منى السعودي.. دمعة على خدّ الحجر
غسان مفاضلة
تشكيل
منى السعودي (1945 ـ 2022)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما إن تعرّفت في طفولتها المبكرة، أواسط خمسينيات القرن الماضي، على فتنة الحجارة المنحوتة والمبعثرة بجوار بيتها في ساحة المدرج الروماني، ومحيط "سبيل الحوريات"، بأقواسه وينابيعه، وسط العاصمة الأردنية عمّان؛ حتّى أخذ حلمها في أن تصبح نحاتة يتسع يومًا بعد يوم مع اتساع أفقها في معاينة ذلك الفيض من تفاصيل المشهد المرافق لها مشيًا على الطريق الترابية، بين البيت والمدرسة.
ومع وقع خطى النحاتة والشاعرة منى السعودي (1945 ـ 2022) المولودة في عمّان، والتي غيبها الموت في بيروت الأسبوع الفائت، بدأت تتشكّل على الطريق الترابية ذاتها، بتعرجاتها ومنسرباتها بين جبال عمّان، أواصر صداقتها الحميمة مع الأرض والشجر والحجر، لتبدأ من هناك رحلة المسافات المفتوحة جهة الحلم والتأمل والخيال.
إنها الجهة التي سترفد لاحقًا تجربتها النحتية الموصولة بمحيطها الناغل بالحركة والتنوع والثراء، بروحٍ متحفزةٍ لمواجهة العالم بأدوات البحث والمغامرة والتجريب. ومن خلال سلسلة من الاستنباطات التدريجية في مجال الرؤية المتبصّرة في محيطها، لم تكفّ الفنانة الدارسة للنحت في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1973، عن معاينة اللامرئي الذي تُبطنه تبصّراتها في موادها النحتية، مدفوعةً برغبة المتصوف في الكشف عن الجوهر الذي سيمنح عملها فرادته في الحضور والتعبير.
النحت والشعر
ومع بيروت، محطتها الأولى التي أنهت منها دراستها الثانوية عام 1963، كان أول لقاء لها مع النحت بتعرفها إلى أعمال النحات ميشيل بصبوص، فأقامت أول معرض لرسوماتها في مقهى "الصحافة"، لتبدأ بعد ذلك، منذ عام 1969، ملامح تجربتها بالنمو والتشكل على نحو عفوي كان محط اهتمام العديد من أصدقائها الفنانين والنقاد والشعراء الذين واكبوا بواكير تجربتها النحتية، مثل خالدة سعيد، وسمير صايغ، ونزيه خاطر، وجوزيف طراب، ومها سلطان.
وإذا كانت المنحوتات الرومانية المتناثرة في محيط طفولتها المبكرة شكّلت المحطات الأولى في تشكيل رؤيتها الفنية بصريًا وتصوريًا، لتشيّد من خلالها إدراكًا حسّيًا مبكرًا لمكنونات عالم خفي وغير مرئي؛ فإن لحمة العلاقة بين النحت والشعر التي ستكتشفها لاحقًا، سوف تشكّل لها سفرًا مفتوحًا تجاه اللامرئي، وفضاءً مشْرعًا على عوالم التخيل والتأمل والإيحاء.
فمع شغفها في مراقبة تلك المنحوتات، ومعاينة سحر جمالها، إلى تلمس جسد الأرض بانحناءاته وامتداداته والتواءاته، إلى تتبع ما يطفو على سطح سيل عمان المجاور لبيتها، من مخلفات يجرها الفيضان، إضافةً إلى سحر انعكاس الأضواء الليلية على سطح الماء؛ بدأت تتعرّف على حسيّتها الشعريّة في إطار صداقتها مع مؤثثات عالمها المرئي الذي جابت معه عوالم غير مرئية اتخذت لها من الشعر جسدًا ومسكنًا.
ومع الشعر، وآفاقه المفتوحة على الحلم والتأؤيل، خاضت السعودي أولى تجاربها المشتركة في المزاوجة بين النحت والرسم مع الشاعر الفرنسي ميشيل بوتور (1926 ـ 2016)، الذي ترجم أدونيس شعره إلى العربية. وتمضي السعودي بعد ذلك في استكناه أواصر العلاقة بين قصائدها ورسوماتها التي جمعتها في ديوانين هما: "محيط الحلم" (1992)، و"رؤيا أولى" (1972).
