الكتب في الفنون.. حضور جمالي
تغريد عبد العال
تشكيل
"المكتبة"، يعقوب لورنس
شارك هذا المقال
حجم الخط
تأخذني صور الكتب الجميلة وعناوينها ومكانها في المكتبة لأراها أكثر من مكان بل كعالم خاص ومختلف. وربما تكون جملة بورخيس: "أتخيل الجنة على شكل مكتبة" هي ما يخطر ببالي عندما أتنقل من مكتبة إلى أخرى بحثًا عن كتاب. تحضر الكتب أيضًا في الروايات وفي الكتب، لتذكرنا بذلك فلا أنسى روايات كثيرة تتحدث عن الكتب: "مكتبة ساحة الأعشاب" لإيريك دو كيرميل و"الكتب التي التهمت والدي" لأفونسو كروش و"القارئ الأخير" لريكاردو بيجيليا وغيرها الكثير الكثير من الكتب حول القراءة، ولا أنسى كتاب مانغويل "فن القراءة" وكتبه الأخرى عن الكتب، وذلك الفيلم الذي لا ينسى "القارئ".
أبحث هنا عن لوحات تكون الكتب بداخلها عوالم جمالية وفنية. فكيف ظهرت في تاريخ الفن؟ هل كانت مجرد طبيعة صامتة؟ أم كان حضورها في أيدي قراء عشاق لها؟ أم كان هناك حضور لها كجزء من حياة الفنان؟ هنا نظرة إلى اللوحات وتختار بعضًا منها، أو تلك التي تحمل هذه الأفكار أو ربما تجيب عن هذه الأسئلة.
تحضر الكتب في الطبيعة الصامتة كجمال خاص، أحيانًا بقرب شمعة أو برتقالة أو أشياء أخرى. في لوحة للفنان الفرنسي هنري ماتيس بعنوان "طبيعة صامتة مع كتب وشمعة" تتراكم الكتب مع شمعة صغيرة. نرى هنا الصمت بوجود هذه الكتب، ورغم وجودها مع الأشياء إلا أنها تكتسب صفات حية، ورسمها مغلقة هكذا يوحي بعالم ما داخلها، شخصيات وحيوات وتجارب. وتبدو في هذه اللوحة قديمة ربما للإشارة إلى أنها مهمة جدًا. قد يكون وجودها بجانب البرتقالة أو الشمعة كرمز للمعرفة أو مجرد وجود صامت يعكس روح الحياة المختبئة في القصص والحكايا والقصائد.
ولكن تخبرنا لوحة "أكوام من روايات فرنسية" للفنان الهولندي فان غوخ الكثير عن علاقته بالكتب، فيبدو أنه كان عاشقًا للأدب الفرنسي من خلال عنوان اللوحة والتي تقترب من أسلوب الطبيعة الصامتة. كان فان غوغ قارئًا نهمًا وقد وصفته ماريلا جوزوني في كتابها "كتب فان غوخ والكتاب الذين ألهموه" أنه دودة كتب شرهة. قال فان غوخ لأخيه ثيو في رسالة له: "إسمع يا ثيو، أي رجل هذا كان ميليه؟ لقد ألهمني عملًا كبيرًا منذ قرأت الدخان الذي استعرته من دي بوك. إنه يشغلني جدًا حتى إني أستيقظ في الليل وأشعل المصباح وأستأنف القراءة. إليك بعض الكلمات التي أدهشتني وأثارتني: الفن معركة، عليك أن تفني حياتك في الفن". كان فان غوخ معجبًا أيضًا بإميل زولا وغي دو موباسان وكتاب آخرين كتشارلز ديكنز. ولكن غي دو موباسان كان "ضحكته" كما عبّر مرة: "أنا بحاجة قبل كل شيء للعثور على ضحكة، لقد وجدت ذلك في غي دو موباسان".
وفي رسالة أخرى يقول فان غوخ لثيو: "قراءة الكتب تشبه النظر إلى اللوحات، بلا شك، وبلا إرباك، وبتأكيد على المرء أن يجد الجميل في كل شيء جميل". تبدو الكتب مبعثرة في لوحته وكأن الفنان مشغول بأن يجعلنا نرى جمالها بما هو داخلها وكأنها حياة علينا اكتشافها. إنها ربما تلك الحياة الأخرى التي كانت تجعله يصر على أن يعيش حياته كفنان ويواصل تلك المعركة.
