفها بين السماء والأرض لاستنطاق روعة الطبيعة التي تسمح للإنسان بالتنفس بملء رئتيه، والحد من مسار التلوث الهمجي والزاحف على الأخضر واليابس، وللأحواض الشهيرة وللخيول والأسود والماشية. ومن اللوحات التي استوقفت زوار المعرض بشكل فرض إعجاب وتعاليق أفراد الأسرة الواحدة لوحة بحيرة "قلب فو" التي التقطها في كاليدونيا الجديدة، والتي تعد آية في الجمال والدقة التصويرية والإيحاء، وهي اللوحة التي ازدادت شهرة وتجذرا في مخيلة معجبيه الذين يعدون بالملايين بعد أن اختارها كغلاف لكتابه البديع "الأرض من السماء". في معرض المصور الذي قضى 3000 ساعة على متن مروحيته الخاصة (كوليبري) كمصور تخصص في التصوير من الجو، يقف الزائر مشدودا إلى لوحات كلها رونق وجاذبية وخصوصية إبداعية، الأمر الذي لا يسمح بأدنى تفرقة فنية ممكنة بينها. وينسحب هذا الكلام حتى على اللوحات الضخمة التي سيطرت على المعرض، وشدت أكثر الزوار بحكم حجمها الذي لم يقلل، ولو بدرجة بسيطة ونسبية، من الدقة التصويرية العالية والمحسوبة، والكاشفة عن مهنية نادرة في مجال التصوير. ومن بين اللوحات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، يمكن ذكر تلك التي ترقى إلى مستوى السمعة الحقيقية للمصور المدافع عن البيئة مثل لوحات "حياة في كينيا..."، و"ساحل جزيرة ويت ساندي" في أستراليا، و"دراسة الأسود في كينيا" (التي عاش فيها رفقة زوجته)، و"الفيل الهش لحظة غروب الشمس"، و"السيدة الأفريقية البائسة الجالسة جنب رضيعها"، و"الهنود الحمر"، و"الغزال الهارب"، وغيرها من اللوحات التي جال وصال بها العالم سواء من خلال معارض عديدة، أو أشرطة تلفزيونية وأفلام وألبومات وكتب. ولم يتحقق كل ذلك للمصور العجيب، لولا جوانب هويته المشرعة على عدة مواهب تؤكدها سيرة ذاتية ومهنية تجبر المحب للجمال بوجه عام ولجمال الطبيعة بوجه خاص، ولكل منظر يحمل رمزية ومعنى التاريخ والإنسان، أن يرفع قبعته بكل شموخ وإجلال وبكل ما أوتي من قوة لصاحب الصور التي تطيل العمر، وتعطي حق كل الحواس في المتعة اللامتناهية بشمولية متوازنة وغير محدودة، وتعيد الأمل في غد بيئي لا يجب أن يعدم ونحن نتفرج مكتفين بالتحسر والبكاء خلافا ليان أرتوس برتران.