نشيد اعتدال
استلهمت السعودي، التي تُعدّ رائدة في استلهام الروحية الشعرية ومعاينتها تشكيليًا، قصائد العديد من الشعراء الفرنسيين والعرب، مثل قصيدة "نشيد اعتدال" للشاعر الفرنسيّ سان ـ جون بيرس (1887 ـ 1975)، التي حمل أحد معارضها عنوان القصيدة ذاتها، بالإضافة إلى قصائد محمود درويش، وأدونيس.
ويعود تعرّف السعودي على القصيدة/ المعرض "نشيد اعتدال"، إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي، والتي استلهمت منها أعمالًا غرافيكية نفذتها بتقنية الطباعة الحريرية.
الفنانة التي شكلت باريس محطة بارزة في حياتها الفنية تصف قصيدة "نشيد اعتدال" بأنها "شاملة وتجريدية، وفيها نظرة مختصرة للحياة". ومن مقاطع القصيدة، كما ترجمها أدونيس:
"كان رعدّ في ذلك المساء، وعلى الأرض ذات القبور كنت
أسمعُ دويّ ـ هذا الردّ على الإنسان، كان موجزًا، ولم يكن إلا قصفًا.
كان معنا، يا صديقة، وابلُ السماء، وليل الإله كان جوّنا
المتقلب. وفي الأمكنة كلها كان الحبّ يرتقي إلى ينابيعه.
أعرفُ، رأيتُ: الحياة تصعد الى ينابيعها، والصاعقة
تلمّ أدواتها من المقالع المهجورة،
غُبارُ الطلع الأصفر في أشجار الصنوبر يحتشدُ في زوايا الشرفات".
تعاملت الفنانة مع تخطيطاتها ورسوماتها الغرافيكية، مثلما تتعامل مع العمل النحتي "أرسم كما أنحت، وكأن القلم لا يرسم، وإنما يشكّل كتلًا وتهشيرات. والنحت على الحجر يشبه التأليف كما هي الرسوم".
ويأتي تشابه طريقتها في الرسم والنحت، خاصة في أعمالها "نشيد اعتدال"، نتيجة لتشابه المناخ البصري بين مفردات الفنانة النحتية، وبين تعبيرات قصيدة سان جون بيرس بترسيماتها الذهنية وصورها الشعرية، مثل التعبيرات التي تشير إلى الأرض والأم والنهر:
"صوت البشر في البشر، وصوت البرونز في البرونز، وفي مكان من العالم
حيث لم يكن صوتٌ للسماء ولا حارس للعصر،
ولد في العالم طفل لا يعرف أحد سلالته ولا مكانته،
والعبقرية تسقط واثقةً على فصوص جبهةٍ نقية.
أيتها الأرض، أمنا، لا تأبهي لهؤلاء الرّعاع:
العصر مفاجئٌ، العصر حاشدٌ، والحياة تجري مجراها.
ينهض فينا نشيد لم يُعرف منبعهُ، ولن يكون له مصبّ في الموت:
اعتدال ساعةٍ بين الأرض والإنسان".
كما نتعرف على تشاكل المعطيين النحتي والشعري، أو "البصري والذهني" عند السعودي في جلّ نصوصها الشعرية، ومنها:
"وسأنحت لكم حبيبين، دائمًا اثنين:
الذكر والأنثى، الأم الأرض، والابن ـ الجسد
وشكل يعانق شكلًا، حوار ـ صمت
وما يوجد في الحلم يوجد على الأرض
والإنسان نبات حلمه".
السعودي التي استلهمت الروحية الشعرية في منحوتاتها ورسوماتها من قصائد عديد من الشعراء العرب والعالميين الذين تركوا بصمات واضحة في الشعرية المعاصر؛ تؤسس مقارباتها الخاصة بين الشعر النحت، باعتبار أن العبارة الشعرية، كما هي المنحوتة، "تفتح فضاءً لا نهائيًا من الإيحاءات". وهي ترى أن تعبيرات النحت والرسم والشعر تتوالد من بعضها بعضًا، "فالنحت تجسيد للسر والغموض، كأنه جسد للشعر والروح، وهو سفر في اللامرئي".
