الصورةُ.. قبسٌ من ضوْءٍ يرصدُ آلام الآخرين
محمد جميل خضر
فوتوغراف
الحاجة محفوظة والصورة الأيقونة
شارك هذا المقال
حجم الخط
هل الصّورة هي في أكثر تعريفاتها اختزالًا: "لغةُ الضّوْء المُجسّدةُ داخل إطار"؟
المصوّر الفوتوغرافيّ الفنانُ الأردنيّ، عبدالرحيم العرجان، يميلُ إلى الرّأي أعْلاه، ذاهبًا إلى أنّ الفنّ الفوتوغرافيّ هو: "أحدُ فروع الفنون الجميلة. وهُو إرثٌ إنسانيٌّ له مدارسه الفنيّة، ومحافله الدوليّة، من ملتقياتٍ ومعارض، وجوائزه التنافسيّة. كما له قواعده التي لا تنفصلُ عن الفنون الأُخرى، من حيث التّكوين، والبناء الفنيّ، والمنهج، في إنتاج العمل".
في كتابها "حول الفوتوغراف"، الذي صدر في عام 2013، أي بعد رحيلها بتسعة أعوام، تتحدّث الناقدةُ والمخرجةُ والروائيةُ الأميركيةُ، سوزان سونتاغSusan Sontag (1933 ـ 2004)، عن أخلاقيات الرؤية المتوارثة منذُ كهف أفْلاطون، رائيةً أنّ "النتيجة الأكثر تعاظمًا للمشروع الفوتوغرافيّ هي في منْحنا الشعور بإمكانية استيعاب العالم كلّه في أذهاننا، بوصْفه أنطولوجيا من الصّور".
ثمّ ما تلبثُ أنْ تقول: "بجمع الصور نجمعُ العالم".
ثمّة سُلْطة ما تستمدُّها الصورةُ من مادتها المصوّرة، لا بل أقصُد من تثبيت مادتها المصوّرة، وتوثيقها، بغضّ النّظر عن تأطيرها، أوْ عدمه. فالصورةُ المعاصرة باتت تنتقلُ عبر ألياف الفضاء الحُر، حيثُ منحت تكنولوجيا المعلومات، وثوْرة الاتصالات، الصورة آفاقًا، لم تكُن لتخطر على بال الفرنسي لويس جاك ماندي داجير (1787 ـ 1851)، ولا حتّى في أحلامه، عندما اخترع في عام 1839 نظام داجير العمليّ للتصوير الفوتوغرافيّ.
سونتاغ لا تغفلُ التعريج على هذه السُلطة وتأثيرها، رائيةً أننا عندما نُصوّر، فنحْن إنّما "نسْتولي على الشيء المُصوّر، واضعين أنفسنا في عُلاقةٍ معيّنةٍ مع العالم، تُشبه المعْرفة، وبالتّالي السُلْطة".
إنّها، ذاتُها، السُّلطةُ التي أغرتْ أجندات العالم على تزويرها، أي تزوير معطيات الصّورة، ليس، فقط، بفرض زاوية نظرٍ معيّنة على متأمّلها، بل حتى، وعبر الاستفادة من التطوّر التكنولوجيّ الرّهيب في هذا الإطار، بتغيير تفاصيلها، وبما يخدم وجهة نظرٍ سياسيةٍ، أوْ أمنيةٍ، أوْ سلطويّةٍ قمْعية.
الصورةُ والكلمة
في إطار المُقارنة بين الكتاب المطبوع والصورة الفوتوغرافيّة، ترى سونتاغ، صاحبةُ كتاب "الالتفاتُ إلى آلام الآخرين" (2003)، الصادر عن دار أزْمنة للنّشر والتوْزيع في عمّان، من ترجمة وتحقيق مجيد البرْغوثي، أنّ الطباعة تبْدو "أقلّ غدرًا" من الصورة، في "التطفّل على العالم"، لأنّها، أيْ الطّباعةُ، تحوّل هذا العالم إلى "شيءٍ ذهنيّ"، وربّما تجريديّ، كما هُو حالُ الرّسم والتصوير الزيتيّ. في حين أنّ الصورة الفوتوغرافيّة هي، بحسب سونتاغ، ليستْ مجرّد بياناتٍ عن العالم، إنها "قطعٌ منه. مصغّراتٌ للواقع، يمكنُ لأيّ شخصٍ أنْ يصنعها أو يكسبها".
هواجسُ المصورين
العرْجان، وفي إطار إجابته عن سُؤالي حول سبل استعادة التصوير الضوْئي إلى مكانته، كمدخل رزقٍ، بعد أنْ دفعتْه التكنولوجيا الحديثةُ إلى الوراء، يرى أن الأدوات أصبحتْ "أكثر ذكاءً، وبدل نباهة الفوتوغرافيّ، وقدراته في توظيف فتحة العدسة مع سُرعة الغالق، أصبحت الأدوات في متناول الجميع ومُوالفةٌ لمن أراد الاستسْهال، ولكن نتيجتها ليستْ دائمًا كما يُرام، ما دفع إلى اعتماد المعالجات من خلال البرامج التعديلية المُتاحة على جهاز الحاسوب. ومع ذلك، فليْست النّتائج دقيقةً دائمًا". يقول العرجانُ الحائزُ خلال مسيرته على عديد الجوائز الخاصّة بالتصوير الفوتوغرافيّ: "هُنا يأتي دورُ المصوّر المُحترف المتمكّن غير المعتمد على برامج التّعديل، ولا على الموالفات المُتاحة".