المصور الذي عمل في محمية طبيعية
كل تواريخ حياة "ياب" الخاصة والمهنية تدل على أنه شخصية غير عادية وفعالة وإيجابية، رغم كل ما يمكن أن يتحفظ عليه المرء في كل الحالات، وخاصة حينما يتعلق بحالة رجل أصبح ثريا دفاعا عن البيئة المهددة بكافة أشكالها لواقع ولمستقبل الفقراء بالدرجة الأولى، والتي أصبحت في خطر غير مسبوق كما مر معنا من خلال عرضنا قبل أسبوع كتاب "دروس فيروس كورونا" الهام للمفكر الكبير إدغار موران. "ياب" فنان تشكيلي ومصور ومخرج وصحافي وكاتب سيناريو، ومارس التمثيل قبل أن يختار مستقبلا مهنيا حوله إلى نجم لا يقل شهرة عن نجوم السينما. المصور الذي ولد في باريس عام 1946، عبر عن موهبته في التصوير عام 1976 في سن الثلاثين حينما بدأ يعمل في محمية طبيعية بكينيا، وشرع في تصوير عائلة أسود يوميا لمدة ثلاثة أعوام، وفي تحضير أطروحة عنها مع زوجته آن. العضو في أكاديمية الفنون الجميلة، وصاحب جوائز وتكريمات رسمية رفيعة، صاحب كتاب "الأرض من السماء" الذي صدر لأول مرة عام 1999، والذي تحول إلى شريط وثائقي يحمل نفس الاسم يعد من أهم وأشهر الكتب التي راجت عالميا، وهو الكتاب الذي يعد ثمرة تجربته غير المسبوقة كمصور اتخذ المروحية والمنطاد كوسيلتين لتصوير الأرض من السماء. أنجز عدة تحقيقات ـ كصحافي متخصص في الطبيعة والمغامرة والرياضة والحيوانات بعد عودته إلى فرنسا من كينيا عام 1981 ـ في كل من مجلات "باري ماتش"، و"جيو"، و"ناشيونال جيغرافيك"، و"فيغارو مغزين"، وغطى سباق السيارات الدولي "باريس دكار" عشر مرات، كما غطى دورة رولان غاروس للتنس وصالون الفلاحة، وأخرج شريطا عن غوريلا الجبال في رواندا. "ياب" الذي أصبح تاجرا في نظر البعض، مضى غير عابئ بما يقال عنه، وراح ينشر الكتب عن الحيوانات والماشية بالتزامن مع تأسيسه وكالة "إلتيتود" (علو) عام 1991 كأول وكالة صحافية تعني بالتصوير من الجو في العالم، ولعل شهرة لوحة "قلب فو" التي التقطها تحت سماء كاليدونيا الجديدة أبلغ تعبير عن إحدى أهم خصوصيات إنجازاته، وعمق شهرته العالمية لاحقا تحت رعاية اليونسكو بتصويره مناظر عالمية وعربية.
"الجزائر من السماء"
هذا المبدع بالصورة الملتقطة من الجو، نشر بعد كتاب "الأرض من السماء"، كتاب "الجزائر من السماء"، و"باريس من السماء"، وكما أقبل الملايين على الكتب المذكورة، أقبل أكثر من 200 مليون زائر على مجموع أعماله التي عرضها في الحدائق والشوارع عام 2000 بعد أن رفضت كل المتاحف عرضها، ورفع "ياب" التحدي معلقا لوحاته على الأسوار الحديدية لحديقة لوكسمبورغ الشهيرة التي أحبتها أم كلثوم، وتواصل مع معجبيه على قارعة الطريق في كل من ليون وروان ومونتريال. الرجل الذي زرع شهرته على عدة جبهات، قام بتنشيط برنامج تلفزيوني حول البيئة بث عالميا من عام 2006 إلى عام 2011، وأطلق عام 2005 مؤسسة "غود بلانت" (كوكب جيد) تكريسا لدفاعه المستميت عن البيئة ومناهضته الاحتباس الحراري. العضو في مؤسسة الرئيس الراحل جاك شيراك التي اهتمت بالبيئة لم يعجب، رغم كل ما بذله، جهات إعلامية متخصصة مثله في الدفاع عن البيئة، وهي الجهات التي أكدت أنه أفرغ البيئة من محتواها السياسي، ووصفته ببهلوان البيئة مثل النجم التلفزيوني السابق نيكولا إيلو وألبير أمير موناكو، كما هاجمته بسبب مشاركته في تصوير دورة سباق السيارات "باريس دكار" لمدة عشرة أعوام كاملة مستعملا مروحته التي مكنته من تصوير بحيرات وحيوانات وبيئات مهددة بالتلوث والتلف. مناهضوه وجدوا في مارس/ آذار من العام الماضي فرصة ذهبية لتعميق ما أخذوه عليه قبل عدة سنوات، وذلك بعد انضمامه إلى مجلس إدارة امبراطورية "لوييه فويتون" أو "أل في أم أش" عملاق الموضة والأبهة ورمز الحياة الفاخرة. "ياب" مضى يومها في نهجه وفيا لقناعاته، ومؤكدا أنه وضع مدخوله من الاجتماع مع أعضاء مجلس إدارة المؤسسة الرأسمالية في خدمة مؤسسته "غود بلانت" التي تعمل على استمرار الأرض بحلتها الخضراء، وعلى ديمومة نقاء وصفاء المعمورة البشرية.