النحت.. طريقة في الحياة
ستة عقود مرّت على الفنانة منذ أن اختارت طريقها في عالم النحت، لتؤاخي بين الحب والشغف والجمال، فكان النحت طريقتها في ابتداع أبجدية أخرى في الحياة "حين اخترتُ أنْ أكون نحاتة، اخترتُ طريقة في الحياة". فكانت "أمومة الأرض" أولى منحوتاتها التي تشكّلت وولدت في محترف الفنان كولاماريني في باريس عام 1965. وتصف تلك المنحوتة بأنها الأم الحقيقية لكل المنحوتات التي أنجزتها طوال مسيرتها الفنية. وتباعًا، اكتسبت جلّ أعمالها مسحتها الخاصة في التكوين والتعبير، من خلال اختزال الأشكال، واستدارتها، وتمحور تكويناتها حول مركز العمل، ثم امتداده نحو الأطراف، وكذلك "تجريد الجسم البشري وإحالته إلى حضور رمزي".
وحين رأى الروائي والناقد، جبرا إبراهيم جبرا، أن الفنانة تنتمي إلى سلالة الأنباط القدامى "الذين مثلها، طوعوا الصخر لعشقهم، وهي تكاد تكون متفردة بين النحاتين العرب اليوم بسبب تشبثها وتحكمّها بهذا الحجر، بأنواعه كلها، فينصاع لعشقها وإرادتها، لتكونه كل يوم في تكوينات مهما تجرّدت شكلًا فإنها تفيض من امتلاء مداراتها، متحركة أبدًا، وساكنة في الوقت ذاته، سكون عين العاصفة"، فإنه كان يدرك مدى الطاقة التعبيرية الكامنة في مادة الحجر، تلك الطاقة التي كشفت عنها الفنانة بعين الرائي المتبصّر بخفايا الحجر الحسيّة والتعبيرية.
ويواصل جبرا معاينًا ما هو مشترك بين تجربتها الشعرية والنحتية في تقديمه لديوانها الثاني "محيط الحلم"، مبينًا أن "قصائدها تأتي ضربًا من البرهان على مصداقية رؤيتها النحتية، غير أن قصائدها في الوقت نفسه إنما هي وثيقتها اللفظية تجاه تجربتها الآنية المضطربة دائمًا بالحلم الذي لا يبارحها، فهي إن تكتب كنحاتة يسكنها هم تحريك الحجر، وإشاعة الحس والنبض في كل جزء منه، فإنها تكتب أيضًا كشاعرة يسكنها همّ الكلمة التي تجوهر ذلك الحب القصي في الدواخل الذي يحاول أن يدانيه تعبيرًا ما تنحته من هذا الحجر".
تتوفر أعمال السعودي على مفرداتها، خاصة بتكويناتها النحتية وتشكيلاتها على السطح التصويري؛ تقاطع الخطوط الدائرية مع الخطوط المستقيمة يشكّل أحد مفرداتها الرئيسية المشتركة بين النحت والرسم، وتُلخّص السعودي ذلك التقاطع، سواء كان نحتًا، أم رسمًا، بـ"التكوين"، الذي يرجع إلى مبدأ "الكينونة" وصيرورتها التي هي بمثابة حركة داخلية مستمرة في النمو والتشكّل.
وعندما ترى الفنانة، التي تُشْبه سيرة حياتها بسياق منحوتاتها ونسقها، أن لكل منحوتة قصة حية في مخزون ذاكرتها البصرية والذهنية، بدءًا من العثور عليها كمادة خام، وانتهاءً بما ستيصير علية كعمل فني؛ فإنها تدرك أن أسرار تحويل الحجر من هيئته الأولى التي تحتضنها الطبيعة، إلى هيئة أخرى تنتقل به من واقعه (الغفل) إلى واقع جديد، لا يتم إلا من خلال محاورته وإدراجه ضمن ارتسامات وسياقات بصرية وتعبيرية جديدة.