"لا بدّ من التفريق بين المصوّر الفنان/ المحْترف، والمصوّر الهاوي". يقولُ العرجان، مستدركًا، إن الدورات التدريبيّة، والثقافة العامّة والمُتخصصة، وتبادل الخبرات والإقامات، يُمكن أنْ تطوّر من لديه ملكة التصوير الفوتوغرافيّ.
ثمّ ما يلبثُ أنْ يقول: "ونحنُ في دورنا أطلقْنا منذُ عشر سنواتٍ، لتحقيق هذه الغاية، مجلة "عرجان" الفوتوغرافيّة المُتاحة إلكترونيًّا عبر الحُدود بشكلٍ تطوعيٍّ، محتويةً على خمسة أبوابٍ رئيسيّة: فعالياتٌ فوتوغرافيّة، دُروس، مقالات، أدوات ومشاهيرُ العدسة".
لقمةُ العيّش تشكّل هاجسًا، ليس عند المصوّرين وحدهم، ولكنّها هاجسُ الناس أجمعين، خصوصًا في ظلّ التمدّد المُرعب للفيروس، وانقضاضه على كثيرٍ من أبواب الرّزق، خصوصًا تلك الأبواب المفتوحة من خلال العمل في الحقول الفنيّة والأدبيّة والإعلاميّة.
العرجانُ يعرّج هُنا على مواضيع المُلكيّة الفكريّة، بوصفها واحدةً من وسائل حفظ أرزاق المصوّرين، ويطالبُ بضرورة الحدّ من انتشار الصور على شبكة الإنترنت بشكلٍ فوضويٍّ، يخْلو في كثيرٍ من الأحيان من أشكال الحماية والخصوصية الواجب توفّرها لأخذ موافقة المصوّر على استخدام صوره قبل استخدامها.
ومن الممكن اشتراطُ وجود مصوّر فوتوغرافيٍّ واحدٍ على الأقلّ، ضمن فريق العمل الخاصّ بمسلسلٍ تلفزيونيّ، أو فيلمٍ سينمائيّ، أو عملٍ مسرحيّ، أو حتى مسلسلٍ إذاعيّ، بوصف التصوير، في حالة العمل الإذاعيّ، أرشفةً ضروريةً وذاكرةً لمن يُشاركوا في هذا العمل، أوْ ذاك.
آفاق الصورة
في ظلّ تسارع الأحداث حولنا، وتدافُعها بشكلٍ مفزعٍ مهول، وتسابق الويْلات، وماراثون الحُروب، ما تلبثُ أن تخمد حربٌ في بلدٍ إلا وانطلقتْ شرارةُ حربٍ جديدةٍ في منطقةٍ جديدة، ما الذي يبْقى للكاميرا وصاحبها من مساحةٍ ممكنةٍ لصورٍ جماليّة، تأمليّة في الوُجوه، أو في تفاصيل الرّبيع، أو أيّ موضوعاتٍ جماليّةٍ أُخرى؟
في إطار إجابته عن هكذا سؤالٍ، يرى العرجانُ أن المساحة الجمالية التأملية تبقى موجودةً، قد تخْبو وتيرتُها، ولكنها تبقى موجودةً بشكلٍ أو بآخر، فلا غنى عن قيم الجمال تقلّل من قسوة الصّورة الإخباريّة. يقول العرجان: "حتى من قلب المأساة نفسها، يمكنُ أنْ تسطع قيمٌ جماليةٌ ما، كما حدث، على سبيل المثال، لحظة انفجار مرفأ بيروت، فصورةُ الممرضة التي تضعُ الهاتف بين كتفها وأُذنها، وتحملُ ثلاثة توائم بين يديْها، وتتصلُ مطمئنّةً على والدتها، تحوّلت إلى أيقونةٍ من الجمال والمعنى".
تمامًا، يواصلُ العرجان إجابته، كما هي حالُ الحاجّة الفلسطينيةُ محْفوظة وعناقُها الأيقونيّ لزيتونتها المعمّرة مثلها، الصامدة في أرضها هي والمرْأة التي تحْضنها. تلك صورةٌ لن ينساها الناسُ ما بقيت في الحياة أنفاسُ ناس.
من آفاق الصّورة، إلى ذلك، الأفقُ المتعلّق بفنون صور الوُجوه (البورتْريهات) وجمالياتها، وما تتميّز به عن صور الطّبيعة ومشاهد العمران.
