الشهادة بالصورة.. قراءة في صور سجن أبو غريب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشهادة بالصورة.. قراءة في صور سجن أبو غريب

    الشهادة بالصورة.. قراءة في صور سجن أبو غريب
    وارد بدر السالم
    فوتوغراف
    "ابو غريب"/ فرناندو بوتيرو/ 2005
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    مع الواقع الإلكتروني المعاصر ومشتقاته المتعددة، في جمال السوشيال ميديا وعلاقاتها المباشرة بالحياة والصورة الثابتة والمتحركة، ليس لنا سوى أن نعترف بأن العالم أصبح بحجم شريحة إلكترونية، عابرة للزمن والملفات السياسية والاجتماعية الطويلة والعريضة، تحت تكثيف الواقع وزواياه الكثيرة ومنعطفاته السريعة.

    الثورة الإلكترونية العالمية التي أدخلتنا في هذا التكثيف المباشر، وطّنت فينا القدرة التالية على التعامل المعاصر مع سرديات يومية كثيرة. وصارت الصورة- الثابتة والمتحركة- جزءًا من صناعة الأحداث وإحدى سردياته المتعارف عليها، عندما يتكثّف الواقع وينحسر في شرائح ضوئية صغيرة، مثلما يمكن أن نكثّف التاريخ العريض في شرائح إلكترونية، ونستعيض عن مجلّدات ضخمة لمعاينته وتدقيقه. وإذا كان التاريخ هو ما مضى، فإن الحاضر هو ما سيمضي أيضًا. وبين الاثنين زمن سريع بالتحولات على مختلف الأصعدة الحياتية. فلا توثّقه إلا الصورة الجديدة بإمكانياتها التقنية الهائلة، في دقّتها وسرعتها في التقاط الحدث، وتجميده في زمن حدوثه، لتشير إلى ما قبله أو حتى إلى ما بعده.




    أبو غريب.. الفضيحة
    سيبدو التاريخ بعيدًا نسبيًا بانشغال الرأي العام بفضيحة سجن أبو غريب المعروفة عالميًا (2004) عندما انتهك جنود المارينز الأميركيون حرمة أجساد أسرى عراقيين في السجن المذكور بطريقة ليس فيها من فروسية المحاربين بشيء. عندما قاموا بتعريتهم، وإذلال أجسادهم بالكلاب البوليسية، والتلميح بإشارات الشذوذ الجنسية والتعذيب البطيء، و(.. إجبار السجناء العراقيين على التعرّي، والتكدّس فوق بعضهم البعض، وتعرّضهم للضرب، والصعق بالأسلاك الكهربائية، والتخويف بالكلاب، والحرمان من النوم، والوقوف لفترات طويلة في وضعيات مختلفة وسط قهقهات السجانين..).
    "سيبدو الحدث؛ بعد مرور سبع عشرة سنة؛ كأنه بقي ألبومَ صور في خزانة البنتاغون وأرشيفه ومستودعاته العسكرية القديمة، بغطاء أحداث تالية أكثر قسوة منه وأهمية"
    وسيبدو الحدث؛ بعد مرور سبع عشرة سنة؛ كأنه بقي ألبومَ صور في خزانة البنتاغون وأرشيفه ومستودعاته العسكرية القديمة، بغطاء أحداث تالية أكثر قسوة منه وأهمية، غير أن هذا لم يحدث بطبيعة الحال، أمام قوة الصورة وشهادتها وبقائها التاريخي مع الزمن. وستبقى أضعاف هذا المدى الزمني شاهدة على فعلٍ إجرامي خرج عن السياقات التقليدية في التعامل مع الأسرى المدنيين. فالثقافة الرقمية اليوم هي (اللغة) العصرية الصامتة في حضارة الإلكترونيات. ووجه من وجوه الميديا الجديدة، ولا يمكن إنكار هذا التوصيل بارع النجاح في الكشف عن كثير من خفايا السياسة وحروبها في ملفاتها السرية. وبالتالي فهي مطلوبة زمنيًا للبحث والاستقصاء والتحقيق كشواهد لأثر فعلي وقع. لذلك لم تستطع الإدارة الأميركية في زمن بوش أن تتفادى واقعة أبو غريب أو تتنكّر لها أو تحذفها من أرشيف السياسة والحروب؛ لنجد أن الصورة الأبو- غريبية أخذت مكانتها في الذاكرة الجمعية العالمية؛ بوصفها الحالة الأكثر صدقية، عندما جمّدت جزءًا من حدث عسكري - اجتماعي - نفسي - تاريخي، بينما تشير في واقعها غير المرئي إلى حدث أكبر. فتساعد على الكشف عن ملابسات كثيرة في الواقعة والحدث. وما التغيير الراديكالي الذي نحياه في عالمنا الآن، إلا وجه من وجوه عصر الاتصالات الجديد في معطياته الإلكترونية. ولهذا فالشهادة - الصورة تبقى حيّة إلى أجلٍ غير محدود.









