رفقة أبناء بيير بونار.. بالتوس - بازين - روتكو
أسعد عرابي
تشكيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة الآن معرض آخر يطبق منهج "علم الجمال المقارن" ويعقد مقارنة بين تجربة المعلم بيير بونار الرائدة (1867 – 1947 مـ.) وعدد من كبار الفنانين الذين تأثروا بأسلوبه الفلسفي والفني في تأويل إضاءات ومناخات اللون الطبيعي، بتحريفها عاطفيًا، دون أن يفلت هو نفسه من حساسية مفهوم الديمومة لدى فيلسوف فرنسا الأول والمعاصر له هنري برغسون.
يقع زمان العرض ما بين الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2021 مـ والثلاثين من كانون الثاني/ يناير من عام 2022 مـ، أما مكان العرض فهو "متحف بونار" في مدينة كانيه التي استقر فيها خلال سنواته الخصبة منتجًا أكثر من ثلاثمئة لوحة من أشهر لوحاته، اختير منها للعرض خمس عشرة للمقارنة مع أعمال أبنائه مجازًا، الذين لا يقلون شهرة عنه خاصة الثلاثي: بالتوس وجون بازين ومارك روتكو، إضافة إلى فريدمان وليزيور وكومورا وصولًا حتى بلانش، متمثلين جميعهم بلوحاتهم المقابلة للمعلم بونار. لماذا اختيرت كانيه لمتحفه، رغم شهرته الباريسية التي لا تضارع. كان ذلك تيمنًا برواد الفن الفرنسي المعاصر الذين اختيرت مواقع متاحفهم في المدن التي ارتبط فنهم بها، كلود مونيه مثلًا في جفريني وبول سيزان في أكس إن بروفانس، وهنري ماتيس في نيس، وبابلو بيكاسو في عدة متاحف تمثل محطاته الأساسية، ابتداء من متحفه الباريسي إلى متحفه الخاص بالسيراميك في فالوريز على البحر الأبيض المتوسط ثم بالقرب منها مالقة في إسبانيا مسقط رأسه وهكذا. لعله من الجدير بالذكر أن متحفين رئيسيين في باريس دعما متحف كانيه منذ تأسيسه (والمعرض يمثل الذكرى العاشرة لميلاده)، وهما متحف أورسي ومتحف الأورانجوري. تعتبر مجموعة الأول لبيير بونار من أغنى المجموعات في فرنسا وضعت تحت تصرف اللجنة العلمية لكانيه ولاختيارات العرض. أما معرضه في مدينة غرونوبل: "ألوان الضوء" فقد مدّد حتى يتزامن ويتحالف مع المعرض الراهن البالغ الأهمية.
ولكن من هو بيير بونار؟
يجمع العديد من مؤرخي الفن والنقاد على أنه أعظم مصور فرنسي معاصر، لدرجة أنهم يعتبرونه تجربة انعطافية ونقطة علامة عميقة التأثير على من أتوا بعده وانقلابًا عميقًا على من سبقوه، وهم الانطباعيون الذي ابتدأ بانتمائه إلى مجموعتهم لدرجة أن مؤسسها كلود مونيه كان من أعز أصدقائه، ويحفظ لفنه تقديرًا كبيرًا مثله مثل زعيم تيار الوحشية هنري ماتيس الذي يقول بأنه "مصور كبير وسيكبر أكثر في المستقبل" وذلك رغم مخالفته الأساسية لهم، كان متأثرًا بثورة بول غوغان على الانطباعية وتأسيسه جماعة "بون آفين"، ويقول بول غوغان في معرض انتقاده لهم: "إن الانطباعيين يبحثون حول العين وليس في المركز الخفي للفكر" . يناقض بونار هؤلاء المتحمسين للتصوير في ساحة خلاء النور الطبيعي (بتأثير علوم الفيزياء البصرية والتوليف اللوني على شبكية العين)، فيدعو إلى التصوير العاطفي، البصيري وليس البصري، من دواخل حميمية داره في كانيه، وبتكوينات لونية مسطحة أقرب إلى التجريد الغنائي الذي انطلق كتيار من تجربته العاطفية. ولا شك في أنه كان متأثرًا بفن الاستامب الياباني، لدرجة أنه كان في بدايته يصور على بارافانات ثلاثية، يصور زوجته في شتى مسيرتها اليومية، بما فيه حمامها وغرفة النوم التي تجمعهما بحميمية جنسية. يصور كائنات المنزل من القطة إلى الكلب إلى الفتاة على مائدة الفواكه، ويتوخى تصوير النوافذ والمنافذ على الطبيعة فتبدو الغابة العذراء المطوقة لمنزله وكأنها داخل حجرات منزله. نعثر في مذكراته على جولاته الموازية والملامسة لبيته، يسجل فيها أحوال الطقس والرسم البدائي التكوين، وينجزها في محترفه الداخلي.