وأيًا كان تآلف السياق البصري في أعمال السعودي مع مفرداته الدالة عليه، يبقى متحفزًّا تجاه التحولات التي تتوالد من السياق نفسه. وأحيانًا ما تكون تلك التحولات المصاحبة لأعمالها، مقدمة لاكتشاف أعمال جديدة تنطلق من سابقاتها، ضمن إملاءات الحوار الذي تنشئه الفنانة مع مادة الحجر في صورتها الأولى، وصولًا إلى تلك الصورة التي تصبح معها عملًا فنيًا يعلن عن حضوره بأكثر من طريقة، وأكثر من إشارة.
في المقابل، لا يغدو الرسم بالحبر الصيني والخط بشكل أساسي في أعمال الفنانة، التي تعلمت التجسيد "لتدخل في الغيب، وسكنت بين مدارات الحلم ومدارات الفعل"، لا يغدو كونه امتدادًا للأشكال النحتية التي تتشابه في روحيتها مع رسوماتها وتخطيطاتها، من دون أن تخفي انحيازها إلى ما هو مجسّد. حيث تصنف النحت إلى جانب الأشغال الشاقة الجميلة، فهو كائن حي "فيما الرسم على الورق هو خلقٌ على الورق فقط".
وحين تتوقف الفنانة عن النحت، وتلجأ إلى الرسم، فإنها لا تلجأ إليه إلا بوصفه المنطقة الأكثر حميمية لتفريغ فائض السرد، أو مجالًا متاحًا أكثر من النحت لمعاينة الشحنة التعبيرية التي قد تجد ملاذها تاليًا في العمل النحتي.
رسمت السعودي، التي عادة ما تكون معارضها مشتملة على التشكيل والنحت، قصائد عديدة لأدونيس، من ضمنها ديوانه "مفرد بصيغة الجمع" الصادر عام 1975، ومجموعة "رقيم البتراء"، كما أنجزت العديد من الرسومات والتحطيطات التي تخصّ قصائد عدد من الشعراء، مثل راشد حسين، ومعين بسيسو، ومحمود درويش، باعتبار أن العمل النحتي "تجسيد للشعر وامتداد له".
من أبرز إنجازاتها منحوتة "النهر"، التي نفذتها من الغرانيت الأزرق عام 1983، وتنتصب حاليًا في وادي صقرة في عمّان، وهي عبارة عن دائرة قطرها نحو متر ونصف المتر، وتقاطع معها أدونيس في جملته الشعرية:
"ثَنيةٌ، تجويفٌ، تقوّسٌ، خطٌ، دائرةٌ، ثقبٌ:
موسيقى،
والنشيدُ الحجر".
تقترب منحوتة "النهر" من دائرة الوحدة والتلاقي، حين تنحني الدائرة في الفضاء على تعرّجات "النهر"، وتطوف معه كتلةً في الفراغ. وهي دائرة، انحناءٌ، وتعرجٌ، واستقامةٌ؛ حيث تدفع ثلاث حركات بترددها الموسيقي ـ البصري، إيقاع النهر إلى الحدود القصوى لنشوة التجريد.
ومن منحوتاتها المعروفة ذات الأحجام الكبيرة التي تتوزع على كل من عمان وباريس وبيروت، "هندسة الروح"، التي أنجزتها عام 1987 من الرخام، بارتفاع ثلاثة أمتار، وكانت هدية الأردن لمعهد العالم العربي في باريس، وأيضًا منحوتة "دائرة إربد" في جامعة العلوم والتكنولوجيا.
وحين تتقصّى السعودي في منجزها النحتي هوية مرئيات العالم، لا تفعل ذلك من أجل أن تسرد ما هو مرئي، بل لتضعه في سياق المواجهة الحادة والنشطة مع العالم ومكنوناته؛ وهي المواجهة التي جعلت منها رائده مجددة في النحت العربي، وحاضرة على الدوام في مناخه المعاصر.
ترحل منى السعودي.. فتودعها دمعة تسيل على خدّ الحجر.
*ناقد وتشكيلي أردني.
غسان مفاضلة
تشكيل
منى السعودي (1945 ـ 2022)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ما إن تعرّفت في طفولتها المبكرة، أواسط خمسينيات القرن الماضي، على فتنة الحجارة المنحوتة والمبعثرة بجوار بيتها في ساحة المدرج الروماني، ومحيط "سبيل الحوريات"، بأقواسه وينابيعه، وسط العاصمة الأردنية عمّان؛ حتّى أخذ حلمها في أن تصبح نحاتة يتسع يومًا بعد يوم مع اتساع أفقها في معاينة ذلك الفيض من تفاصيل المشهد المرافق لها مشيًا على الطريق الترابية، بين البيت والمدرسة.
