أصول تعبيرية جورج بازلتز
أسعد عرابي
تشكيل
جورج بازلتز في مركز بومبيدو بجانب أشهر لوحاته
شارك هذا المقال
حجم الخط
أخيرًا وليس آخرًا، أطل على جمهور الذائقة التشكيلية في عاصمة النور، المعرض البانورامي الأول لأحد أشهر الفنانين العالميين، وهو جورج بازلتز، الذي طال انتظاره منذ الستينيات، وغاب زمانه المديد لأسباب مزاجية متخلفة، حتى لا نقول لأسباب سياسية تعسفية أو مافيوزية لوبية.
إذًا يعانق متحف الفن المعاصر في المركز الثقافي بومبيدو في قلب باريس - ما بين العشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2021 والسابع من مارس/ آذار 2022 - موروث أشهر فنان في العالم بعد بابلو بيكاسو، وهو جورج بازلتز، من مواليد 1938 في ألمانيا. يغطي المعرض تقصير أكثر من نصف قرن، وذلك بعرض تحولاته الأسلوبية من التعبيرية المحدثة، منذ بداية الستينيات وحتى اليوم. وشارك كعادته في سينوغرافية المعرض الذي بدا وكأنه سياق توثيقي وقائعي مرتب وفق تواريخ مراحله الخصبة كما سنشير لاحقًا. لا شك في تعدديته الشمولية على استفزازاتها الدادائية المحدثة أشد تأثيرًا على تيارات ما بعد الحداثة منذ نهاية السبعينيات، وإن كان تأثيره الفعلي ابتدأ منذ نهاية الحرب الكبرى الثانية عام 1947، ليؤسس للجيل التالي وأغلبهم من مريديه أو تلامذته؛ تيار: "تعبيرية ما بعد الحداثة" مهاجمًا الفرنسي كومباس وتسميته التعسفية: "التشخيصية الحرة" التي اقتصرت على الصالونات الباريسية الدورية.
ترسخت نجومية هذا المعلم الكبير من خلال استقطابه لأهم تيار ألماني مسيطر في أوروبا وهو "التعبيرية" المشتقة من مصدرين، الأول من الفلسفة الميتافيزيقية الجرمانية. هي التي تعتبر الإنسان مركزًا للملحمة القدرية والمواجهة المتفوقة المركزية، ومثالها جدلية التفوق (خاصة الآري) لنيتشه، دعونا نتذكر سيمفونية القدر (التاسعة) لبيتهوفن وشعر شيللر. لذلك فإن فناننا يعتبر ممثلًا لتعبيرية ما بعد الحداثة التي عبرت من مصائب ما بين الحربين وأهوال الحرب الثانية عبورًا من دادائية الأولى، وماكس بيكمان وأساطيره الجرمانية التي تصور الأشخاص في شتى الاتجاهات، وموروث عبقرية الحفار دورير، ومدرسة غروز وأوتو ديكس مرورًا بكوتي كولفتز وصولًا حتى شلايمر في الباوهاوس قبل ختامها مع شنايدر والتعبيرية التجريدية في مدرسة نيويورك المهاجرة، تجد فيها أحد أنساله وهو روشنبرغ.
أما المصدر الثاني لشهرته العالمية فهو اعتباره نموذجًا ما بعد حداثي، أو رد فعل مستقبلي على همجية الحروب وتعسف السيطرة الفاشية - النازية، ثم عمودية تجربته الاستفزازية لمعاناته ما بين الحربين وخلال الحرب العالمية الثانية، وما جرى في أعقابها من مآس بما فيه إقامة جدار برلين، 1961، جدار العزل وشق توأمية البلد المهزوم باحتلاله شرقًا من نظام ستالين وغربًا من الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا.
كان قد انتسب في مطلع شبابه إلى الحزب النازي باعتباره ديمقراطيًا تقدميًا، ثم أهمله بعد سنتين ولم يحضر اجتماعاته منذ البداية، وكل ما بدر عنه من صدامات مع النظام والسلطة يؤكد أن طبيعته متناقضة مع النازية، وخاصة بعد 1937 عندما أحرقت لوحات الرواد بما فيها لوحاته في ساحة عامة بتهمة الفن الفاسد وفرض فن البروباغندا الرسمي في تقديس الجنس الآري الجرماني واحتقار كل ما عداه خاصة السامي. أعقب هذه الحادثة اعتقال من يدين منهم باليهودية، وطورد بول كلي بعد حرق لوحاته، فهرب إلى سويسرا وطلب الجنسية ورفض طلبه لسنوات، وكذلك كان مصير نظيره موهولي ناجي الذي فر إلى واشنطن مع ألبير وأسس فرعًا لمدرسة الباوهاوس في الولايات المتحدة، ظلت مزدهرة حتى اليوم. عانى بازلتز ما عاناه أمثاله من الرواد الرؤيويين، فأحرقت بعض لوحاته، ومنع من عرض التجريد، ونلاحظ في المعرض هذه الفترة الستينية، تقترب الأشكال من الهاجس الدرامي في التقاليد التعبيرية الألمانية، وصل به الاستفزاز العبثي في مجموعة صور فيها نفسه عاريًا، مؤكدًا على رسم عضوه الذكوري، فكان مصيره الاعتقال والحكم بسجنه ستة شهور بتهمة التعدي على الآداب العامة.