في لوحة يعقوب لورنس، الفنان الأميركي الأفريقي، نرى المكتبة كمكان لاكتشاف التراث والمعرفة بالأصول كما كانت المكتبة في حياته الشخصية. هناك كان يستعير وهو شاب الكتب ليعرف أبطال الأميركيين من أصل أفريقي مثله، وفي لوحته "المكتبة" تحضر الجماعة وكأن المكتبة ليست فقط مكانا فرديًا بل مفتوحًا أمام العامة. يبدو كل شخص مشغولًا بكتاب ما وكأنها دعوة خفية للعودة الى هذا المكان الذي تختبئ فيه الحكايات عن الأصل والتراث. هنا احتفاء بالمكتبة ككل، ربما المكتبة العامة وكأنها جزء من أرشيف وحكاية ووطن لنا. هناك لوحات كثيرة عن المكتبات كمكان وكذاكرة، تجعلنا ننظر إلى الكتب وهي تصطف في رفوف المكتبة ولا يظهر سوى عناوينها، ولكن الجميل هنا هو حضور قراء كثيرين حولنا مما يجعل المكان أشبه بعزلة جماعية.
أما ارتباط المرأة بالكتاب، فيحضر كثيرًا في تاريخ الفن، فتظهر المرأة وحيدة مع كتاب، هناك لوحات كثيرة تحمل عنوان: امرأة تقرأ، وبعض اللوحات تتشابه. وجدت لوحة "المقطورة سي" للفنان الأميركي إدوارد هوبر، الذي صوّر قارئة في القطار، تقرأ لوحدها، منشغلة بالكتاب ولا تنظر من النافذة، فتطرح هذه اللوحة أمامي سؤالًا عن صورة المرأة القارئة في الأدب. في هذه اللوحة تبدو القراءة صورة أخرى للعزلة التي كان هوبر دائمًا يرسم وجوهها في لوحاته.
في كتابه "القارئ الأخير" يتوقف ريكاردو بيجيليا أمام نصوص تولستوي وجيمس جويس وكافكا وبورخيس ليلتقط صورًا للقارئ، فيتوقف بيجيليا أمام المشهد الشهير لآنا كارنينا وهي تقرأ كتابًا في قطار، ثمة رغبة في الرواية في تثبيت صورة المرأة بصفتها مستهلكًا لفن السرد. كان تولستوي منبهرا في القطار، ولكن هناك معنى أبعد للقراءة في القطار لأنها رحلة داخل رحلة، هنا تتوغل القارئة وتكتشف تجربة التوازي بين الرحلتين. فالقطار مكان أسطوري، إنه التطور والصناعة والماكينة، يفتح بابا على السرعة، على المسافات والجغرافيا، إنها قراءة في الرحلة وداخلها. يشير بيجيليا إلى أن رواية تولستوي تشيد صورة لما يمكن أن نسميه قارئة الرواية التي تفك شيفرة حياتها من خلال الروايات الخيالية التي ترى نموذج تجربة واقعية مميزة. هكذا يتجلى التوتر بين التجربة الحياتية الخاصة وتجربة القراءة العظيمة. كانت النساء يقرأن في الأدب لكي يخرجن من استياء الحياة من وجهة نظر الرجال الذين كتبوا القصص. وفي الروايات كان الخروج من هذا الاستياء يتحقق عبر الخيانة الزوجية وفي مواجهة الاستياء، كان النساء يقرأن (أنا كارنينا، مدام بوفاري ومولي بلوم).
هناك قارئ آخر لطالما فكرت به في لوحة غسان كنفاني "القارئ"، كنت دائمًا أرى فيها صورة غسان كقارئ. كانت هذه اللوحة هي إحدى سبع عشرة لوحة وثقت لكنفاني. في اللوحة تطل نافذة كبيرة جدا وعالية، وتبدو السماء من خلالها زرقاء، بينما الجدار يبدو أخضر. يجلس القارئ على كرسي لكنه منغمس بالقراءة ولا ينظر إلينا ويبدو الكتاب كبيرًا جدًا بين يديه. هناك لوحة أخرى للفنان السوري لؤي كيالي حيث يجلس القارئ بشكل جانبي وينظر في الكتب ولا يظهر سوى طرف الكرسي أمامنا. هنا كما في لوحة كنفاني يبدو القارئ المنشغل بالقراءة صورة لكل قارئ حقيقي يذهب في عالم الكتاب ويتركنا نراقبه بصمت. تختلف إذن طريقة جلوس القارئ في هذه اللوحات وكأنها أيضًا إشارة لجمالية الجلوس والنظر. فهناك لوحات كثيرة في تاريخ الفن تعكس طريقة جلوس مختلفة وفي مكان مختلف، على الكرسي، على السرير، في القطار، وفي الطبيعة أيضًا.