بوعلام رمضاني 1
فوتوغراف
"الأخضر" عمق شهرته العالمية برعاية اليونسكو بتصويره مناظر عالمية
شارك هذا المقال
حجم الخط
كثيرة هي الحالات التي وجدت فيها نفسي أقضي ما تسمى "عطلة عمل". وهكذا بعد تحقيق ثقافي إثر أسبوع قضيته في بيروت قبل اندلاع حراك الشعب اللبناني بمناسبة زيارة عائلية، ها أنا أعاود الكرة في ساحل سان تروبيه البديع وعروس جنوب فرنسا رفقة زوجة كادت أن تتصل بالشرطة للإعلان عن اختفاء زوجها الذي دخل معرضًا مبهرًا أنساه نفسه وشريكة حياته وابنه. إنه المعرض الاستعادي الذي تحتضنه قاعة جان ديسبان من فاتح الشهر الماضي حتى التاسع عشر من الشهر الجاري على بعد أمتار من رصيف يصطف فيه الرسامون قبالة بواخر خرافية أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع، على حد تعبير سائحة فرنسية غير مصابة بالفاقة استنادا لمظهرها، لكنها فقيرة جدا مثلي مقارنة بأصحاب البواخر التي تبهر الكثيرين.
أربعة عقود من التصوير
المعرض الذي حظيت بزيارته، وأنا أحاول كسر روتين حياتي الخاصة والمهنية، زادني إيمانا أن الوقوف عند لوحات ناطقة بجمال يوفق صاحبه بين الإبداع الفني والالتزام الإنساني الذي يضرب في صلب إحدى أهم قضايا وتحديات الساعة ـ إن لم تكن أهمها ـ ليس وقوفا عاديا لما يتركه في نفس الزائر من شعور ضروري بل وحتمي لتوازن الجسم والنفس على السواء. تحت رعاية وإشراف فوج أروقة الفن المعاصر "بيل أر فين أر" ومدينة سان تروبيه ـ التي خلدها الممثل الساخر الراحل لوييه دو فونيس بدوره في كوميديا "دركي في سان تروبيه"- حضر المصور الفرنسي العالمي "الأخضر" بلوحات ساحرة تغطي أربعين سنة من حياته المهنية اللصيقة بتاريخ نضاله المستميت من أجل حماية الأرض التي استبيحت، وأصبحت مزبلة في كثير من مناطق المعمورة كما جسدت ذلك تشكيلة القاذورات التي عرضت في مدخل قاعة المعرض. يان أرتوس برتران، أو "ياب" اسمه الفني المختصر، رفع التحدي الذي يفرضه تنظيم معرض في قلب ساحل ساحر قد لا يسمح بزيارة معرض مغلق في عز الصيف. وتمكن من صنع الحدث بعيدا عن باريس المحتكرة للأضواء الثقافية والفنية والأدبية، ليس لأنه اشتهر بمعارض سابقة لمدة أربعين عاما فحسب، بل لأنه صاحب شخصية مرادفة لعدة مواهب مكنته من دخول البيوت الشعبية والمخملية من خلال ألبومات وكتب جميلة باع منها ملايين النسخ، وأفلام وأشرطة وتحقيقات تلفزيونية صحافية نشرتها مجلات متخصصة شهيرة، وهي المجلات التي نشرت في وقت سابق صور اللوحات التي أبهرت سياح ساحل تروبيه.