    الشهادة بالصورة.. الحس الأكاديمي

    الباحثة التونسية رجاء بنحجل وقفت على ملابسات سجن أبو غريب عبر الصورة. وقرأتها أكاديميًا ونقديًا بطريقة تفكيكها وإحالتها وتأويلها إلى ما هي عليه - قبل الصورة وحتى بعدها- في كتابها المتميّز "الشهادة بالصورة- قراءة في صور سجن أبو غريب" الذي اجتهدت كثيرًا؛ برفقة المراجع النقدية الفاعلة؛ في أن توثّق بحس أكاديمي جريمة أبو غريب، وانتهاك الجسد العراقي الأسير، عند قراءته قراءة معاصرة على ضوء المنهجيات الحديثة في العلوم الأدبية والاجتماعية والنفسية. ولا تعدو قراءتنا لهذه القراءة إلا تنويعًا متضامنًا على الحدث القديم، واستشفافًا للواقع المؤلم الذي أفصح عن سادية استعمارية تنتمي إلى مرجعيتها المعروفة تاريخيًا. لذا نرى أن العرض سيحاذي النص الجمالي الذي أبدعت فيه الباحثة، ومنحته زخمًا كبيرًا من الكشف النقدي الفاعل.
    بنحجل باحثة أكاديمية في الأدب العربي الحديث. متحصلة على شهادة الأستاذية في اللغة والآداب العربية - كلية الآداب – منوبة - 2002، وشهادة الماجستير - اختصاص أدب 2012 وتسعى لنيل شهادة الدكتوراه أيضًا.
    "هي صور صادمة، تلخّص السادية المفرطة لدى جنود المارينز، مثلما تشي بالتوحّش البشري الذي مورس ضد أسرى لا حول لهم ولا قوة، أكثر ممّا هو رد فعل على عملية عسكرية"
    يأتي صدور كتابها (2019) بعد زمن غير قصير من حادثة سجن أبو غريب. ويضم قراءة واسعة وشاملة لأدبيات الصورة، وسردياتها المتعاقبة، وأهميتها القصوى في توفير الأدلة المباشرة للحدث والإشارة إليه في زمنه وتاريخه وظروفه الحربية وأشخاصه الاستشاريين والفاعلين والمنفذين؛ ممّا يتيح المجال لأن تساعد هذه القراءة بالوصول إلى حقيقة الجسد أولًا، وماهيته الشرقية المغتصبة، وبالتالي معاينة توثيق الحدث عبر الصورة الرقمية التي أخذت مداها الواسع في القطاعات الاجتماعية والسياسية، إذْ ( تكون الصورة جزءًا من الحدث وأثرًا باقيًا منه إذا محيت كل الآثار) و(هي الأثر المرئي) بينما يكاد المحو يتلاشى إلى ما بعد الصورة ولو بشكل رمزي.
    وما بين المحو والأثر تطوف بنحجل في هذه الرمزيات والاستعارات والتأويلات إلى أبعد الحدود الكاشفة لهذا الفعل القمعي التعسفي الذي طال العزّل من العراقيين في سجن أبو غريب. وهي صور صادمة، تلخّص السادية المفرطة لدى جنود المارينز، مثلما تشي بالتوحّش البشري الذي مورس ضد أسرى لا حول لهم ولا قوة، أكثر ممّا هو رد فعل على عملية عسكرية ومقاومة طبيعية للاحتلال ومشتقّاته العسكرية. فالجسد المقدّس في الديانات كلها، خضع إلى اختبار تعسفي غير متكافئ، وخرج عن النسق اللغوي ومخياله الواسع في هذا الحدث الاستثنائي الممارَس ضد مجموعة مدنية لا تُهمة واضحة لها. بل تم احتلاله بشكل مباشر بطريقة رعاة البقر التي نشاهدها في كلاسيكيات الأفلام الأميركية، في واقعة مدنّسة أشارت إلى مجموعة من العلامات المختبرية، وأولها كيفية أن يتحوّل الجسد الشرقي إلى (عدو) صاحبه وعبء اجتماعي - شرفي ينوء به حامله أمام هيمنة ذكورية - أنثوية كاسحة مسلّحة بالبنادق والكلاب الشرسة وأقنعة الذلّ المركّبة على الوجوه. ومثل هذا التخالط الجنسي الذي يبعث على الحياء في فطرته الشرقية، سنكون مع حالات صادمة ومثيرة ومُربكة، أوحت بها الصور الكثيرة التي خرجت إلى الفضاء الاجتماعي العربي والعالمي، لتقول الكثير من المخفي الضمني الذي يمكن للجمع تخيّله على واقعيته التي لم تظهر كليًا. لكنها ظهرت في واقع الخيال والمتصوّر من الحدث الفاجع. وهو خيال حتمي يقود إلى تفاصيل أخرى لم تقلها الصور التي اكتفت بأن تكون كما هي، ساكنة تقريبًا. ولم تفتح جروح السجناء إلى نهايتها، غير أنها كانت هي الجروح بذاتها؛ الجروح الواسعة التي عانى منها أسرى منفردون إلى النهاية.