تعرض بالنتيجة بازلتز إلى رميه بتهمة اللاسامية ومنع عرض لوحاته خارج ألمانيا، وهو ما حصل مع مارتن هايدغر، مؤسس الوجودية المناقضة للعنصرية والتي اعتمدها كل من جان بول سارتر (الوجود والعدم) وألبير كامي (العبثية السيزيفية) وتأثر بعض الفنانين بهذه الفلسفة في فرنسا من أمثال النحات ألبرتو جياكوميتي، والمصور نيكولا دو ستائل الذي انتحر في عمر مبكر. وكما انتسب بازلتز إلى الحزب النازي فقد انتسب زميله بابلو بيكاسو إلى الماركسية التي استمرت من خلالها فظائع ستالين، وعندما توفي في بداية السبعينيات وجدنا في جيب بيكاسو صورة اللوحة التي رسمها عنه وكذلك تصميم طائر الحمام، الشعار الذي أهداه بيكاسو للحزب الشيوعي (كذلك كان أمر جان بول سارتر).
نحن لا نحاكم اليوم هؤلاء العباقرة بسبب هذه التفاصيل، بل بالأحرى من خلال سلوكهم العام، وخاصة أبعادهم الفكرية المناهضة لأي شكل من أشكال العنصرية.
إن إقامة مثل هذا المعرض البانورامي لجورج بازلتز اليوم يثبت خطأ استمر أكثر من نصف قرن، أي منذ بداية الستينيات وحتى اليوم، لعل أبرز ما يميز مراحله المتعددة هو الاستفزاز الأسلوبي، فقد غلب على لوحاته منذ السبعينيات عرضها مقلوبة، خاصة مجموعة النسور والصقور، وذلك رغبة منه في قلب الثوابت المكانية (من سماء وبحر وجاذبية أرضية) في ذاكرة المتفرج. ويعانق المعرض جحافل من الشخوص المعكوسة المعلقة في الفراغ، تذكّر ببعض الملامح الأسطورية لمعلم بداية القرن العشرين ماكس بيكمان. واحدة من لوحات بازلتز يصوّر فيها أذن فان غوخ عندما قطعها، صوّرها أكبر من وجهه.
لا بد من التوقف عند لوحاته الإيكولوجية المشرذمة الأشكال، لأنها تعترض على ذبح الحيوانات في الغابة. وبالإجمال فإن موهبته الفذة قادته إلى قياسات نسبية تتجاوز العشرة أمتار ابتداء من رسم سريع على غلاف علبة السجائر، يرسمها بسرعة في المقهى ثم ينفذها بأدوات عملاقة في المحترف، لذلك اخترع أدوات لصيانة مفاصله وسلالم راسخة خوفًا من السقوط، هو الأغلى والأشد شهرة والأوسع انتشارًا في المتاحف الحداثية وخاصة الأقوى شخصية فنية تتجاوز صلابة سابقه بابلو بيكاسو. إنه معرض استثنائي مزدحم الحجوزات ومزدان بطباعات زاهية وندوات نقدية شمولية.
أسعد عرابي
تشكيل
جورج بازلتز في مركز بومبيدو بجانب أشهر لوحاته
شارك هذا المقال
حجم الخط
أخيرًا وليس آخرًا، أطل على جمهور الذائقة التشكيلية في عاصمة النور، المعرض البانورامي الأول لأحد أشهر الفنانين العالميين، وهو جورج بازلتز، الذي طال انتظاره منذ الستينيات، وغاب زمانه المديد لأسباب مزاجية متخلفة، حتى لا نقول لأسباب سياسية تعسفية أو مافيوزية لوبية.