ومع وقع خطى النحاتة والشاعرة منى السعودي (1945 ـ 2022) المولودة في عمّان، والتي غيبها الموت في بيروت الأسبوع الفائت، بدأت تتشكّل على الطريق الترابية ذاتها، بتعرجاتها ومنسرباتها بين جبال عمّان، أواصر صداقتها الحميمة مع الأرض والشجر والحجر، لتبدأ من هناك رحلة المسافات المفتوحة جهة الحلم والتأمل والخيال.
إنها الجهة التي سترفد لاحقًا تجربتها النحتية الموصولة بمحيطها الناغل بالحركة والتنوع والثراء، بروحٍ متحفزةٍ لمواجهة العالم بأدوات البحث والمغامرة والتجريب. ومن خلال سلسلة من الاستنباطات التدريجية في مجال الرؤية المتبصّرة في محيطها، لم تكفّ الفنانة الدارسة للنحت في المدرسة العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1973، عن معاينة اللامرئي الذي تُبطنه تبصّراتها في موادها النحتية، مدفوعةً برغبة المتصوف في الكشف عن الجوهر الذي سيمنح عملها فرادته في الحضور والتعبير.
النحت والشعر
ومع بيروت، محطتها الأولى التي أنهت منها دراستها الثانوية عام 1963، كان أول لقاء لها مع النحت بتعرفها إلى أعمال النحات ميشيل بصبوص، فأقامت أول معرض لرسوماتها في مقهى "الصحافة"، لتبدأ بعد ذلك، منذ عام 1969، ملامح تجربتها بالنمو والتشكل على نحو عفوي كان محط اهتمام العديد من أصدقائها الفنانين والنقاد والشعراء الذين واكبوا بواكير تجربتها النحتية، مثل خالدة سعيد، وسمير صايغ، ونزيه خاطر، وجوزيف طراب، ومها سلطان.
وإذا كانت المنحوتات الرومانية المتناثرة في محيط طفولتها المبكرة شكّلت المحطات الأولى في تشكيل رؤيتها الفنية بصريًا وتصوريًا، لتشيّد من خلالها إدراكًا حسّيًا مبكرًا لمكنونات عالم خفي وغير مرئي؛ فإن لحمة العلاقة بين النحت والشعر التي ستكتشفها لاحقًا، سوف تشكّل لها سفرًا مفتوحًا تجاه اللامرئي، وفضاءً مشْرعًا على عوالم التخيل والتأمل والإيحاء.
"منذ عام 1969، بدأت ملامح تجربتها بالنمو والتشكل على نحو عفوي كان محط اهتمام العديد من أصدقائها الفنانين والنقاد والشعراء الذين واكبوا بواكير تجربتها النحتية" |
فمع شغفها في مراقبة تلك المنحوتات، ومعاينة سحر جمالها، إلى تلمس جسد الأرض بانحناءاته وامتداداته والتواءاته، إلى تتبع ما يطفو على سطح سيل عمان المجاور لبيتها، من مخلفات يجرها الفيضان، إضافةً إلى سحر انعكاس الأضواء الليلية على سطح الماء؛ بدأت تتعرّف على حسيّتها الشعريّة في إطار صداقتها مع مؤثثات عالمها المرئي الذي جابت معه عوالم غير مرئية اتخذت لها من الشعر جسدًا ومسكنًا.
ومع الشعر، وآفاقه المفتوحة على الحلم والتأؤيل، خاضت السعودي أولى تجاربها المشتركة في المزاوجة بين النحت والرسم مع الشاعر الفرنسي ميشيل بوتور (1926 ـ 2016)، الذي ترجم أدونيس شعره إلى العربية. وتمضي السعودي بعد ذلك في استكناه أواصر العلاقة بين قصائدها ورسوماتها التي جمعتها في ديوانين هما: "محيط الحلم" (1992)، و"رؤيا أولى" (1972).