    في هذا التقريب النسبي بين الصور والسجناء والمسجونين، تقف الباحثة على المصوّر الذي استهوته لعبة التعذيب الخارقية، بأن يكون شاهدًا وممارسًا للفعل نفسه. بتلذّذ سادي أحكم طوقه على المجموعة الأسيرة التي فقدت اتجاهات أجسادها مع الكلاب المفترسة والصعق الكهربائي. بل إن (التلذّذ بالتعذيب يصل منتهاه بنشوة التصوير) بصورة مبتذلة تفصح عن مهيمنات عدائية قارّة في النزعة العدوانية الأميركية؛ فالصورة - الحدث التي شغلت الإعلام العالمي، هي إنتاج هوليوودي بارع الإخراج، والمصوّر الذي رافق انتهاك الأجساد العارية، هو أيضًا يوثّق الإدانة المعكوسة من دون أن يعرف، فالوعي التصويري لديه يشي بأنه (يصنع حدثًا)، ولكن الحقيقة هي أنه يصنع جريمة، ويساهم فيها، ويزكّي فاعليها من المجنّدين والمجنّدات الذين تناوبوا على إهانة الجسد العراقي- الشرقي في أعلى مراحل الإهانة؛ بما يشفُّ عن أحقاد مضمرة - تاريخية – نفسية، تبيّن على نحوٍ ما جزءًا من المنطقة المعتمة من وعي هؤلاء الجنود والضباط الذين ارتكبوا جريمة الفعل- التصوير، قبل أن يرتكبوا الجريمة ذاتها بسحق الجسد وإذلاله في نوازع عدوانية غير مبررة.




    المصوّر الذي لا يعي الحالة التاريخية التي دخل فيها بفعل اللقطات الكثيرة التي مارسها بنشوة وسادية، هو وجه لا يقع خلف الصورة. بل هو في داخلها. في المشهد الاقتحامي الفردي الذي التقط لأولئك العزّل. وفي إطار المشاركة التصويرية المقصودة سيكون المصوّر أو المصوّرون نتاج هذه العقلية المتضامنة في سلوكها المتشابه، مثل كلاب الصيد التي تسلّم فريستها إلى صيادها..!

    لهذا نجد في قراءة الباحثة بنحجل، وبمحدّداتها الإبستمولوجية المعرفية أنه (يتوفر الاهتمام بالحدث والشهادة والصورة)، وفي هذا الثلاثي المتلاحق، تطرح الكثير من التساؤلات المبدئية فهل أبو غريب حدث؟ وهل أعمال التعذيب والعنف الجسدي هي الحدث؟ هل التصوير هو الحدث؟ أم نشرها هو الحدث؟ ومن مجموع هذه الأسئلة عن حدث واقع واحد في سجن أبو غريب، تتشيّأ الصورة الكلية إلى وحدات تصويرية صغيرة، لكنها تنتظم بناظم واحد هو: الجريمة المصوّرة. باعتبار أن الصورة لها قابلية على (إنتاج المعنى) وأن (علاقة الصورة بالحدث هي علاقة الجزء بالكل) وهذا الجزء - الصورة الواحدة تروي بلغتها عمّا وراءها من أحداث وليس حدثًا واحدًا. فالصورة تجميد لحظة حدثت بالفعل. ولكنها تشير إلى الفعل المتقدّم، بل وحتى المتأخّر منه. ولأننا (نعيش بالفعل في عصر الصورة) - حسب تعبير آبل جانس- فإن العصر برمّته يخضع لهذا التأويل المباشر. وليست الصورة بمعزل عن الحياة اليومية مهما تفرّعت وانقذفت إلى أبعد الزوايا عتمة. وبالتالي فإن العروض الصورية الأبو-غريبية، وهي هوليوودية بامتياز، تعبّر عن المستويات الأخلاقية والعسكرية في السياسة الأميركية، كما تشفُّ عن النوع السادي في أعلى درجاته توحشًا وقابلية على الإفراط في هذه السرديات البوليسية الممارسَة ضد الآخر- الأعزل. لذا فالمعنى الذي تنتجه الصورة، هو المعنى الأول والحقيقي للحدث المشار اليه.








