قراءة في لوحات فاطمة إسبر.. خرائط لتشظّي الجسد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قراءة في لوحات فاطمة إسبر.. خرائط لتشظّي الجسد



    قراءة في لوحات فاطمة إسبر.. خرائط لتشظّي الجسد
    وسام جبران
    =
    تشكيل
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    إن المُسلَّمة الأساسيّة التي يرتكز عليها كلٌّ من علم التأويل والفلسفة التحليليّة النفسيّة هي "وحدة الذات المُتكلّمة"، وفي الفنون البصريّة، حيث الضّوء أبجديّة البصريّ، يمكننا أن نسمّيها "وحدة الذات المُضيئة" التي تمثّل، للوهلة الأولى، حالة إنكارٍ لتشوّه هذه "الذات" أو تشظّيها.

    قراءتنا للوحات الفنانة التشكيلية السوريّة فاطمة إسبر تتركز في قراءة مجموعة مختارة من لوحاتها الزيتيّة التي رسمتها بين الأعوام 2019 و2021، وتعالج "هيئاتٍ بشريّةٍ" (Human figures) متشظيّة، جميعها بلا عنوان.
    "الذات/ الجسدُ في لوحات فاطمة إسبر تنطق بأبجديّة الضّوء وخياراته اللونيّة المتباينة، وحين يكون الضّوء أبجديّة اللغة البصريّة، يصبح سؤال الزمن وطبيعته حاضرًا بقوة"
    الذات/ الجسدُ في لوحات فاطمة إسبر تنطق بأبجديّة الضّوء وخياراته اللونيّة المتباينة، وحين يكون الضّوء أبجديّة اللغة البصريّة، يصبح سؤال الزمن وطبيعته حاضرًا بقوة. فهل ننظر إلى ما يثبّته الضوء من خياراتٍ لونيّة وخطيّة ونقرأ اللوحةَ عبر هذا الثابت اللونيّ، أم ننظر بلغة الضّوء ذاتها إلى خيارات اللون، حيث لا ثبات ولا يقين، بل وأكثر من ذلك، حيث لا وجود للزمن بوصفه حالةً مُقيمةً في المكان؟ إنسانيًّا، وكما تنطق أجسادُ فاطمة إسبر المُتشظّية، يصير سؤال الزمن وتداعياته على الوجود الإنسانيّ/ الجسديّ أكثر صعوبةً، وأكثر قَلقًا، حين تنتشر الألوان والخطوط مع خيارات الضوء بوصفه "اللا- زمن" الملوّن (Chromatic)، فتحدّد مساراتها عبر خياراتٍ ضوئيّة تتراوح بالدرجة الأولى بين الأحمر والأزرق، وتدرّجاتهما أو اتحادهما الليلكيّ، الذي يُثير ويُنوّع على جدلية العُمق الكونيّ (الأزرق) مع العُمق الجسديّ الدّامي. إذن، كيف للجسد/ الإنسان أن يُفصح عن ذاته بوصفه "وحدة متكلّمة" داخل جدليّات هذه التدرّجات الملوّنة؟ أو بكلماتٍ أخرى، كيف نفهم الجدليّات بوصفها لغاتِ ضوءٍ يختفي فيها ومعها كلّ مفهومٍ مُقيمٍ وثابتٍ ويقينيٍّ للزمن، وبالتالي للوجود الإنسانيّ بكليّته؟ والأهم، كيف يمكن للزمن ألا يكون انتشاريًّا حين نرى إلى الإنسان بوصفه وحدةً كاملةً تجمعه بوصفه حاضرًا "يمضي" إلى مُستقبله؛ فكيف يجتمع الماضي والمُستقبل في الحاضر الإنساني إن لم يكن بالمعنى "الأخلاقيّ" وحده، حين يُفصح عن ذاته عبر التئام الذاكرة والضمير والحلم؟

    من أعمال فاطمة إسبر



    الإفصاح فعلُ تشظٍّ

    حين ننظر من الخارج، إلى الهيئات الجسديّة في لوحات فاطمة إسبر، فإننا نشاهد أنواعًا من التشظيّات الجسديّة التي تتراوح بين حضور الواحد المتعدّد أو الواحد المثنّى أو الواحد المُنتشر أو الواحد الغائب، إلا أن هذا "الواحد" المشترك يظلّ حاضرًا بوصفه تلك الوحدة المُفصِحة عن ذاتها بقدر ما تسكت عن ذاتها؛ إننا هنا أمام وضعيّةٍ فائقةٍ (super position) للجسد، والتي لا تقول "كلَّ شيء" إلا بقدر ما تسكت عن "كلِّ شيء"، تجعل الجسدَ منتشرًا في الفضاء الكونيّ اللا- متناهي في وجوده المكاني والزمانيّ، وحيث يصير الإفصاح، كلّ إفصاحٍ، واعٍ أو منفلت، هو بمثابة انهيار وتشظٍّ لهذه الوضعيّة الانتشاريّة الفائقة.