العرجانُ يقولُ إن كلّ نوعٍ من النوعيْن أعْلاه لهُ خصوصيتُه وجمالياتُه، والعبْرة في كيْف يجْري التقاطُ الوجْه، أو المشهد الطبيعيّ، أيْ بمعنى أنّ العبرة في "كيفية توظيف الأدوات الصحيحة في إنتاج العمل الفنّي (الصّورة) بالشكل اللائق المعبّر الموصّل نحو الغاية المُرادة من اللقطة، وفي كيفية توظيف الضّوْء والظّل والعوامل المُحيطة".
يقول العرجانُ: "بالنسبة لي أجدُ نفْسي أكثر في فنون العمارة والطّبيعة مع إدخال العنصر البشريّ".
خدمةً لجماليات الصورة وتوسيع آفاقها، هل التصويرُ الرقميّ أفْضل، أمْ الكلاسيكيّ القديم؟
في إطار الإجابة عنْ هذا السّؤال، يؤكّد العرجانُ أنْ لا فرق "إطلاقًا بينهما، فالعاملُ الأساسيّ المُشترك هو فتحةُ العدسة وسرعةُ الغالق ومدى الحساسية للضّوء. بعد ذلك تأْتي الخبرةُ وقدرةُ المستخدم على التعامل مع هذه الثلاثية معًا وحُسْن توظيفها".
ومن باب التأكيد، يقول مرّة ثانيةً: "الكاميرا الرقميّة لا تختلفُ عن كاميرا الفيلم إلا في مكان حفظ الصّورة. إنّها وسيلةٌ مُكمّلة".
ثمّ بأسفٍ يقول: "مع انتشار التكنولوجيا كالنّار في الهشيم، أصْبح الناسُ يهربون إلى الصورة الإلكترونية، ويتجنّبون المطْبوعة، التي تحوّلت إلى مجرّد تذكار. ولم يتوقّف الأمرُ عند ذلك، بل هُم يقومون الآن بـ(أتمتة) الصورة المطْبوعة لنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ".
الصورةُ والحنين
بناءً على ما تقدّم، ما الذي بقي من حنينٍ إلى غرفة التّحميض، والسّالب والموجب والعالم الذي مضى إلى غير عودةٍ رُبما؟
عن هذا السؤال الأقرب للشّعر ورومانسية الوجدان في تجلياتها النوستالْجيّة، يجيبُ العرجانُ قائلًا: "سيبقى الحنين، بقوّته الصامدة من زمان، إلى أنْ يصنع الفنانُ ألوانه كما كانت الحالُ قبل قرنيْن من الزّمان، قبل أن تُنتج شركاتٌ متخصصةٌ ألوان الصّورة".
منذُ عقديْن، ومع الانتشار المُتسارع لنظام التصوير الرقميّ (الديجيتال)، أخذ الفيلمُ بالاختفاء التدريجيّ، وأعلنتْ كثيرٌ من الشركات إفْلاسها، مثل العملاقة (كوداك)، وغيرها. في المُقابل، ظهرت شركاتٌ متقدمةٌ في تقنيات الطباعة الإلكترونية، من حيث الورق، والأحْبار، والعُمْر الافتراضيّ، ضمن مواصفاتٍ ومقاييسٍ عالية الجودة، يتنافسُ عليْها أصحابُ الاستثمارات الفنيّة.
الصّورةُ وآلامُ الآخرين
لعلّ (صُور قيْصر)، التي وصلتْ بطرقٍ معقّدةٍ إلى مؤسساتٍ حقوقيةٍ أوروبيةٍ وأميركية، هي أبشعُ تمثّلٍ لفكرة رصد آلام الآخرين فوتوغرافيًّا.
وتلك الصورُ البالغُ عددُها قُرابة خمسين ألف صورة هي الصّور التي التقطها رجلُ أمنٍ سوريٍّ خلال عمله في الأمن العسكريّ السوريّ، إلى أن قرّر (رّبما لبشاعة ما التقط، وما كشفتْ عنهُ صورُه نفسُها) الانشقاق عن النّظام، والهروب من سورية، ولكن، قبل كلّ هذا وذاك، هرّب صوره، وتأكّد من وصولها إلى أيدٍ أمينةٍ، قبل أن يهرب في ليْلٍ. أمّا اسم قيصر، فهو اسمٌ مًستعارٌ ليتجنّب الرقيبُ المنشقّ المُلاحقة الأمنيّة، التي تبيّن أنّ لها أذرعًا عاتيةً في كثيرٍ من بُلدان أُوروبا التي لجأ إليْها ملايين السوريين الهاربين من الموت والبراميل والاعتقال والإخفاء القسريّ والموت تحت التّعذيب وتدمير البيوت والأحلام وكلّ معنى للحياة.
في حالة (صُور قيْصر)، ارتقتْ الصورةُ الفوتوغرافيةُ إلى وثيقةٍ دامغةٍ، وقرينةٍ لا لُبْس حولها، في سياق إدانة النظام السوريّ الذي يقتلُ منذُ عشريةٍ دمويةٍ ماضيةٍ، شعبه من دون هوادة، ومن دون ردعٍ أمميٍّ صادقٍ حاسم.
