القاهرة في فوتوغرافيا عادل واسيلي.. الجمال العمرانيّ ورعب الجائحة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القاهرة في فوتوغرافيا عادل واسيلي.. الجمال العمرانيّ ورعب الجائحة

    القاهرة في فوتوغرافيا عادل واسيلي.. الجمال العمرانيّ ورعب الجائحة
    مليحة مسلماني
    فوتوغراف
    قهوة الفيشاوي في القاهرة بعدسة عادل واسيلي
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    على مدار سنوات طويلة من ممارسته فن التصوير الفوتوغرافي، ألّف المصور المصري، عادل واسيلي، ألبومه البصريّ الضخم، الذي أصبح مرآة لمصر، بمختلف طبقاتها الهوياتية، وانعكاسًا لهويتها المكانية المتردّدة بين جماليات معمارية من ناحية، وتلوّث بصري وجوي، وازدحام وبؤس ساكني المكان من ناحية ثانية. هذا الألبوم هو، أيضًا، بورتريه شامل للشخصية المصرية بكل أشكالها، سواء كانت فلاحًا يكدّ في حقول مصر الخضراء، أو حِرَفيًّا تركت مهنته آثارها على يديه وملامحه وشخصيته، أو امرأة تنتظر اللاأحد في زاوية مقهىً في القاهرة، أو ثوريًا في لحظةِ استراحةٍ في خضم الكفاح في ثورة تاريخية. كل ذلك، وأكثر، احتوته مسيرة عادل واسيلي في التصوير الفوتوغرافي، لتكون مسيرةً موازية لمصر الهوية، أو بمعنى آخر، المُعادِل البصري للمكان، وشخوصه، وتاريخه.


    بورتريه ثورة 25 يناير
    واسيلي، الذي وثّق اللحظات الحاسمة في ثورة 25 يناير، وجمعها في كتابه الفوتوغرافي "حياة الميدان"، ينتقل في جائحة كورونا إلى مستوى جديد في الرؤية، وفي العلاقة مع المكان والصورة، على حدٍّ سواء؛ فقد اهتمت عدسته، خلال الثورة، بالتقاط الحياة داخل ميدان التحرير. وبمعنى أدق، اهتم بتصوير الشخوص في أدوار مختلفة في ميدان التحرير. يقول الفنان "اقتربت الكاميرا من وجوه أهل التحرير، هؤلاء الذين قدموا بعد ساعات سفر طويلة من القرى البعيدة في أسوان، ومن قلب سيناء، من محافظات مصر المختلفة. أهل التحرير كانوا من قرى مصر، ومن مدنها، كانوا شباب مصر الذي انتزع الأمل من السماء بيديه الفتية، كانوا نساءً تزغرد في الفرح، وتضمد الجراح، وتلقي بالحجارة على المعتدي، وتقفز في النيران لإنقاذ طفل، أو مصاب، كانوا شيوخًا لم يكترثوا للمرض، ووثقوا بأن شفاءهم من شفاء مصر، أهل التحرير منهم أطفال صغار، لم يبكِ أي منهم جوعًا، أو مللًا"(*).



    زمن الجائحة: من الشخوص إلى المكان
    "وسط البلد" في القاهرة بعدسة عادل واسيلي وقد بدا خاليًا من الرواد
    وإن كان هدف كاميرا واسيلي، خلال الثورة، هو الشخوص، فإن الهدف، خلال الجائحة، انتقل إلى المكان الذي خلا من الشخوص نتيجة فرض حظر التجول، ونتيجة الخوف الذي سيطر على العالم بأسره من الإصابة بعدوى فيروس كورونا؛ لقد تأثرت مصر كبقية دول العالم بالجائحة، التي ستصبح بدورها، ومع استمرارها لأكثر من عام حتى الآن، ذاكرةً إنسانية مشتركة للبشرية جمعاء. غير أن تأثيرها على مصر كان خاصًا، ومختلفًا، وذلك على أصعدة عدة، بطبيعة الحال. والمشهد الأبرز وضوحًا، والأكثر رهبة، هو خُلوّ عاصمتها، المدينة التي لا تنام، من الناس، والموت النسبي للحركة فيها.
    "يقول واسيلي: أهل التحرير كانوا من قرى مصر، ومن مدنها، كانوا شباب مصر الذي انتزع الأمل من السماء بيديه الفتية"
    أراد واسيلي توثيق المرحلة التي لم تشهدها مدينته من قبل. يقول إنه، هو نفسه، ابن المدينة التي ولد وعاش فيها، ذُهِل بالجمال العمراني لمباني القاهرة، والذي تجلّى بعد الجائحة نتيجة فراغ الناس من الأمكنة، فهو، كساكني المدينة أيضًا، لم يرَ المدينة خالية إلى هذا الحد، ولم يشهد من قبل هذا الجمال، مُجرّدًا وعاريًا من الناس والحركة. يوثّق الفنان تلك اللحظات مرتبكًا، لينتقل إلى مستوى آخر في السؤال حول المكان، أفرزته الصورُ وعملية التقاطها.