    ربحت الحرب وخسرت الإعلام

    بنحجل التي تفاعلت مع هذه الصور- الحدث بمنهجية أكاديمية، بوصفها صورًا (صادمة)، أنجزت هذا الكتاب المائز تحت مقتضيات التمهيد والتحليل والوصف والتأويل والدراسة الشاملة، من دون أن تفوتها مرجعيات ومصدريات مناسبة لتوطيد العلاقة المماثلة - السلبية بين سجن أبو غريب وما يشابهه في العالم الآخر كمعتقلات النازية الشهيرة وغيرها، في محدّداتها الإبستمولوجية، لنرى أن مثل هذه المحدّدات المعرفية في تنظيراتها الفلسفية الدارسة لطبيعة المعرفة البشرية وأنواعها وقيمها المتعدّدة ومعياريتها للأبعاد الاجتماعية، تقترب من المعرفة التحليلية، لاهتمامها بالسياقات الاجتماعية والثقافية. فالصورة الأبو-غريبية لا تُعزل عن مصدريتها التصويرية السادية. ولا تُعزل عن الثقافة الشعبية - التاريخية التي يحملها السجناء، تحت وطأة سياط الجلادين ودرايتهم في الأثر التصويري الذي يراهنون على جديته (التذكارية) بنوعيته الفريدة، من بشاعة فيها من الفسق والفجور والشذوذ ما يمكن لمثل تلك الصور من قدرة فائقة على تخزينه زمنيًا؛ وإشهاره كتلويحة "انتصارية" لواقع سياسي مهزوم أمام الآلة العسكرية الضخمة. وبالتالي فإن (الحدث الفعلي) ليس هو الصورة الأبو-غريبية وليس ذاكرة الخيال كما نحسب، بل هو الذي حدث قبل وأثناء وبعد الصورة، مع هذه الثلاثية الزمنية التي مارسها المارينز الأميركيون بشكل سافر. فيه من القسوة أكثر ما فيه من المواجهة المعتادة في حروب المقاومة وردّات الفعل غير المحسوبة فيها.

    "الوعي التصويري لدى المصوّر يشي بأنه (يصنع حدثًا)، ولكن الحقيقة هي أنه يصنع جريمة، ويزكّي فاعليها من المجنّدين والمجنّدات الذين تناوبوا على إهانة الجسد العراقي- الشرقي في أعلى مراحل الإهانة؛ بما يشفُّ عن أحقاد مضمرة - تاريخية – نفسية"
    وحينما نمضي بتشكيل الصورة الحدثية في سجن أبو غريب، ستظهر الصورة الواحدة التي تشتّتت على وحدات صغيرة؛ في قفزات تصويرية سريعة، تفترعها الكلاب المدرّبة والمجنّدات الشقر والسلاسل والأقنعة السود والأسلاك الكهربائية. وهذا خليط لا يدعو إلى التأمّل والتأويل، بقدر ما يدعو إلى رسم معرفة صحيحة لصفحة عسكرية قذرة مارستها العسكرية الأميركية في ذلك السجن. فخسرت إعلاميًا بعدما ربحت عسكريًا. مما يدعو إلى التفسير السوسيولوجي كونه أكثر العناصر التحليلية اقترابًا من الحادثة – الحدث؛ ويُلزم التوسّع في تاريخية المفهوم وحلوله في المجتمعات المعاصرة وأثره السلبي في تقويض سلالات الحياة الاجتماعية القائمة على قانونيتها وضبطها.