ربما تكون هناك صور أخرى، يظهر فيها الكتاب والقارئ في لغة جمالية تقترح معنى آخر، لكن ربما تقول هذه اللوحات كما قال الشاعر الفرنسي آلان بوسكيه في إحدى شذراته: الوجود كتاب نقرأه بلا توقف وسرعان ما نكتشف أنه كتب في لغة أجنبية لا يمكن فهمها أبدًا. فربما يكون الوجود أو الواقع كتاب آخر مفتوح أمامنا كما الكتاب نحاول أن نرى معنى أن نكون قراء وبشرًا نريد فهم وجودنا في هذا العالم.
تغريد عبد العال
تشكيل
"المكتبة"، يعقوب لورنس
شارك هذا المقال
حجم الخط
تأخذني صور الكتب الجميلة وعناوينها ومكانها في المكتبة لأراها أكثر من مكان بل كعالم خاص ومختلف. وربما تكون جملة بورخيس: "أتخيل الجنة على شكل مكتبة" هي ما يخطر ببالي عندما أتنقل من مكتبة إلى أخرى بحثًا عن كتاب. تحضر الكتب أيضًا في الروايات وفي الكتب، لتذكرنا بذلك فلا أنسى روايات كثيرة تتحدث عن الكتب: "مكتبة ساحة الأعشاب" لإيريك دو كيرميل و"الكتب التي التهمت والدي" لأفونسو كروش و"القارئ الأخير" لريكاردو بيجيليا وغيرها الكثير الكثير من الكتب حول القراءة، ولا أنسى كتاب مانغويل "فن القراءة" وكتبه الأخرى عن الكتب، وذلك الفيلم الذي لا ينسى "القارئ".
أبحث هنا عن لوحات تكون الكتب بداخلها عوالم جمالية وفنية. فكيف ظهرت في تاريخ الفن؟ هل كانت مجرد طبيعة صامتة؟ أم كان حضورها في أيدي قراء عشاق لها؟ أم كان هناك حضور لها كجزء من حياة الفنان؟ هنا نظرة إلى اللوحات وتختار بعضًا منها، أو تلك التي تحمل هذه الأفكار أو ربما تجيب عن هذه الأسئلة.
"تخبرنا لوحة "أكوام من روايات فرنسية" للفنان الهولندي فان غوخ الكثير عن علاقته بالكتب، فيبدو أنه كان عاشقًا للأدب الفرنسي من خلال عنوان اللوحة والتي تقترب من أسلوب الطبيعة الصامتة" |
ولكن تخبرنا لوحة "أكوام من روايات فرنسية" للفنان الهولندي فان غوخ الكثير عن علاقته بالكتب، فيبدو أنه كان عاشقًا للأدب الفرنسي من خلال عنوان اللوحة والتي تقترب من أسلوب الطبيعة الصامتة. كان فان غوغ قارئًا نهمًا وقد وصفته ماريلا جوزوني في كتابها "كتب فان غوخ والكتاب الذين ألهموه" أنه دودة كتب شرهة. قال فان غوخ لأخيه ثيو في رسالة له: "إسمع يا ثيو، أي رجل هذا كان ميليه؟ لقد ألهمني عملًا كبيرًا منذ قرأت الدخان الذي استعرته من دي بوك. إنه يشغلني جدًا حتى إني أستيقظ في الليل وأشعل المصباح وأستأنف القراءة. إليك بعض الكلمات التي أدهشتني وأثارتني: الفن معركة، عليك أن تفني حياتك في الفن". كان فان غوخ معجبًا أيضًا بإميل زولا وغي دو موباسان وكتاب آخرين كتشارلز ديكنز. ولكن غي دو موباسان كان "ضحكته" كما عبّر مرة: "أنا بحاجة قبل كل شيء للعثور على ضحكة، لقد وجدت ذلك في غي دو موباسان".
وفي رسالة أخرى يقول فان غوخ لثيو: "قراءة الكتب تشبه النظر إلى اللوحات، بلا شك، وبلا إرباك، وبتأكيد على المرء أن يجد الجميل في كل شيء جميل". تبدو الكتب مبعثرة في لوحته وكأن الفنان مشغول بأن يجعلنا نرى جمالها بما هو داخلها وكأنها حياة علينا اكتشافها. إنها ربما تلك الحياة الأخرى التي كانت تجعله يصر على أن يعيش حياته كفنان ويواصل تلك المعركة.