آلافُ الضّحايا يظهرون في صوره، بما يشبهُ الهياكل العظميّة التي نحل اللحمُ نهائيًا عنها، بتشوّهاتٍ ومواضع تعذيبٍ، وقروح رصاصٍ، وآثار ضربٍ وحرقٍ وكسرٍ ومختلف ما تمخّضت عنه إنسانيةُ القرن الواحد والعشرين من جُرمية الجُنون، ولا أخلاقية الإنسان عندما يُقرر أن يُعادي أخاهُ الإنْسان، الذي، في كثيرٍ من حالاتنا العربيّة، هو، بالمصادفة، ابنُ بلده، وربّما، حتى، ابنُ بلدته.
في خضم الحرب العالميّة الأولى، عندما كان المجدُ في جلّه للصورة الثابتة still، مع حضورٍ خجولٍ للصورة المتحركة السينمائيّة، أو التلفزيونيّة، فإنّ بعض هذه الصُّور شكّلت تاريخًا موثقًا من آلام الآخرين، ومن قسوة المواجهات الدامية في حروبٍ غيّرت وجه العالم، وتركتْ ندوبًا لن تموت.
سونتاغ التي عارضت تدخّل حكومة بلادها في شؤون دول العالم، والحرب على العراق، وكانت من مناهضي حرب فييتنام، تقولُ في كتابها "الالتفاتُ إلى آلام الآخرين": إن "الإمساك بالموت وهُو يحدثُ فعلًا، وتثبيته عبر الزّمان، أمرٌ تستطيعُ أن تفعله آلاتُ التصوير فقط. كما أنّ الصُّور التي يلتقطُها المصوّرون في الميدان للحظة الموت، أو اللحظة التي تسبقها مباشرة، هي أكثرُ صُورٍ يُحتفى بها، ويُعاد إنتاجُها من بين باقي صور الحرْب".
وهي تتحدّثُ في سياق صور الحرب الأولى، عن صور معركةٍ جرت بالسّلاح الأبيض بين البريطانيين والألْمان، راح ضحيّتها ستون ألفٍ من الجانبيْن، قضوا بالطّعان، أو الخنق، أو بقذف حجرٍ كبيرٍ، أو بأي طريقةٍ من طرق المواجهة المباشرة التي يتداخلُ فيها الخوفُ مع العنف، مع الحيرة، مع الرغبة في الحياة، مع ارتباك اللحظة التي قد يطعنُ فيها جنديٌّ رفيقه بالخطأ، أو يستتر به مدفوعًا بالانتصار الفطريّ للأنا/ للذات. فأي صورٍ تركتْها لنا الحروبُ كي نتّعظ، ورغم ذلك لا نفعل.
ولكن، هل باتت الآلامُ التي يُعاني منها الآخرُ، الذي هو، بالمصادفة البحتة، ليس أنا، هل باتت لا تعْني لنا، طالما أنّها ليست آلامنا، شيئًا؟ وهل صورُ تلك الآلام، بالتالي، لا تعْدو عن كونها إمّا مشبعةً لفضول، أو مفيدةً لوسيلة إعلام، أو وثيقةً للراغب بمُقاضاةٍ، أو تشهيرٍ، أو شُهرة؟؟؟
لحظةُ استشهاد الطّفل محمد الدرّة في حضن أبيه، لحظةٌ لن ينساها العالم، لأنّ كاميرا المصوّر الفلسطينيّ، طلال أبو رحمة، كانت على الموعد، وصوّرت اللحظة بمختلف تفاصيلها المؤْلمة، ووثّقت بالصوت والصّورة، الاستغاثة والتلويح وإظهار الأيدي الفارغة من الحجارة، أو أي وسيلة مقاومةٍ مدّعاة. ولعلّها الصّورة التي جعلت ملايين الأوروبيين يعيدون النّظر في مواقفهم من القضيّة الفلسطينيّة، وجلبت تعاطفًا دوليًّا غير مسبوقٍ، لوْلا الصّور التي أعقبتْ صورة الدرّة بعام واحدٍ، عندما اخترقتْ في أيلول/ سيبتمبر 2001، طائرةٌ نفّاثةٌ برجيّ التجارة في نيويورك، فهل هي حربُ الصّورة؟ صورةٌ مُقابل صورة؟
سرديّةُ الصّورة
يقولُ الشاعرُ الإنكليزيُّ روبرت براوننغ (1812 ـ 1889): "الحاضرُ هو اللحظةُ التي يتداعى أثناءها المستقبلُ في الماضي"، خلْطةٌ فلسفيّةٌ يسعى الشاعرُ من خلالها، ربّما، إلى، اقتراح معاينةٍ جديدةٍ للحاضر بوصفه لحظةً غير موجودةٍ، فهل تقبلُ الكاميرا مُقترحه؟ وهل يقنع المصورون بأبعاد هذه المقولة العميقة من جهة، ولكن المُرْجفة لهُم، من جهةٍ ثانية، إذْ تصبحُ لحظتُهم الأكثرُ نصوعًا، تلك التي يلتقطون عندها صورةً من رذاذ الضّوء، مجرّد وهمٍ عليهم أن لا يلاحقونه!