يؤسس عام 1888 مـ جماعة "الأنبياء" بمعنى الرؤيويين كبديل عن الانطباعية، وهم إدوارد فويار وفيليكس فالاتون وموريس دونيس وجان مينيرو وبول رانسون. ظهر تفوقه التطوري والثقافي والتصويري عليهم من خلال معارضهم الناشطة التي توقفت مع توقف الجماعة عام 1900 مـ. وعاد فناننا إلى وحدته الروحية الداخلية، قالبًا مفهوم المعاصرة في الفن الفرنسي رأسًا على عقب، وبقدر بعده عن الانطباعية بقدر تحالفه مع جماعة بول غوغان الرمزية في النورماندي، خاصة مع بول سوريزييه الذي صرح بقوة التجريد في التصوير بتصريحه الشهير بأن "اللوحة لا تتجاوز مجموعة ألوان تنتظم لدى الفنان وفق نسق يميزه كل مرة". كان بول متعصبًا لآلية الذاكرة في تجلياته التصويرية، يصور حتى المنظر الطبيعي من الذاكرة الحميمة لأنه يرى أن الذاكرة تصفي تداعيات الأشكال فتختار ما يستحق البقاء منها ويمحق النسيان الفائض. وهنا ندرك التأثير العميق لفلسفة الديمومة لدى معاصره الفيلسوف الأكبر هنري برغسون، بوثبته الحدسية الحية، بتطوره الخلاق، بديمومته الرديفة لآلية الذاكرة وهكذا، هناك تراشح بصري وفكري بين لوحات بونار وتجليات برغسون، لا يمكن فهم برغسون دون الاطلاع على لوحات بونار والعكس صحيح، وبأن الزمان في اللوحة يتوقف مع عاطفية الإنجاز.
أما الجانب الرؤيوي المقارن في المعرض الراهن فهو اكتشاف مورثات فن المعلم بونار على تصاوير أبنائه الشرعيين من أبرز أسماء الجيل التالي. تجمعهم الحميمية العاطفية والذاكراتية في رصف الألوان، على غرار المشاهد الداخلية المثيرة لمراهقات بالتوس، ثم تأسيس التجريد الغنائي الباريسي بمبادرة جان بازين وتصاميمه للزجاج المعشّق على نموذج روحانية الكاتدرائيات القوطيّة على غرار تصاميمه في كنيسة سان سفران في الحي اللاتيني، أما الثالث الأميركي (مدرسة نيويورك) فهو مارك روتكو الذي اختزل ألوان بونار في مساحتين عملاقتين أو ثلاث وضمن حساسية تصوفية كونية شمولية تستعيد تبشيرات مدرسة الأنبياء بطريقة عاطفية مختزلة، نشهد بذلك التنافس ما بعد الحرب العالمية الثانية بين مونوبولين للفن المعاصر، باريس ونيويورك، والذي لم يحسم حتى اليوم.
أسعد عرابي
تشكيل
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة الآن معرض آخر يطبق منهج "علم الجمال المقارن" ويعقد مقارنة بين تجربة المعلم بيير بونار الرائدة (1867 – 1947 مـ.) وعدد من كبار الفنانين الذين تأثروا بأسلوبه الفلسفي والفني في تأويل إضاءات ومناخات اللون الطبيعي، بتحريفها عاطفيًا، دون أن يفلت هو نفسه من حساسية مفهوم الديمومة لدى فيلسوف فرنسا الأول والمعاصر له هنري برغسون.