    فما الذي تُفصح عنه هذا الأجسادُ/ الهيئات في تشظّيها، بلغة الضوء، وما الذي لا تُفصح عنه، وكيف يكون حضورها أو غيابها في الزمان خارج كلّ زمانٍ بعينه؟ والأهم من هذا كله هو سؤال حريّة الإرادة حين ننظر إلى الهيئات البشريّة المتشظيّة في لوحات فاطمة إسبر، وما معنى حريّة الإرادة في حضور الزمن أو غيابه!
    "حين ننظر من الخارج إلى الهيئات الجسديّة في لوحات فاطمة إسبر، فإننا نشاهد أنواعًا من التشظيّات الجسديّة التي تتراوح بين حضور الواحد المتعدّد أو الواحد المثنّى أو الواحد المُنتشر أو الواحد الغائب، إلا أن هذا "الواحد" المشترك يظلّ حاضرًا بوصفه تلك الوحدة المُفصِحة عن ذاتها بقدر ما تسكت عن ذاتها"
    في قراءتي الخاصّة للوحات فاطمة إسبر، لا وجود للإنسان، بوصفه كينونةً جسديّة، خارج خارطتين أساسيّتين لقلَقه وضياعه وتشظّيه. تتمظهر الخارطة الأولى من خلال انهيار هذه "الوحدة" عبر إفصاحها الذي يعلن بدءَ الإنسان/ الجسد بوصفه واحدًا مثنّى (نستعير التعبير من عنوان كتاب للناقدة خالدة سعيد "في البدء كان المثنى"). هذه التثنية التي تثير شهيّة التأويلات الجندريّة من جهة، والتحليل- نفسيّة من جهةٍ ثانية. إلا أن لوحات فاطمة إسبر، وبقراءة الخارطة الثانية، تذهب خطوةً أبعد من هذه التثنيات التي قد تقود إلى كوجيتواتٍ ديكارتيّة استدلاليّةٍ، عبر الإمعان في التشظّي الذي يضعنا أمام جدليّات أوسع، تتخطى جدليّة الحياة/ الموت، أو الوجود/ العدم، نحو تشظٍّ ينزع، في عودٍ أبديّ، إلى وضعيته الفائقة التي يصير فيها إلى وحدةٍ منتشرةٍ خارج أيٍّ تعيينٍ مُغلقٍ للمكان والزمان، وخارج الإفصاح بوصفه حالةً زمنيّةً أنتروبيّة، أو تشظٍّ هو افتضاح لكبتٍ يتمظهر في أثرٍ يدلّ عليه.

    فاطمة إسبر ومن أعمالها



    ليلكيّة الأحمر والأزرق أو "الرُّعب المُقدّس"

    للأجساد في لوحات إسبر هندسةٌ لا تتوارى خلف آليات التجريد أو التمييع، لكنّها هنا/ الآن، هندسيًّا، كي تتشظّى، وهي تتشظّى لأنّ التشظّي هو لسان حالها الوجوديّ القَلِق الذي يحتمل قراءاتٍ سوسيولوجية وسياسية لهذا التجسّد المتشتّت في سياقه الإنسانيّ أولًا، لكن العربيّ والسوريّ كذلك، وضمن المخاضات الراهنة التي يمرّ بها العالم العربي، والشعب السوري، حيث تنتمي فاطمة إسبر، ولم لا! إلا أننا، ورغم مشروعيّة قراءة اللوحات قراءة تخضع للشروط الظرفيّة المؤثرة في الفضاءين العربي والسوري، سوف نركز في قراءتنا على المشترك الإنساني وحده.