هذا ما لم يقبلْ به طيلة حياته، المصوّر الهنغاريّ أندريه كيرتيش (1894 ـ 1985)، وظلّ مخْلصًا لآفاق الصورة وممكناتها وسرديّتها، وقال قبل أن يمْضي: "الصورةُ هي أداتي، من خلالها أجدُ سببًا لكلّ شيءٍ حوْلي".
محمد جميل خضر
فوتوغراف
الحاجة محفوظة والصورة الأيقونة
شارك هذا المقال
حجم الخط
هل الصّورة هي في أكثر تعريفاتها اختزالًا: "لغةُ الضّوْء المُجسّدةُ داخل إطار"؟
المصوّر الفوتوغرافيّ الفنانُ الأردنيّ، عبدالرحيم العرجان، يميلُ إلى الرّأي أعْلاه، ذاهبًا إلى أنّ الفنّ الفوتوغرافيّ هو: "أحدُ فروع الفنون الجميلة. وهُو إرثٌ إنسانيٌّ له مدارسه الفنيّة، ومحافله الدوليّة، من ملتقياتٍ ومعارض، وجوائزه التنافسيّة. كما له قواعده التي لا تنفصلُ عن الفنون الأُخرى، من حيث التّكوين، والبناء الفنيّ، والمنهج، في إنتاج العمل".
في كتابها "حول الفوتوغراف"، الذي صدر في عام 2013، أي بعد رحيلها بتسعة أعوام، تتحدّث الناقدةُ والمخرجةُ والروائيةُ الأميركيةُ، سوزان سونتاغSusan Sontag (1933 ـ 2004)، عن أخلاقيات الرؤية المتوارثة منذُ كهف أفْلاطون، رائيةً أنّ "النتيجة الأكثر تعاظمًا للمشروع الفوتوغرافيّ هي في منْحنا الشعور بإمكانية استيعاب العالم كلّه في أذهاننا، بوصْفه أنطولوجيا من الصّور".
ثمّ ما تلبثُ أنْ تقول: "بجمع الصور نجمعُ العالم".
ثمّة سُلْطة ما تستمدُّها الصورةُ من مادتها المصوّرة، لا بل أقصُد من تثبيت مادتها المصوّرة، وتوثيقها، بغضّ النّظر عن تأطيرها، أوْ عدمه. فالصورةُ المعاصرة باتت تنتقلُ عبر ألياف الفضاء الحُر، حيثُ منحت تكنولوجيا المعلومات، وثوْرة الاتصالات، الصورة آفاقًا، لم تكُن لتخطر على بال الفرنسي لويس جاك ماندي داجير (1787 ـ 1851)، ولا حتّى في أحلامه، عندما اخترع في عام 1839 نظام داجير العمليّ للتصوير الفوتوغرافيّ.
سونتاغ لا تغفلُ التعريج على هذه السُلطة وتأثيرها، رائيةً أننا عندما نُصوّر، فنحْن إنّما "نسْتولي على الشيء المُصوّر، واضعين أنفسنا في عُلاقةٍ معيّنةٍ مع العالم، تُشبه المعْرفة، وبالتّالي السُلْطة".
"لطّباعةُ، تحوّل هذا العالم إلى "شيءٍ ذهنيّ"، وربّما تجريديّ، كما هُو حالُ الرّسم والتصوير الزيتيّ. في حين أنّ الصورة الفوتوغرافيّة هي، بحسب سونتاغ، ليستْ مجرّد بياناتٍ عن العالم، إنها "قطعٌ منه" |
الصورةُ والكلمة
في إطار المُقارنة بين الكتاب المطبوع والصورة الفوتوغرافيّة، ترى سونتاغ، صاحبةُ كتاب "الالتفاتُ إلى آلام الآخرين" (2003)، الصادر عن دار أزْمنة للنّشر والتوْزيع في عمّان، من ترجمة وتحقيق مجيد البرْغوثي، أنّ الطباعة تبْدو "أقلّ غدرًا" من الصورة، في "التطفّل على العالم"، لأنّها، أيْ الطّباعةُ، تحوّل هذا العالم إلى "شيءٍ ذهنيّ"، وربّما تجريديّ، كما هُو حالُ الرّسم والتصوير الزيتيّ. في حين أنّ الصورة الفوتوغرافيّة هي، بحسب سونتاغ، ليستْ مجرّد بياناتٍ عن العالم، إنها "قطعٌ منه. مصغّراتٌ للواقع، يمكنُ لأيّ شخصٍ أنْ يصنعها أو يكسبها".