"اختير من أعمال بونار للعرض خمس عشرة لوحة للمقارنة مع أعمال أبنائه مجازًا، الذين لا يقلون شهرة عنه خاصة الثلاثي: بالتوس وجون بازين ومارك روتكو، إضافة إلى فريدمان وليزيور وكومورا وصولًا حتى بلانش" |
ولكن من هو بيير بونار؟
يجمع العديد من مؤرخي الفن والنقاد على أنه أعظم مصور فرنسي معاصر، لدرجة أنهم يعتبرونه تجربة انعطافية ونقطة علامة عميقة التأثير على من أتوا بعده وانقلابًا عميقًا على من سبقوه، وهم الانطباعيون الذي ابتدأ بانتمائه إلى مجموعتهم لدرجة أن مؤسسها كلود مونيه كان من أعز أصدقائه، ويحفظ لفنه تقديرًا كبيرًا مثله مثل زعيم تيار الوحشية هنري ماتيس الذي يقول بأنه "مصور كبير وسيكبر أكثر في المستقبل" وذلك رغم مخالفته الأساسية لهم، كان متأثرًا بثورة بول غوغان على الانطباعية وتأسيسه جماعة "بون آفين"، ويقول بول غوغان في معرض انتقاده لهم: "إن الانطباعيين يبحثون حول العين وليس في المركز الخفي للفكر" . يناقض بونار هؤلاء المتحمسين للتصوير في ساحة خلاء النور الطبيعي (بتأثير علوم الفيزياء البصرية والتوليف اللوني على شبكية العين)، فيدعو إلى التصوير العاطفي، البصيري وليس البصري، من دواخل حميمية داره في كانيه، وبتكوينات لونية مسطحة أقرب إلى التجريد الغنائي الذي انطلق كتيار من تجربته العاطفية. ولا شك في أنه كان متأثرًا بفن الاستامب الياباني، لدرجة أنه كان في بدايته يصور على بارافانات ثلاثية، يصور زوجته في شتى مسيرتها اليومية، بما فيه حمامها وغرفة النوم التي تجمعهما بحميمية جنسية. يصور كائنات المنزل من القطة إلى الكلب إلى الفتاة على مائدة الفواكه، ويتوخى تصوير النوافذ والمنافذ على الطبيعة فتبدو الغابة العذراء المطوقة لمنزله وكأنها داخل حجرات منزله. نعثر في مذكراته على جولاته الموازية والملامسة لبيته، يسجل فيها أحوال الطقس والرسم البدائي التكوين، وينجزها في محترفه الداخلي.
"ابتدأ بونار بانتمائه إلى مجموعة الانطباعيين لدرجة أن مؤسسها كلود مونيه كان من أعز أصدقائه، ويحفظ لفنه تقديرًا كبيرًا مثله مثل زعيم تيار الوحشية هنري ماتيس الذي يقول بأنه "مصور كبير وسيكبر أكثر في المستقبل"" |
أما الجانب الرؤيوي المقارن في المعرض الراهن فهو اكتشاف مورثات فن المعلم بونار على تصاوير أبنائه الشرعيين من أبرز أسماء الجيل التالي. تجمعهم الحميمية العاطفية والذاكراتية في رصف الألوان، على غرار المشاهد الداخلية المثيرة لمراهقات بالتوس، ثم تأسيس التجريد الغنائي الباريسي بمبادرة جان بازين وتصاميمه للزجاج المعشّق على نموذج روحانية الكاتدرائيات القوطيّة على غرار تصاميمه في كنيسة سان سفران في الحي اللاتيني، أما الثالث الأميركي (مدرسة نيويورك) فهو مارك روتكو الذي اختزل ألوان بونار في مساحتين عملاقتين أو ثلاث وضمن حساسية تصوفية كونية شمولية تستعيد تبشيرات مدرسة الأنبياء بطريقة عاطفية مختزلة، نشهد بذلك التنافس ما بعد الحرب العالمية الثانية بين مونوبولين للفن المعاصر، باريس ونيويورك، والذي لم يحسم حتى اليوم.
"هناك تراشح بصري وفكري بين لوحات بونار وتجليات برغسون، لا يمكن فهم برغسون دون الاطلاع على لوحات بونار والعكس صحيح، وبأن الزمان في اللوحة يتوقف مع عاطفية الإنجاز" |