إذًا يعانق متحف الفن المعاصر في المركز الثقافي بومبيدو في قلب باريس - ما بين العشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2021 والسابع من مارس/ آذار 2022 - موروث أشهر فنان في العالم بعد بابلو بيكاسو، وهو جورج بازلتز، من مواليد 1938 في ألمانيا. يغطي المعرض تقصير أكثر من نصف قرن، وذلك بعرض تحولاته الأسلوبية من التعبيرية المحدثة، منذ بداية الستينيات وحتى اليوم. وشارك كعادته في سينوغرافية المعرض الذي بدا وكأنه سياق توثيقي وقائعي مرتب وفق تواريخ مراحله الخصبة كما سنشير لاحقًا. لا شك في تعدديته الشمولية على استفزازاتها الدادائية المحدثة أشد تأثيرًا على تيارات ما بعد الحداثة منذ نهاية السبعينيات، وإن كان تأثيره الفعلي ابتدأ منذ نهاية الحرب الكبرى الثانية عام 1947، ليؤسس للجيل التالي وأغلبهم من مريديه أو تلامذته؛ تيار: "تعبيرية ما بعد الحداثة" مهاجمًا الفرنسي كومباس وتسميته التعسفية: "التشخيصية الحرة" التي اقتصرت على الصالونات الباريسية الدورية.
"فناننا يعتبر ممثلًا لتعبيرية ما بعد الحداثة التي عبرت من مصائب ما بين الحربين وأهوال الحرب الثانية عبورًا من دادائية الأولى، وماكس بكمان وأساطيره الجرمانية وصولًا حتى شلايمر في الباوهاوس قبل ختامها مع شنايدر والتعبيرية التجريدية" |
أما المصدر الثاني لشهرته العالمية فهو اعتباره نموذجًا ما بعد حداثي، أو رد فعل مستقبلي على همجية الحروب وتعسف السيطرة الفاشية - النازية، ثم عمودية تجربته الاستفزازية لمعاناته ما بين الحربين وخلال الحرب العالمية الثانية، وما جرى في أعقابها من مآس بما فيه إقامة جدار برلين، 1961، جدار العزل وشق توأمية البلد المهزوم باحتلاله شرقًا من نظام ستالين وغربًا من الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة وبريطانيا.
"عانى بازلتز ما عاناه أمثاله من الرواد الرؤيويين، فأحرقت بعض لوحاته، ومنع من عرض التجريد، ونلاحظ في المعرض هذه الفترة الستينية، تقترب الأشكال من الهاجس الدرامي في التقاليد التعبيرية الألمانية" |
تعرض بالنتيجة بازلتز إلى رميه بتهمة اللاسامية ومنع عرض لوحاته خارج ألمانيا، وهو ما حصل مع مارتن هايدغر، مؤسس الوجودية المناقضة للعنصرية والتي اعتمدها كل من جان بول سارتر (الوجود والعدم) وألبير كامي (العبثية السيزيفية) وتأثر بعض الفنانين بهذه الفلسفة في فرنسا من أمثال النحات ألبرتو جياكوميتي، والمصور نيكولا دو ستائل الذي انتحر في عمر مبكر. وكما انتسب بازلتز إلى الحزب النازي فقد انتسب زميله بابلو بيكاسو إلى الماركسية التي استمرت من خلالها فظائع ستالين، وعندما توفي في بداية السبعينيات وجدنا في جيب بيكاسو صورة اللوحة التي رسمها عنه وكذلك تصميم طائر الحمام، الشعار الذي أهداه بيكاسو للحزب الشيوعي (كذلك كان أمر جان بول سارتر).
نحن لا نحاكم اليوم هؤلاء العباقرة بسبب هذه التفاصيل، بل بالأحرى من خلال سلوكهم العام، وخاصة أبعادهم الفكرية المناهضة لأي شكل من أشكال العنصرية.
"غلب على لوحاته منذ السبعينيات عرضها مقلوبة، خاصة مجموعة النسور والصقور، وذلك رغبة منه في قلب الثوابت المكانية (من سماء وبحر وجاذبية أرضية) في ذاكرة المتفرج" |
لا بد من التوقف عند لوحاته الإيكولوجية المشرذمة الأشكال، لأنها تعترض على ذبح الحيوانات في الغابة. وبالإجمال فإن موهبته الفذة قادته إلى قياسات نسبية تتجاوز العشرة أمتار ابتداء من رسم سريع على غلاف علبة السجائر، يرسمها بسرعة في المقهى ثم ينفذها بأدوات عملاقة في المحترف، لذلك اخترع أدوات لصيانة مفاصله وسلالم راسخة خوفًا من السقوط، هو الأغلى والأشد شهرة والأوسع انتشارًا في المتاحف الحداثية وخاصة الأقوى شخصية فنية تتجاوز صلابة سابقه بابلو بيكاسو. إنه معرض استثنائي مزدحم الحجوزات ومزدان بطباعات زاهية وندوات نقدية شمولية.