    "المكان إن لم يُؤَنَّث لا يُعوَّل عليه"
    (عادل واسيلي)
    يقول ابن عربي إن المكان إن لم يُؤنَّث، ويقصد تأنيث مفردة "مكان" لتكون "مكانة"، لا يُعوَّل عليه. وكذلك اكتشفت المجتمعات، كما أدرك الفنانون والمبدعون، كما أدرك واسيلي أيضًا، أن خلوّ الأمكنة من الناس، و"صفاءها" من الازدحام، وسكونها في غياب الحركة، وتصدّرُ الطبيعةِ بحيواناتها المشهدَ، كل ذلك كان جمالًا ناقصًا، أو بالأحرى، جمالًا محاطًا بتاجٍ من الخوف والرهبة، وموسومًا بعلامة استفهام كبيرة تتبع سؤالًا وجوديًّا قلقًا: "أين ناس المكان؟". فلا مكانة للمكان إلا بأهله، بأصواتهم فيه، بإيقاع أعمالهم، بمضارباتهم في البيع والشراء، بضحكات الأطفال، ولَهْوِهم، في الأزقّة، وبأصوات الكؤوس والزجاجات والدردشة في المقاهي، وحتى بافتعال المشاكل والتلاسن في ما بين الناس، كل ذلك يدلّ على حياة، وغياب كل هذا، دفعةً واحدة، لا يدلّ سوى على "موت".
    "لا مكانة للمكان إلا بأهله، بأصواتهم فيه، بإيقاع أعمالهم، بمضارباتهم في البيع والشراء، بضحكات الأطفال، ولَهْوِهم، في الأزقّة"
    هذا بالضبط ما أرادت كاميرا واسيلي التقاطه؛ أرادت وضع السؤال داخل إطار الصورة: هل تبدو ساحة الحسين، التي لا تخلو من الزائرين، أو ميدان العتبة، الذي لا يخلو من البائعين والمشترين، أو غيرهما من المساجد والكنائس والأماكن المزدحمة، على مدار الساعة، وعلى الرغم من تجلّي أصالة وجماليات عمرانهما، هل تبدو حقًا بهذا الجمال حين صارت خالية وخاوية؟



    الجمال المتوّج بالموت
    (عادل واسيلي)
    الجمال المتوَّج بالموت، وبالخوف من المجهول، هو موضوع صور واسيلي الخاصة بمرحلة الجائحة، وهو خوف مضاعف، كما يقول الفنان؛ فإذا كان الخوف من الشرطة، وقوى النظام، ومعسكره، من "المواطنين الشرفاء"، كما يصبح دارجًا قوله، هو المسيطر على مصر منذ سنوات بعد محاولات إحباط ثورة 25 يناير، وانتصار معسكر الثورة المضادة، فإن الخوف من الموت مضافٌ إليه في هذه المرحلة. هذا الخوف ليس من الموت فقط، فالجائحة لها تبعاتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية كذلك، ليضاف إلى كل ذلك، الخوف على مصير وطنٍ يرزح بالأصل تحت وطأة حكم العسكر، والفقر المتزايد والأوضاع الاقتصادية الآخذة بالتردّي، ويرزح الآن أيضًا تحت وطأة "جائحة".
    التصوير في مصر مهنة تقترب في أعين قوى الأمن والنظام من الخيانة، "أنت تحمل كاميرا يعني أنت جاسوس، أو أن تكون على الأقل في موضع اشتباه، ما يتطلب اعتقالك والتحقيق معك"، يقول واسيلي. وعلى الرغم من ذلك، يستمر الفنان في مسيرته في التقاط مصر بمختلف مراحلها وأحوالها، وكذلك فعل في الجائحة، كمرحلة تاريخية حاسمة وحساسة بالنسبة للبشرية بعامة، ومصر بخاصة.
    "التصوير في مصر مهنة تقترب في أعين قوى الأمن والنظام من الخيانة، "أنت تحمل كاميرا يعني أنت جاسوس، أو أن تكون على الأقل في موضع اشتباه"
    هكذا وثّق واسيلي لمرحلة تاريخية في صفحات مصر البصرية، فالتقط في ساعات حظر التجوال صورًا للأماكن التي لم تكن تُرى معالمها من كثرة الازدحام، ولم تخلُ يومًا من الناس، ولا حتى في ساعات الليل المتأخرة؛ مساجد وكنائس وميادين كانت تغمرها الحشود، ومقاهٍ شهيرة كانت عامرة بمرتاديها أصبحت مغلقة وخاوية، وأبواب محالٍ تجارية موصدة بأقفالها، وشوارع مظلمة تبدو كأنفاق بلا نهاية، تمامًا كما هو النفق الذي أُسرت مصر داخله منذ سنوات.






    (*) مليحة مسلماني، " كتاب "حياة الميدان" للمصوّر عادل واسيلي: الصورة فاعلًا ثوريًّا ومغيرًا معرفيًّا"، موقع عرب 48، 30/04/2013: https://bit.ly/3tXYzFy.
يعمل...
X