نشيد اعتدال
استلهمت السعودي، التي تُعدّ رائدة في استلهام الروحية الشعرية ومعاينتها تشكيليًا، قصائد العديد من الشعراء الفرنسيين والعرب، مثل قصيدة "نشيد اعتدال" للشاعر الفرنسيّ سان ـ جون بيرس (1887 ـ 1975)، التي حمل أحد معارضها عنوان القصيدة ذاتها، بالإضافة إلى قصائد محمود درويش، وأدونيس.
"مع الشعر، وآفاقه المفتوحة على الحلم والتأؤيل، خاضت السعودي أولى تجاربها المشتركة في المزاوجة بين النحت والرسم مع الشاعر الفرنسي ميشيل بوتور، الذي ترجم أدونيس شعره إلى العربية" |
ويعود تعرّف السعودي على القصيدة/ المعرض "نشيد اعتدال"، إلى أواسط سبعينيات القرن الماضي، والتي استلهمت منها أعمالًا غرافيكية نفذتها بتقنية الطباعة الحريرية.
الفنانة التي شكلت باريس محطة بارزة في حياتها الفنية تصف قصيدة "نشيد اعتدال" بأنها "شاملة وتجريدية، وفيها نظرة مختصرة للحياة". ومن مقاطع القصيدة، كما ترجمها أدونيس:
"كان رعدّ في ذلك المساء، وعلى الأرض ذات القبور كنت
أسمعُ دويّ ـ هذا الردّ على الإنسان، كان موجزًا، ولم يكن إلا قصفًا.
كان معنا، يا صديقة، وابلُ السماء، وليل الإله كان جوّنا
المتقلب. وفي الأمكنة كلها كان الحبّ يرتقي إلى ينابيعه.
أعرفُ، رأيتُ: الحياة تصعد الى ينابيعها، والصاعقة
تلمّ أدواتها من المقالع المهجورة،
غُبارُ الطلع الأصفر في أشجار الصنوبر يحتشدُ في زوايا الشرفات".
تعاملت الفنانة مع تخطيطاتها ورسوماتها الغرافيكية، مثلما تتعامل مع العمل النحتي "أرسم كما أنحت، وكأن القلم لا يرسم، وإنما يشكّل كتلًا وتهشيرات. والنحت على الحجر يشبه التأليف كما هي الرسوم".
ويأتي تشابه طريقتها في الرسم والنحت، خاصة في أعمالها "نشيد اعتدال"، نتيجة لتشابه المناخ البصري بين مفردات الفنانة النحتية، وبين تعبيرات قصيدة سان جون بيرس بترسيماتها الذهنية وصورها الشعرية، مثل التعبيرات التي تشير إلى الأرض والأم والنهر:
"صوت البشر في البشر، وصوت البرونز في البرونز، وفي مكان من العالم
حيث لم يكن صوتٌ للسماء ولا حارس للعصر،
ولد في العالم طفل لا يعرف أحد سلالته ولا مكانته،
والعبقرية تسقط واثقةً على فصوص جبهةٍ نقية.
أيتها الأرض، أمنا، لا تأبهي لهؤلاء الرّعاع:
العصر مفاجئٌ، العصر حاشدٌ، والحياة تجري مجراها.
ينهض فينا نشيد لم يُعرف منبعهُ، ولن يكون له مصبّ في الموت:
اعتدال ساعةٍ بين الأرض والإنسان".
كما نتعرف على تشاكل المعطيين النحتي والشعري، أو "البصري والذهني" عند السعودي في جلّ نصوصها الشعرية، ومنها:
"وسأنحت لكم حبيبين، دائمًا اثنين:
الذكر والأنثى، الأم الأرض، والابن ـ الجسد
وشكل يعانق شكلًا، حوار ـ صمت
وما يوجد في الحلم يوجد على الأرض
والإنسان نبات حلمه".
السعودي التي استلهمت الروحية الشعرية في منحوتاتها ورسوماتها من قصائد عديد من الشعراء العرب والعالميين الذين تركوا بصمات واضحة في الشعرية المعاصر؛ تؤسس مقارباتها الخاصة بين الشعر النحت، باعتبار أن العبارة الشعرية، كما هي المنحوتة، "تفتح فضاءً لا نهائيًا من الإيحاءات". وهي ترى أن تعبيرات النحت والرسم والشعر تتوالد من بعضها بعضًا، "فالنحت تجسيد للسر والغموض، كأنه جسد للشعر والروح، وهو سفر في اللامرئي".