هواجسُ المصورين
العرْجان، وفي إطار إجابته عن سُؤالي حول سبل استعادة التصوير الضوْئي إلى مكانته، كمدخل رزقٍ، بعد أنْ دفعتْه التكنولوجيا الحديثةُ إلى الوراء، يرى أن الأدوات أصبحتْ "أكثر ذكاءً، وبدل نباهة الفوتوغرافيّ، وقدراته في توظيف فتحة العدسة مع سُرعة الغالق، أصبحت الأدوات في متناول الجميع ومُوالفةٌ لمن أراد الاستسْهال، ولكن نتيجتها ليستْ دائمًا كما يُرام، ما دفع إلى اعتماد المعالجات من خلال البرامج التعديلية المُتاحة على جهاز الحاسوب. ومع ذلك، فليْست النّتائج دقيقةً دائمًا". يقول العرجانُ الحائزُ خلال مسيرته على عديد الجوائز الخاصّة بالتصوير الفوتوغرافيّ: "هُنا يأتي دورُ المصوّر المُحترف المتمكّن غير المعتمد على برامج التّعديل، ولا على الموالفات المُتاحة".
"يرى العرجان أن الأدوات أصبحتْ "أكثر ذكاءً، وبدل نباهة الفوتوغرافيّ، وقدراته في توظيف فتحة العدسة مع سُرعة الغالق، أصبحت الأدوات في متناول الجميع ومُوالفةٌ لمن أراد الاستسْهال" |
ثمّ ما يلبثُ أنْ يقول: "ونحنُ في دورنا أطلقْنا منذُ عشر سنواتٍ، لتحقيق هذه الغاية، مجلة "عرجان" الفوتوغرافيّة المُتاحة إلكترونيًّا عبر الحُدود بشكلٍ تطوعيٍّ، محتويةً على خمسة أبوابٍ رئيسيّة: فعالياتٌ فوتوغرافيّة، دُروس، مقالات، أدوات ومشاهيرُ العدسة".
لقمةُ العيّش تشكّل هاجسًا، ليس عند المصوّرين وحدهم، ولكنّها هاجسُ الناس أجمعين، خصوصًا في ظلّ التمدّد المُرعب للفيروس، وانقضاضه على كثيرٍ من أبواب الرّزق، خصوصًا تلك الأبواب المفتوحة من خلال العمل في الحقول الفنيّة والأدبيّة والإعلاميّة.
العرجانُ يعرّج هُنا على مواضيع المُلكيّة الفكريّة، بوصفها واحدةً من وسائل حفظ أرزاق المصوّرين، ويطالبُ بضرورة الحدّ من انتشار الصور على شبكة الإنترنت بشكلٍ فوضويٍّ، يخْلو في كثيرٍ من الأحيان من أشكال الحماية والخصوصية الواجب توفّرها لأخذ موافقة المصوّر على استخدام صوره قبل استخدامها.
ومن الممكن اشتراطُ وجود مصوّر فوتوغرافيٍّ واحدٍ على الأقلّ، ضمن فريق العمل الخاصّ بمسلسلٍ تلفزيونيّ، أو فيلمٍ سينمائيّ، أو عملٍ مسرحيّ، أو حتى مسلسلٍ إذاعيّ، بوصف التصوير، في حالة العمل الإذاعيّ، أرشفةً ضروريةً وذاكرةً لمن يُشاركوا في هذا العمل، أوْ ذاك.
آفاق الصورة
في ظلّ تسارع الأحداث حولنا، وتدافُعها بشكلٍ مفزعٍ مهول، وتسابق الويْلات، وماراثون الحُروب، ما تلبثُ أن تخمد حربٌ في بلدٍ إلا وانطلقتْ شرارةُ حربٍ جديدةٍ في منطقةٍ جديدة، ما الذي يبْقى للكاميرا وصاحبها من مساحةٍ ممكنةٍ لصورٍ جماليّة، تأمليّة في الوُجوه، أو في تفاصيل الرّبيع، أو أيّ موضوعاتٍ جماليّةٍ أُخرى؟
في إطار إجابته عن هكذا سؤالٍ، يرى العرجانُ أن المساحة الجمالية التأملية تبقى موجودةً، قد تخْبو وتيرتُها، ولكنها تبقى موجودةً بشكلٍ أو بآخر، فلا غنى عن قيم الجمال تقلّل من قسوة الصّورة الإخباريّة. يقول العرجان: "حتى من قلب المأساة نفسها، يمكنُ أنْ تسطع قيمٌ جماليةٌ ما، كما حدث، على سبيل المثال، لحظة انفجار مرفأ بيروت، فصورةُ الممرضة التي تضعُ الهاتف بين كتفها وأُذنها، وتحملُ ثلاثة توائم بين يديْها، وتتصلُ مطمئنّةً على والدتها، تحوّلت إلى أيقونةٍ من الجمال والمعنى".