"في لوحة يعقوب لورنس، الفنان الأميركي الأفريقي، نرى المكتبة كمكان لاكتشاف التراث والمعرفة بالأصول كما كانت المكتبة في حياته الشخصية" |
في لوحة يعقوب لورنس، الفنان الأميركي الأفريقي، نرى المكتبة كمكان لاكتشاف التراث والمعرفة بالأصول كما كانت المكتبة في حياته الشخصية. هناك كان يستعير وهو شاب الكتب ليعرف أبطال الأميركيين من أصل أفريقي مثله، وفي لوحته "المكتبة" تحضر الجماعة وكأن المكتبة ليست فقط مكانا فرديًا بل مفتوحًا أمام العامة. يبدو كل شخص مشغولًا بكتاب ما وكأنها دعوة خفية للعودة الى هذا المكان الذي تختبئ فيه الحكايات عن الأصل والتراث. هنا احتفاء بالمكتبة ككل، ربما المكتبة العامة وكأنها جزء من أرشيف وحكاية ووطن لنا. هناك لوحات كثيرة عن المكتبات كمكان وكذاكرة، تجعلنا ننظر إلى الكتب وهي تصطف في رفوف المكتبة ولا يظهر سوى عناوينها، ولكن الجميل هنا هو حضور قراء كثيرين حولنا مما يجعل المكان أشبه بعزلة جماعية.
أما ارتباط المرأة بالكتاب، فيحضر كثيرًا في تاريخ الفن، فتظهر المرأة وحيدة مع كتاب، هناك لوحات كثيرة تحمل عنوان: امرأة تقرأ، وبعض اللوحات تتشابه. وجدت لوحة "المقطورة سي" للفنان الأميركي إدوارد هوبر، الذي صوّر قارئة في القطار، تقرأ لوحدها، منشغلة بالكتاب ولا تنظر من النافذة، فتطرح هذه اللوحة أمامي سؤالًا عن صورة المرأة القارئة في الأدب. في هذه اللوحة تبدو القراءة صورة أخرى للعزلة التي كان هوبر دائمًا يرسم وجوهها في لوحاته.
"وجدت لوحة "المقطورة سي" للفنان الأميركي إدوارد هوبر، الذي صوّر قارئة في القطار، تقرأ لوحدها، منشغلة بالكتاب ولا تنظر من النافذة، فتطرح هذه اللوحة سؤالًا عن صورة المرأة القارئة في الأدب، وتبدو القراءة صورة أخرى للعزلة التي كان هوبر دائمًا يرسم وجوهها في لوحاته" |
هناك قارئ آخر لطالما فكرت به في لوحة غسان كنفاني "القارئ"، كنت دائمًا أرى فيها صورة غسان كقارئ. كانت هذه اللوحة هي إحدى سبع عشرة لوحة وثقت لكنفاني. في اللوحة تطل نافذة كبيرة جدا وعالية، وتبدو السماء من خلالها زرقاء، بينما الجدار يبدو أخضر. يجلس القارئ على كرسي لكنه منغمس بالقراءة ولا ينظر إلينا ويبدو الكتاب كبيرًا جدًا بين يديه. هناك لوحة أخرى للفنان السوري لؤي كيالي حيث يجلس القارئ بشكل جانبي وينظر في الكتب ولا يظهر سوى طرف الكرسي أمامنا. هنا كما في لوحة كنفاني يبدو القارئ المنشغل بالقراءة صورة لكل قارئ حقيقي يذهب في عالم الكتاب ويتركنا نراقبه بصمت. تختلف إذن طريقة جلوس القارئ في هذه اللوحات وكأنها أيضًا إشارة لجمالية الجلوس والنظر. فهناك لوحات كثيرة في تاريخ الفن تعكس طريقة جلوس مختلفة وفي مكان مختلف، على الكرسي، على السرير، في القطار، وفي الطبيعة أيضًا.
"لوحة غسان كنفاني "القارئ" هي إحدى سبع عشرة لوحة وثقت لكنفاني. في اللوحة يجلس القارئ على كرسي لكنه منغمس بالقراءة ولا ينظر إلينا ويبدو الكتاب كبيرًا جدًا بين يديه" |