النحت.. طريقة في الحياة
ستة عقود مرّت على الفنانة منذ أن اختارت طريقها في عالم النحت، لتؤاخي بين الحب والشغف والجمال، فكان النحت طريقتها في ابتداع أبجدية أخرى في الحياة "حين اخترتُ أنْ أكون نحاتة، اخترتُ طريقة في الحياة". فكانت "أمومة الأرض" أولى منحوتاتها التي تشكّلت وولدت في محترف الفنان كولاماريني في باريس عام 1965. وتصف تلك المنحوتة بأنها الأم الحقيقية لكل المنحوتات التي أنجزتها طوال مسيرتها الفنية. وتباعًا، اكتسبت جلّ أعمالها مسحتها الخاصة في التكوين والتعبير، من خلال اختزال الأشكال، واستدارتها، وتمحور تكويناتها حول مركز العمل، ثم امتداده نحو الأطراف، وكذلك "تجريد الجسم البشري وإحالته إلى حضور رمزي".
وحين رأى الروائي والناقد، جبرا إبراهيم جبرا، أن الفنانة تنتمي إلى سلالة الأنباط القدامى "الذين مثلها، طوعوا الصخر لعشقهم، وهي تكاد تكون متفردة بين النحاتين العرب اليوم بسبب تشبثها وتحكمّها بهذا الحجر، بأنواعه كلها، فينصاع لعشقها وإرادتها، لتكونه كل يوم في تكوينات مهما تجرّدت شكلًا فإنها تفيض من امتلاء مداراتها، متحركة أبدًا، وساكنة في الوقت ذاته، سكون عين العاصفة"، فإنه كان يدرك مدى الطاقة التعبيرية الكامنة في مادة الحجر، تلك الطاقة التي كشفت عنها الفنانة بعين الرائي المتبصّر بخفايا الحجر الحسيّة والتعبيرية.
ويواصل جبرا معاينًا ما هو مشترك بين تجربتها الشعرية والنحتية في تقديمه لديوانها الثاني "محيط الحلم"، مبينًا أن "قصائدها تأتي ضربًا من البرهان على مصداقية رؤيتها النحتية، غير أن قصائدها في الوقت نفسه إنما هي وثيقتها اللفظية تجاه تجربتها الآنية المضطربة دائمًا بالحلم الذي لا يبارحها، فهي إن تكتب كنحاتة يسكنها هم تحريك الحجر، وإشاعة الحس والنبض في كل جزء منه، فإنها تكتب أيضًا كشاعرة يسكنها همّ الكلمة التي تجوهر ذلك الحب القصي في الدواخل الذي يحاول أن يدانيه تعبيرًا ما تنحته من هذا الحجر".
""أمومة الأرض" أولى منحوتاتها التي تشكّلت وولدت في محترف الفنان كولاماريني في باريس عام 1965. وتصف تلك المنحوته بأنها الأم الحقيقية لكل المنحوتات التي أنجزتها طوال مسيرتها الفنية" |
تتوفر أعمال السعودي على مفرداتها، خاصة بتكويناتها النحتية وتشكيلاتها على السطح التصويري؛ تقاطع الخطوط الدائرية مع الخطوط المستقيمة يشكّل أحد مفرداتها الرئيسية المشتركة بين النحت والرسم، وتُلخّص السعودي ذلك التقاطع، سواء كان نحتًا، أم رسمًا، بـ"التكوين"، الذي يرجع إلى مبدأ "الكينونة" وصيرورتها التي هي بمثابة حركة داخلية مستمرة في النمو والتشكّل.
وعندما ترى الفنانة، التي تُشْبه سيرة حياتها بسياق منحوتاتها ونسقها، أن لكل منحوتة قصة حية في مخزون ذاكرتها البصرية والذهنية، بدءًا من العثور عليها كمادة خام، وانتهاءً بما ستيصير علية كعمل فني؛ فإنها تدرك أن أسرار تحويل الحجر من هيئته الأولى التي تحتضنها الطبيعة، إلى هيئة أخرى تنتقل به من واقعه (الغفل) إلى واقع جديد، لا يتم إلا من خلال محاورته وإدراجه ضمن ارتسامات وسياقات بصرية وتعبيرية جديدة.