    يُحيلنا الأحمرُ الدّامي إلى الإنسان/ الجسد، مُقشّرًا عاريًا حتى من جلده ومن تماسكه الهيكليّ؛ الأحمر الدّامي في ميوعته وجريانه، في نبضه الحيّ وفي نزيفه القاتل، في مُماهاته مع الخطيئة ومع الأضحية التي يُراد تدميرها في آنٍ معًا، ولا لشيء سوى تدمير الخطيئة ذاتها، على الطريقة المسيحيّة. لكن فاطمة إسبر، إذ تضعنا وجهًا لوجه أمام هذا الانبثاق الضوئيّ الدامي، فهي لا تدعونا إلى "الانتقام" إلا بقدر ما تدعونا إلى التضحية؛ أي تدمير الجريمة ذاتها التي يرتكبها الإنسان بحق الإنسان. لكن إسبر لا تتركنا مع الأحمر وحده، بل تستحضر الثيمات نفسها بالأزرق "السّماويّ" العميق الذي يتدرّج بين الاتّساع والتّغامق. إذن، وإلى جانب التّدنيس الذي ينتهك الجسدَ الإنسانيّ الدّامي، ثمّة انبثاقٌ لونيٌّ آخرُ ينفتح أمام الجسد الكوني في عمقه الأزرق، لا لشيء سوى أن يؤكّد على التمييز القاطع بين الإنسانيّ/ الجسديّ، و "الإلهيّ"/ ما بعد الجسديّ.
    "تضعنا فاطمة إسبر وجهًا لوجه أمام هذا الانبثاق الضوئيّ الدامي، فهي لا تدعونا إلى "الانتقام" إلا بقدر ما تدعونا إلى التضحية؛ أي تدمير الجريمة ذاتها التي يرتكبها الإنسان بحق الإنسان"
    لا يجد تشظّي النّفسِ البشريّة، بوصفها جسدًا وفكرةً، مسلكًا له خارج خارطة فعل التّدنيس، من حيث هو "نشازٌ/ تنافرٌ" (Dissonance) حتميٌّ في هارمونيا اللوحة عند فاطمة إسبر. إلا أن هذا النشّاز، يُصبح شرطًا مُلزِمًا للمرئيّ الذي يُفسح لنا، وحده، إنشاء علاقةٍ مع ما هو غير مرئيّ؛ إنه شكلٌ من أشكال الوعي الذي يضيق بذاته جانحًا إلى فضّ غشائه خارجًا عن وعيه عبر مساراتٍ من التشظّي التي تترك للرائي مساحةً واسعةً للالتقاء بلا-وعيه، أو مساحةً تشكّل آخرَهُ الذي لم يُفصح عن نفسه بعد. ثمة "خرابٌ" نفسيٌّ ووجوديٌّ في هذه المخاضات تحيل لوحات إسبر إلى ما يشبه طقوس التطهّر عند الشعوب البدائيّة، والتي لا يُمكن فهمها إلا بوصفها طقوسًا تحيل إلى "تجاذب النّقائض" داخل النفس البشريّة؛ بمعنى أن التشظّي الحادث بفعل الانتهاك والتدنيس، لا يثير الذّعرَ إلا بقدر ما يثير الرّغبة كذلك. هذا الذي يُشبه ما أسماه فرويد "الرّعب المقدّس" عندما تحدّث عن "المحرّم" (Tabu).

    ربما علينا، وأقول ربما، أن نبحث في "الليلكيّ"، عند فاطمة إسبر، عن هذا التمازج الذي يشبه "الرعب المقدّس" الذي يتجلّى فيه التّناشز الوجوديّ القلق بين نظامٍ رمزيٍّ سُلطويٍّ نَسَقيٍّ يقينيٍّ، ناطقٍ ومُرعب، من جهةٍ، وبين وضعيّةٍ فائقةٍ لا-يقينيّةٍ، خارجةٍ عن الرّمز والمنطوق، صامتةٍ رغبويّةٍ، من جهةٍ ثانية.






    الدّاكن المُنبعث

    الأحمر الدّاكن في لوحات إسبر ليس لافتةً تقول لك "لا تقتل!"؛ إنها ليست دعوة للأخلاق، لأن "الأنتَ" في عبارة "لا تقتل" ليست عبارةً تبادليّة، كما انتبه مصطفى صفوان إلى ذلك من قبل. لكن، حين يمتلئ الوعي بحضور الذات يختفي الزمن المتعيّن، وتتمثّل الذات ذاتَها كأنها تكلم نفسها ضمن حالتها الفائقة المنتشرة في الزمان والوجود في تماهٍ كليٍّ مع الكونيّ. فهل الليلكيّ هو هذه الوضعيّة الفائقة التي يذوب فيها زمن الأحمر الدّامي/ الجسمانيّ في زمن الأزرق الكونيّ/ "الإلهيّ"، حيث لا زمن، ولا حزن، ولا صراخ، ولا وجع! أم أننا أمام تحليل من نوع آخر يرى إلى التمثّلات، لا بوصفها مقتصرةً على ما هو "رمزيٌّ" أو خاضعٌ لمنطق اللغة والإفصاح والسيطرة وتشكيل الوعي المتماسك، ولا إلى "أنت" هو من نِتاج الذات عينها، تتخاطب من خلاله مع نفسها، بل، تجد فاطمة إسبر في أحمرها الدّاكن عنوانًا للمرحلة التي تمرّ بها البشريّة، والحالة السوريّة قد تكون أعلى تجلّياتها، حيث يصير الأحمر الداكن مدخلًا للخلاص بوصفه تشظّيًا وانتشارًا في الأزمنة، عبر تحوّلاتٍ لا نهائيّة للضوء/ اللون وتعيد انبعاثه هو بوصفه آخرَ.


يعمل...
X