تمامًا، يواصلُ العرجان إجابته، كما هي حالُ الحاجّة الفلسطينيةُ محْفوظة وعناقُها الأيقونيّ لزيتونتها المعمّرة مثلها، الصامدة في أرضها هي والمرْأة التي تحْضنها. تلك صورةٌ لن ينساها الناسُ ما بقيت في الحياة أنفاسُ ناس.
من آفاق الصّورة، إلى ذلك، الأفقُ المتعلّق بفنون صور الوُجوه (البورتْريهات) وجمالياتها، وما تتميّز به عن صور الطّبيعة ومشاهد العمران.
"العرجان: "حتى من قلب المأساة نفسها، يمكنُ أنْ تسطع قيمٌ جماليةٌ ما، كما حدث، على سبيل المثال، لحظة انفجار مرفأ بيروت، فصورةُ الممرضة التي تضعُ الهاتف بين كتفها وأُذنها، وتحملُ ثلاثة توائم بين يديْها" |
يقول العرجانُ: "بالنسبة لي أجدُ نفْسي أكثر في فنون العمارة والطّبيعة مع إدخال العنصر البشريّ".
خدمةً لجماليات الصورة وتوسيع آفاقها، هل التصويرُ الرقميّ أفْضل، أمْ الكلاسيكيّ القديم؟
في إطار الإجابة عنْ هذا السّؤال، يؤكّد العرجانُ أنْ لا فرق "إطلاقًا بينهما، فالعاملُ الأساسيّ المُشترك هو فتحةُ العدسة وسرعةُ الغالق ومدى الحساسية للضّوء. بعد ذلك تأْتي الخبرةُ وقدرةُ المستخدم على التعامل مع هذه الثلاثية معًا وحُسْن توظيفها".
ومن باب التأكيد، يقول مرّة ثانيةً: "الكاميرا الرقميّة لا تختلفُ عن كاميرا الفيلم إلا في مكان حفظ الصّورة. إنّها وسيلةٌ مُكمّلة".
ثمّ بأسفٍ يقول: "مع انتشار التكنولوجيا كالنّار في الهشيم، أصْبح الناسُ يهربون إلى الصورة الإلكترونية، ويتجنّبون المطْبوعة، التي تحوّلت إلى مجرّد تذكار. ولم يتوقّف الأمرُ عند ذلك، بل هُم يقومون الآن بـ(أتمتة) الصورة المطْبوعة لنشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ".
الصورةُ والحنين
بناءً على ما تقدّم، ما الذي بقي من حنينٍ إلى غرفة التّحميض، والسّالب والموجب والعالم الذي مضى إلى غير عودةٍ رُبما؟
عن هذا السؤال الأقرب للشّعر ورومانسية الوجدان في تجلياتها النوستالْجيّة، يجيبُ العرجانُ قائلًا: "سيبقى الحنين، بقوّته الصامدة من زمان، إلى أنْ يصنع الفنانُ ألوانه كما كانت الحالُ قبل قرنيْن من الزّمان، قبل أن تُنتج شركاتٌ متخصصةٌ ألوان الصّورة".
منذُ عقديْن، ومع الانتشار المُتسارع لنظام التصوير الرقميّ (الديجيتال)، أخذ الفيلمُ بالاختفاء التدريجيّ، وأعلنتْ كثيرٌ من الشركات إفْلاسها، مثل العملاقة (كوداك)، وغيرها. في المُقابل، ظهرت شركاتٌ متقدمةٌ في تقنيات الطباعة الإلكترونية، من حيث الورق، والأحْبار، والعُمْر الافتراضيّ، ضمن مواصفاتٍ ومقاييسٍ عالية الجودة، يتنافسُ عليْها أصحابُ الاستثمارات الفنيّة.
الصّورةُ وآلامُ الآخرين
لعلّ (صُور قيْصر)، التي وصلتْ بطرقٍ معقّدةٍ إلى مؤسساتٍ حقوقيةٍ أوروبيةٍ وأميركية، هي أبشعُ تمثّلٍ لفكرة رصد آلام الآخرين فوتوغرافيًّا.
"مع الانتشار المُتسارع لنظام التصوير الرقميّ (الديجيتال)، أخذ الفيلمُ بالاختفاء التدريجيّ، وأعلنتْ كثيرٌ من الشركات إفْلاسها، مثل العملاقة (كوداك)، وغيرها" |
في حالة (صُور قيْصر)، ارتقتْ الصورةُ الفوتوغرافيةُ إلى وثيقةٍ دامغةٍ، وقرينةٍ لا لُبْس حولها، في سياق إدانة النظام السوريّ الذي يقتلُ منذُ عشريةٍ دمويةٍ ماضيةٍ، شعبه من دون هوادة، ومن دون ردعٍ أمميٍّ صادقٍ حاسم.
آلافُ الضّحايا يظهرون في صوره، بما يشبهُ الهياكل العظميّة التي نحل اللحمُ نهائيًا عنها، بتشوّهاتٍ ومواضع تعذيبٍ، وقروح رصاصٍ، وآثار ضربٍ وحرقٍ وكسرٍ ومختلف ما تمخّضت عنه إنسانيةُ القرن الواحد والعشرين من جُرمية الجُنون، ولا أخلاقية الإنسان عندما يُقرر أن يُعادي أخاهُ الإنْسان، الذي، في كثيرٍ من حالاتنا العربيّة، هو، بالمصادفة، ابنُ بلده، وربّما، حتى، ابنُ بلدته.