    الحدث الإعلامي.. مؤوّلات القراءة

    هذه الفضيحة التي تداولتها وسائل الإعلام بطريقة واسعة جدًا، حدّدت فيها الباحثة منهجها القرائي وهي تُصدّر مُؤوّلاته عبر المنهج البيرسي (تشارلز ساندرز بيرس) بالعلامات الأيقونية التي تحدّد وجهة النظر الفلسفية السيموطيقية، كاشفة الوظيفة الدلالية للعلامات بين سلبيتها وإيجابيتها أو بين صدقها وكذبها؛ في بُعدها التمثيلي، التواصلي أو الدلالي. فالمؤوّل المباشر هو ظاهرة الاحتجاجات العربية والإسلامية والعالمية كشعور أولي يمثّل (الصدمة.. وبه تتشكّل الفضيحة) بردّ فعل طبيعي لهذه المشاهد (المخيفة) في ساديّتها وجنونها العبثي. أما المؤوّل الدينامي فهو القائم على جملة معطيات ميدانية وشبحية في النفي أو عدمه والتشكيك بحدوثه أو هو واقع فعلًا. فالصور المتتالية التي أخرجت الضمير العالمي من سباته، لا يمكن أن تكون كاذبة، وهي (تؤرّخ) الحدث في أكثر من زاوية، لتؤكّد ساديّة الآخر في تنفيذ الأوامر العليا لممارسات غير إنسانية جليّة، فضحتها الصور التي انعتقت من السجن وطافت حول العالم. فيما يبقى المؤوّل النهائي (محاولة للخروج عن الدائرة التأويلية. أي مرحلة تخطّي فهم الحدث وتعقله إلى تطويقه وربطه بمؤثرات خارجية أخرى..) وهي مرحلة لاحقة للصور الحقيقية الفاضحة، كخطوة (انتقالية.. من التأويل الفوري إلى التبريري إلى الاعتذار..) على أساس الاعتراف بالخطأ والخطيئة، أمام العلامات الإشهارية في أيقوناتها الدلالية البارزة التي أحكمت الطوق على الفعل في جريمته البشعة.

    "سجن أبو غريب"/ جينز بورغ

    تحليل الصور

    (.. الصور لا تمثّل كل الحقيقة ولكنها تمثل عيّنة من الحقيقي)، وهذه العينة الفوضوية في مزاياها المباشرة هي فضيحة من النوع الثقيل بين جدران السجن؛ فالفضيحة التي تمّت بالصور (بدت وكأنها إشارات خفية متقطعة لحقائق لا تبصر بالعين المجردة) والحقائق الكبيرة هي ليست ما نشاهده كليةً. بل هو ما توارى منها واحتجب. وما شاهدناه في فضاء السجن إشارات لبلوغ الفضيحة وتجذير لصيرورتها الواقعة. وما دام السجن فضاءً مغلقًا سوى من السجانين والمسجونين، فإن فضائح أكبر من الصور تجري قبل عدسة التصوير في خيالٍ تعسفي، يمكن بلوغه وتخيّله بضوء شرائح الصور التي تقاطرت من داخل السجن، لاكتشاف الفظاعة التي كانت تجري على أجساد هؤلاء الأسرى البسطاء، كصورة الهرم البشري الذي تكدّست فوقه أجساد المسجونين، مثل استعراض لسيرك متجول وهو (مشهد معقّد ومركّب..) بوجوه غائبة خلف الأقنعة (غياب الجسد.. هو غياب الهوية) اجتماعيًا في سلسلة أرادتها المجندات انتصارًا على الجسد الشرقي، بظاهره المعبّأ بمخزون جنسي ألف- ليلاتي. وهذا أمر من المضمرات في سيكولوجية المجنّدات الداخلية اللاتي وجدن في إذلال هذه الأجساد (الشرقية) "انتصارًا" قيميًا ذاتيًا وجماعيًا، لتبديد عنفوان فكرة الجسد الشرقي وفحولته. ولعل الإشهارات الصورية التي طالعناها، لا تخلو كلها من هذه الفكرة التي استحوذت على المجنّدات والمجنّدين. وما كانت (عورات) المسجونين سوى إشارات غبية لهذا المنحى الذي التقطته هواتف المجنّدات والمجنّدين، وهم ينفردون بهذه الأجساد الوحيدة. وكأنما أرادوا إيصال فكرة انهيار الذكورية الشرقية والإسلامية، حيث (استغلّ الأميركي فكرة الخجل والحياء في المجتمع الإسلامي فبحث عما يجلب الدنس والعار...) وهذا ما حلّلته الباحثة، مستندة على مجموعة من الصور العارية الملتقطة في سجن أبو غريب.


يعمل...
X