تصوير الأرض من السماء
كل اللوحات التي يتوقف عندها الزائر لمعرض المصور العالمي "الأخضر"، تفشل محاولته في تفضيل هذه اللوحة عن تلك بسبب الدقة الفنية والتعبيرية التي تعكس حسا متقدما ومتفردا بخصوصية المنظر، وسيطرة تقنية توفرها وسائل ضخمة يعرف صاحبها كيف يوظفها بين السماء والأرض لاستنطاق روعة الطبيعة التي تسمح للإنسان بالتنفس بملء رئتيه، والحد من مسار التلوث الهمجي والزاحف على الأخضر واليابس، وللأحواض الشهيرة وللخيول والأسود والماشية. ومن اللوحات التي استوقفت زوار المعرض بشكل فرض إعجاب وتعاليق أفراد الأسرة الواحدة لوحة بحيرة "قلب فو" التي التقطها في كاليدونيا الجديدة، والتي تعد آية في الجمال والدقة التصويرية والإيحاء، وهي اللوحة التي ازدادت شهرة وتجذرا في مخيلة معجبيه الذين يعدون بالملايين بعد أن اختارها كغلاف لكتابه البديع "الأرض من السماء". في معرض المصور الذي قضى 3000 ساعة على متن مروحيته الخاصة (كوليبري) كمصور تخصص في التصوير من الجو، يقف الزائر مشدودا إلى لوحات كلها رونق وجاذبية وخصوصية إبداعية، الأمر الذي لا يسمح بأدنى تفرقة فنية ممكنة بينها. وينسحب هذا الكلام حتى على اللوحات الضخمة التي سيطرت على المعرض، وشدت أكثر الزوار بحكم حجمها الذي لم يقلل، ولو بدرجة بسيطة ونسبية، من الدقة التصويرية العالية والمحسوبة، والكاشفة عن مهنية نادرة في مجال التصوير. ومن بين اللوحات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، يمكن ذكر تلك التي ترقى إلى مستوى السمعة الحقيقية للمصور المدافع عن البيئة مثل لوحات "حياة في كينيا..."، و"ساحل جزيرة ويت ساندي" في أستراليا، و"دراسة الأسود في كينيا" (التي عاش فيها رفقة زوجته)، و"الفيل الهش لحظة غروب الشمس"، و"السيدة الأفريقية البائسة الجالسة جنب رضيعها"، و"الهنود الحمر"، و"الغزال الهارب"، وغيرها من اللوحات التي جال وصال بها العالم سواء من خلال معارض عديدة، أو أشرطة تلفزيونية وأفلام وألبومات وكتب. ولم يتحقق كل ذلك للمصور العجيب، لولا جوانب هويته المشرعة على عدة مواهب تؤكدها سيرة ذاتية ومهنية تجبر المحب للجمال بوجه عام ولجمال الطبيعة بوجه خاص، ولكل منظر يحمل رمزية ومعنى التاريخ والإنسان، أن يرفع قبعته بكل شموخ وإجلال وبكل ما أوتي من قوة لصاحب الصور التي تطيل العمر، وتعطي حق كل الحواس في المتعة اللامتناهية بشمولية متوازنة وغير محدودة، وتعيد الأمل في غد بيئي لا يجب أن يعدم ونحن نتفرج مكتفين بالتحسر والبكاء خلافا ليان أرتوس برتران.
المصور الذي عمل في محمية طبيعية
كل تواريخ حياة "ياب" الخاصة والمهنية تدل على أنه شخصية غير عادية وفعالة وإيجابية، رغم كل ما يمكن أن يتحفظ عليه المرء في كل الحالات، وخاصة حينما يتعلق بحالة رجل أصبح ثريا دفاعا عن البيئة المهددة بكافة أشكالها لواقع ولمستقبل الفقراء بالدرجة الأولى، والتي أصبحت في خطر غير مسبوق كما مر معنا من خلال عرضنا قبل أسبوع كتاب "دروس فيروس كورونا" الهام للمفكر الكبير إدغار موران. "ياب" فنان تشكيلي ومصور ومخرج وصحافي وكاتب سيناريو، ومارس التمثيل قبل أن يختار مستقبلا مهنيا حوله إلى نجم لا يقل شهرة عن نجوم السينما. المصور الذي ولد في باريس عام 1946، عبر عن موهبته في التصوير عام 1976 في سن الثلاثين حينما بدأ يعمل في محمية طبيعية بكينيا، وشرع في تصوير عائلة أسود يوميا