في خضم الحرب العالميّة الأولى، عندما كان المجدُ في جلّه للصورة الثابتة still، مع حضورٍ خجولٍ للصورة المتحركة السينمائيّة، أو التلفزيونيّة، فإنّ بعض هذه الصُّور شكّلت تاريخًا موثقًا من آلام الآخرين، ومن قسوة المواجهات الدامية في حروبٍ غيّرت وجه العالم، وتركتْ ندوبًا لن تموت.
سونتاغ التي عارضت تدخّل حكومة بلادها في شؤون دول العالم، والحرب على العراق، وكانت من مناهضي حرب فييتنام، تقولُ في كتابها "الالتفاتُ إلى آلام الآخرين": إن "الإمساك بالموت وهُو يحدثُ فعلًا، وتثبيته عبر الزّمان، أمرٌ تستطيعُ أن تفعله آلاتُ التصوير فقط. كما أنّ الصُّور التي يلتقطُها المصوّرون في الميدان للحظة الموت، أو اللحظة التي تسبقها مباشرة، هي أكثرُ صُورٍ يُحتفى بها، ويُعاد إنتاجُها من بين باقي صور الحرْب".
وهي تتحدّثُ في سياق صور الحرب الأولى، عن صور معركةٍ جرت بالسّلاح الأبيض بين البريطانيين والألْمان، راح ضحيّتها ستون ألفٍ من الجانبيْن، قضوا بالطّعان، أو الخنق، أو بقذف حجرٍ كبيرٍ، أو بأي طريقةٍ من طرق المواجهة المباشرة التي يتداخلُ فيها الخوفُ مع العنف، مع الحيرة، مع الرغبة في الحياة، مع ارتباك اللحظة التي قد يطعنُ فيها جنديٌّ رفيقه بالخطأ، أو يستتر به مدفوعًا بالانتصار الفطريّ للأنا/ للذات. فأي صورٍ تركتْها لنا الحروبُ كي نتّعظ، ورغم ذلك لا نفعل.
"لعلّ (صُور قيْصر)، التي وصلتْ بطرقٍ معقّدةٍ إلى مؤسساتٍ حقوقيةٍ أوروبيةٍ وأميركية، هي أبشعُ تمثّلٍ لفكرة رصد آلام الآخرين فوتوغرافيًّا" |
لحظةُ استشهاد الطّفل محمد الدرّة في حضن أبيه، لحظةٌ لن ينساها العالم، لأنّ كاميرا المصوّر الفلسطينيّ، طلال أبو رحمة، كانت على الموعد، وصوّرت اللحظة بمختلف تفاصيلها المؤْلمة، ووثّقت بالصوت والصّورة، الاستغاثة والتلويح وإظهار الأيدي الفارغة من الحجارة، أو أي وسيلة مقاومةٍ مدّعاة. ولعلّها الصّورة التي جعلت ملايين الأوروبيين يعيدون النّظر في مواقفهم من القضيّة الفلسطينيّة، وجلبت تعاطفًا دوليًّا غير مسبوقٍ، لوْلا الصّور التي أعقبتْ صورة الدرّة بعام واحدٍ، عندما اخترقتْ في أيلول/ سيبتمبر 2001، طائرةٌ نفّاثةٌ برجيّ التجارة في نيويورك، فهل هي حربُ الصّورة؟ صورةٌ مُقابل صورة؟
سرديّةُ الصّورة
يقولُ الشاعرُ الإنكليزيُّ روبرت براوننغ (1812 ـ 1889): "الحاضرُ هو اللحظةُ التي يتداعى أثناءها المستقبلُ في الماضي"، خلْطةٌ فلسفيّةٌ يسعى الشاعرُ من خلالها، ربّما، إلى، اقتراح معاينةٍ جديدةٍ للحاضر بوصفه لحظةً غير موجودةٍ، فهل تقبلُ الكاميرا مُقترحه؟ وهل يقنع المصورون بأبعاد هذه المقولة العميقة من جهة، ولكن المُرْجفة لهُم، من جهةٍ ثانية، إذْ تصبحُ لحظتُهم الأكثرُ نصوعًا، تلك التي يلتقطون عندها صورةً من رذاذ الضّوء، مجرّد وهمٍ عليهم أن لا يلاحقونه!
هذا ما لم يقبلْ به طيلة حياته، المصوّر الهنغاريّ أندريه كيرتيش (1894 ـ 1985)، وظلّ مخْلصًا لآفاق الصورة وممكناتها وسرديّتها، وقال قبل أن يمْضي: "الصورةُ هي أداتي، من خلالها أجدُ سببًا لكلّ شيءٍ حوْلي".