صلة الرحم الأسلوبية بين سوتين ودي كونينغ
أسعد عرابي تشكيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
منهج "علم الجمال المقارن" أسسه الفيلسوف الفرنسي إتيان سوريو في ختام القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من خلال تلميذيه ألكسندر بابادوبولو (مؤسس علم جمال الفن الإسلامي) وفرانك بوبير (المختص بفنون الوهم البصري السينيتيك في فترة ما بعد الحداثة). ولقد درست تسع سنوات لدى الاثنين في السوربون قبل حصولي على دكتوراه دولة مع طالب عربي وحيد هو د. سمير التريكي، وهو فنان وباحث تونسي.
هذا المنهج المقارن سيطر في السنوات الأخيرة على المعارض الأوروبية والأميركية الكبرى، خاصة في باريس. من أبلغ أمثلته المعرض البانورامي الراهن الذي يقيمه متحف الأورانجوري، ويقارن بين عملاقين في التصوير المعاصر وتقاطعهما الأسلوبي، المكتشف لأول مرة بسبب انتساب كل منهما إلى جيل مختلف زمانيًا، فضلًا عن أن سيرة الاثنين متباعدة أيضًا في أصولهما الثقافية. وهما حاييم سوتين (1893 - 1943 مـ)، أحد أعمدة مدرسة باريس، ناهيك عن ثقافته العبرية من أصل روسي. والثاني وليام دي كونينغ (1904 -1997 مـ)، أبرز معلمي مدرسة نيويورك في التجريد التعبيري، من أصل هولندي حيث تاريخ التصوير الأشد عراقة مع رامبرانت وفيرمير وسواهما. تتسع ساحة المقارنة في المعرض لتشهد صدمة تصوير سوتين على مسيرة بقية رواد مدرسة نيويورك.
من الضرورة بمكان التنبيه إلى انعدام شعبية فن سوتين في باريس في سنواته الأولى، بسبب حدة التعبير التراجيدي لديه، وفقره وعدم عنايته بهندامه، وإهمال علاقاته في الأوساط الفنية وصالات العرض والاحتكاك الضروري بأصحاب المجموعات والمثقفين، هو أقرب رغم أصالة فنه إلى الحياة البوهيمية الباريسية التي كان يعيشها المهمشون مثل الكلوشارات والكحوليون. هي فلسفة العبث التي كانت نخبوية بورجوازية بالنسبة إلى فلاسفة الوجودية مثل جان بول سارتر وألبير كامو، ممثلون برجوازيًا بألبرتو جياكوميتي النحات ونيكولا دوستائيل المصور. كان سوتين مستقلًا في عدميته التراجيدية عن هذه الحساسية. بل إن دراماتيكيته التعبيرية كانت أقرب إلى تعبيرية ما بين الحربين الألمانية ابتداء من ماكس بكمان وانتهاء بكوتي غولفتز مرورًا بغروز. وهو طابع جرماني أكثر منه لاتيني غبطوي، يبحث عن الضوء والزمن وريثي القيم الانطباعية. لذلك نعت سوتين بمسه "بلعنة شيطانية".
لكن أشكاله الملتاعة كانت تطرح حداثيًا نفس التوليف الذي تبحث عنه مدرسة نيويورك: البرزخ المتوسط بين التجريد والتعبيرية التشخيصية، مع الاعتراف بتأثير فناني باريس عمومًا المهاجرين من الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسهم سوتين الذي أثار الانتباه لدى النقاد والمتاحف وأصحاب المجموعات منذ 1930 مـ في معرض فيلادلفيا، وكان لمعرضه الاستعادي في نيويورك المتحف الوطني عام 1950 أثر مثير لدى المصور الأول في نيويورك وليام دي كونينغ، لدرجة أن "مرحلة النساء" الخاصة تكاد تكون متقاطعة مع تجارب معرض سوتين، خاصة التي تتشظى فيه وجوهه إلى أشكال لونية كثيفة العجائن متلوعة المنحنيات (مثل فان غوخ)، خاصة موضوع الذبائح من أبقار إلى دجاج وأغنام. موضوع أثير منذ رامبرانت وفرانشيسكو غويا.