لمدة ثلاثة أعوام، وفي تحضير أطروحة عنها مع زوجته آن. العضو في أكاديمية الفنون الجميلة، وصاحب جوائز وتكريمات رسمية رفيعة، صاحب كتاب "الأرض من السماء" الذي صدر لأول مرة عام 1999، والذي تحول إلى شريط وثائقي يحمل نفس الاسم يعد من أهم وأشهر الكتب التي راجت عالميا، وهو الكتاب الذي يعد ثمرة تجربته غير المسبوقة كمصور اتخذ المروحية والمنطاد كوسيلتين لتصوير الأرض من السماء. أنجز عدة تحقيقات ـ كصحافي متخصص في الطبيعة والمغامرة والرياضة والحيوانات بعد عودته إلى فرنسا من كينيا عام 1981 ـ في كل من مجلات "باري ماتش"، و"جيو"، و"ناشيونال جيغرافيك"، و"فيغارو مغزين"، وغطى سباق السيارات الدولي "باريس دكار" عشر مرات، كما غطى دورة رولان غاروس للتنس وصالون الفلاحة، وأخرج شريطا عن غوريلا الجبال في رواندا. "ياب" الذي أصبح تاجرا في نظر البعض، مضى غير عابئ بما يقال عنه، وراح ينشر الكتب عن الحيوانات والماشية بالتزامن مع تأسيسه وكالة "إلتيتود" (علو) عام 1991 كأول وكالة صحافية تعني بالتصوير من الجو في العالم، ولعل شهرة لوحة "قلب فو" التي التقطها تحت سماء كاليدونيا الجديدة أبلغ تعبير عن إحدى أهم خصوصيات إنجازاته، وعمق شهرته العالمية لاحقا تحت رعاية اليونسكو بتصويره مناظر عالمية وعربية.
"كل اللوحات التي يتوقف عندها الزائر لمعرض المصور العالمي "الأخضر"، تفشل محاولته في تفضيل هذه اللوحة عن تلك بسبب الدقة الفنية والتعبيرية التي تعكس حسا متقدما ومتفردا بخصوصية المنظر" |
"الجزائر من السماء"
هذا المبدع بالصورة الملتقطة من الجو، نشر بعد كتاب "الأرض من السماء"، كتاب "الجزائر من السماء"، و"باريس من السماء"، وكما أقبل الملايين على الكتب المذكورة، أقبل أكثر من 200 مليون زائر على مجموع أعماله التي عرضها في الحدائق والشوارع عام 2000 بعد أن رفضت كل المتاحف عرضها، ورفع "ياب" التحدي معلقا لوحاته على الأسوار الحديدية لحديقة لوكسمبورغ الشهيرة التي أحبتها أم كلثوم، وتواصل مع معجبيه على قارعة الطريق في كل من ليون وروان ومونتريال. الرجل الذي زرع شهرته على عدة جبهات، قام بتنشيط برنامج تلفزيوني حول البيئة بث عالميا من عام 2006 إلى عام 2011، وأطلق عام 2005 مؤسسة "غود بلانت" (كوكب جيد) تكريسا لدفاعه المستميت عن البيئة ومناهضته الاحتباس الحراري. العضو في مؤسسة الرئيس الراحل جاك شيراك التي اهتمت بالبيئة لم يعجب، رغم كل ما بذله، جهات إعلامية متخصصة مثله في الدفاع عن البيئة، وهي الجهات التي أكدت أنه أفرغ البيئة من محتواها السياسي، ووصفته ببهلوان البيئة مثل النجم التلفزيوني السابق نيكولا إيلو وألبير أمير موناكو، كما هاجمته بسبب مشاركته في تصوير دورة سباق السيارات "باريس دكار" لمدة عشرة أعوام كاملة مستعملا مروحته التي مكنته من تصوير بحيرات وحيوانات وبيئات مهددة بالتلوث والتلف. مناهضوه وجدوا في مارس/ آذار من العام الماضي فرصة ذهبية لتعميق ما أخذوه عليه قبل عدة سنوات، وذلك بعد انضمامه إلى مجلس إدارة امبراطورية "لوييه فويتون" أو "أل في أم أش" عملاق الموضة والأبهة ورمز الحياة الفاخرة. "ياب" مضى يومها في نهجه وفيا لقناعاته، ومؤكدا أنه وضع مدخوله من الاجتماع مع أعضاء مجلس إدارة المؤسسة الرأسمالية في خدمة مؤسسته "غود بلانت" التي تعمل على استمرار الأرض بحلتها الخضراء، وعلى ديمومة نقاء وصفاء المعمورة البشرية.