وأيًا كان تآلف السياق البصري في أعمال السعودي مع مفرداته الدالة عليه، يبقى متحفزًّا تجاه التحولات التي تتوالد من السياق نفسه. وأحيانًا ما تكون تلك التحولات المصاحبة لأعمالها، مقدمة لاكتشاف أعمال جديدة تنطلق من سابقاتها، ضمن إملاءات الحوار الذي تنشئه الفنانة مع مادة الحجر في صورتها الأولى، وصولًا إلى تلك الصورة التي تصبح معها عملًا فنيًا يعلن عن حضوره بأكثر من طريقة، وأكثر من إشارة.
في المقابل، لا يغدو الرسم بالحبر الصيني والخط بشكل أساسي في أعمال الفنانة، التي تعلمت التجسيد "لتدخل في الغيب، وسكنت بين مدارات الحلم ومدارات الفعل"، لا يغدو كونه امتدادًا للأشكال النحتية التي تتشابه في روحيتها مع رسوماتها وتخطيطاتها، من دون أن تخفي انحيازها إلى ما هو مجسّد. حيث تصنف النحت إلى جانب الأشغال الشاقة الجميلة، فهو كائن حي "فيما الرسم على الورق هو خلقٌ على الورق فقط".
وحين تتوقف الفنانة عن النحت، وتلجأ إلى الرسم، فإنها لا تلجأ إليه إلا بوصفه المنطقة الأكثر حميمية لتفريغ فائض السرد، أو مجالًا متاحًا أكثر من النحت لمعاينة الشحنة التعبيرية التي قد تجد ملاذها تاليًا في العمل النحتي.
رسمت السعودي، التي عادة ما تكون معارضها مشتملة على التشكيل والنحت، قصائد عديدة لأدونيس، من ضمنها ديوانه "مفرد بصيغة الجمع" الصادر عام 1975، ومجموعة "رقيم البتراء"، كما أنجزت العديد من الرسومات والتحطيطات التي تخصّ قصائد عدد من الشعراء، مثل راشد حسين، ومعين بسيسو، ومحمود درويش، باعتبار أن العمل النحتي "تجسيد للشعر وامتداد له".
من أبرز إنجازاتها منحوتة "النهر"، التي نفذتها من الغرانيت الأزرق عام 1983، وتنتصب حاليًا في وادي صقرة في عمّان، وهي عبارة عن دائرة قطرها نحو متر ونصف المتر، وتقاطع معها أدونيس في جملته الشعرية:
"ثَنيةٌ، تجويفٌ، تقوّسٌ، خطٌ، دائرةٌ، ثقبٌ:
موسيقى،
والنشيدُ الحجر".
تقترب منحوتة "النهر" من دائرة الوحدة والتلاقي، حين تنحني الدائرة في الفضاء على تعرّجات "النهر"، وتطوف معه كتلةً في الفراغ. وهي دائرة، انحناءٌ، وتعرجٌ، واستقامةٌ؛ حيث تدفع ثلاث حركات بترددها الموسيقي ـ البصري، إيقاع النهر إلى الحدود القصوى لنشوة التجريد.
ومن منحوتاتها المعروفة ذات الأحجام الكبيرة التي تتوزع على كل من عمان وباريس وبيروت، "هندسة الروح"، التي أنجزتها عام 1987 من الرخام، بارتفاع ثلاثة أمتار، وكانت هدية الأردن لمعهد العالم العربي في باريس، وأيضًا منحوتة "دائرة إربد" في جامعة العلوم والتكنولوجيا.
وحين تتقصّى السعودي في منجزها النحتي هوية مرئيات العالم، لا تفعل ذلك من أجل أن تسرد ما هو مرئي، بل لتضعه في سياق المواجهة الحادة والنشطة مع العالم ومكنوناته؛ وهي المواجهة التي جعلت منها رائده مجددة في النحت العربي، وحاضرة على الدوام في مناخه المعاصر.
ترحل منى السعودي.. فتودعها دمعة تسيل على خدّ الحجر.
*ناقد وتشكيلي أردني.