تعرضت سابقًا إلى تأثير تصاوير كلود مونيه الانطباعية المتأخرة التي تقع بين التشخيص النباتي والتجريد اللوني الأزرق، على أسلوب سام فرانسيس التابع بدوره لمدرسة نيويورك التجريدية التعبيرية. لكن تأثير حاييم سوتين على وليام دي كونينغ يبدو أشد غورًا على المستويين التراجيدي العبثي التعبيري وعلى مستوى لوعات مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإذا كان هذا التراث الرمادي تقاطع بصيغة حادة مع مسيرة دي كونينغ فقد تعدّل أسلوبه بعد وفاة سوتين، وأصبح أشد تعبيرًا عن قوة الحياة، والعلاقات الموسيقية اللونية برحابة سطوحها وكأنها وريثة تفاؤل هنري ماتيس أكثر من "لعنات" سوتين. ومهما يكن من أمر فإن المعرض الذي سيستمر حتى أواسط شهر كانون الثاني من السنة القادمة 2022 مـ ثبت مجهره التحليلي والمقارن على مساحات اللقاء بين العبقريتين تشكيليًا وفلسفيًا. أي على الجانب الوجودي السيزيفي وسلوك المادة المأزومة والفرشاة المتسارعة العصبية دون سواها. إنه معرض يستحق الزيارة لأنه يساعد على التدرب على ذائقة هذه الفترة المقلقة التي تعتبر أن ميزان أصالة اللوحة يرتبط بعمق شهادتها الحية مهما كان الواقع مؤلمًا، فالحقيقة تمثل جزءًا من المتعة التشكيلية، أما العكس فيكشف العبثية الاستهلاكية والتزينيية المسطحة في منافقات الديكورات التجارية. من الواجب أخيرًا استدراك أنه سبق المعرض الباريسي معرض مناظر مقارنة بنفس الموضوع قبل أشهر في الولايات المتحدة.
أسعد عرابي تشكيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
منهج "علم الجمال المقارن" أسسه الفيلسوف الفرنسي إتيان سوريو في ختام القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من خلال تلميذيه ألكسندر بابادوبولو (مؤسس علم جمال الفن الإسلامي) وفرانك بوبير (المختص بفنون الوهم البصري السينيتيك في فترة ما بعد الحداثة). ولقد درست تسع سنوات لدى الاثنين في السوربون قبل حصولي على دكتوراه دولة مع طالب عربي وحيد هو د. سمير التريكي، وهو فنان وباحث تونسي.
"تأثير حاييم سوتين على وليام دي كونينغ يبدو أشد غورًا على المستويين التراجيدي العبثي التعبيري وعلى مستوى لوعات مجتمع ما بعد الحرب العالمية الثانية" |
"من الضرورة بمكان التنبيه إلى انعدام شعبية فن سوتين في باريس في سنواته الأولى، بسبب حدة التعبير التراجيدي لديه، وفقره وعدم عنايته بهندامه، وإهمال علاقاته في الأوساط الفنية" |
لكن أشكاله الملتاعة كانت تطرح حداثيًا نفس التوليف الذي تبحث عنه مدرسة نيويورك: البرزخ المتوسط بين التجريد والتعبيرية التشخيصية، مع الاعتراف بتأثير فناني باريس عمومًا المهاجرين من الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسهم سوتين الذي أثار الانتباه لدى النقاد والمتاحف وأصحاب المجموعات منذ 1930 مـ في معرض فيلادلفيا، وكان لمعرضه الاستعادي في نيويورك المتحف الوطني عام 1950 أثر مثير لدى المصور الأول في نيويورك وليام دي كونينغ، لدرجة أن "مرحلة النساء" الخاصة تكاد تكون متقاطعة مع تجارب معرض سوتين، خاصة التي تتشظى فيه وجوهه إلى أشكال لونية كثيفة العجائن متلوعة المنحنيات (مثل فان غوخ)، خاصة موضوع الذبائح من أبقار إلى دجاج وأغنام. موضوع أثير منذ رامبرانت وفرانشيسكو غويا.
"ثبت المعرض مجهره التحليلي والمقارن على مساحات اللقاء بين العبقريتين تشكيليًا وفلسفيًا. أي على الجانب الوجودي السيزيفي وسلوك المادة المأزومة والفرشاة المتسارعة العصبية دون سواها" |