حكايا مصورة: الخروج من شرق المتوسط
أسعد عرابي
=
تشكيل
الشاعر نوري الجراح والفنان أسعد فرزات
شارك هذا المقال
حجم الخط
افتتح مساء العاشر من شهر آذار/ مارس الحالي معرض يمثل حدثًا بارزًا بعنوان "الخروج من شرق المتوسط"، مستمرًا حتى الخامس عشر من شهر نيسان/ أبريل 2022م، وذلك في غاليري أوروبيا الباريسية المعروفة بجانب صرح الأنفاليد، بإدارة خلدون زريق وزوجته ندى كرامة، وهما مثقفان جامعيان من أصل سوري، ويعرضان بصيغة محترفة لأبرز الفنانين السوريين في الشتات وفي الداخل، إلى جانب نخبة من الفنانين العرب والأجانب.
المعرض الحالي يدعو العابر (من شارع سيجور المطلة عليه الغاليري) للتوقف أمام واجهته الزجاجية الرحبة والمثيرة لتأمل لوحة الفنان المنجزة بألوان أكريليك على قماش بقياس مربع (130 × 130) سم. يحتوي المعرض على 12 لوحة، 6 لوحات بقياس (130 × 130) سم، 4 لوحات بقياس (50 × 50) سم ولوحتان بقياس (80 × 100) سم.
المعرض ثنائي يتحالف فيه بصيغة نبيلة اللون والكلمة. يستلهم المصور أسعد فرزات لآلئه التعبيرية المرسومة من ثنايا قصيدة الشاعر نوري الجراح، التي لامست ونكأت الجرح السوري، والنزوح العمودي إلى بواطن المتوسط الذي تحول إلى مدافن للبراءة، من الأطفال وسواهم، عنوانها "الخروج من شرق المتوسط"، وأضيف إلى عنوان المعرض "حكايا مصورة".
يشرح شاعرنا، نوري الجراح، كيف تحول مضمون القصيدة إلى لوحة من خلال نص تحية إلى أسعد فرزات، نشره على فيسبوك، اجتزأت من ختامه هذا التفصيل: "الخروج من المتوسط" التي مسرحتها ريشة الفنان أسعد فرزات برهافة تليق بلوعة الكلمة هي القصيدة الأكثر زرقة في وداع المتوسط، والعبور الغسقي نحو أرض وراء الأرض، بعيدًا عن مشرق الشمس، وعن غسيل أمهات لطخته حمرة الغروب. الألوان الصاخبة في لوحة الفنان هي الصرخة نفسها التي تركها الغريق في شراع القصيدة".
لا شك في أن اختيار هندسة المربع للوحات (على تنوع قياساتها) ساعد على إحكام سينوغرافيا العرض، وساهم، وهو الأهم، في تهيئة مساحة جماهيرية متدافعة قصوى في التكوينات، هي بالأحرى تشكيلات تدميرية حضرية عانت منها الحواضر الشامية قبل نزوح الملايين من مواطنيها. تتنافس قوافل جماهير النزوح في اللوحة مع تزاحم أسطح المدن المتهافتة. وفي شتى هذا التزاحم نشهد عربدة الفرشاة، التي تحيلنا من كثافة التجريد الملتبس إلى الإلماح الكثيف للحواضر، ونشور يوم قيامتها، وخروجها من شرق المتوسط إلى المجهول، بما فيه الموت. وهنا ندرك رمزية ذبول الألوان رغم ضجيجها، لأنها مكتحلة بمشتقات ليلية، بسوادات عتمة البحر، وتماوجات دكنته التعبيرية المأزومة المكفنة بأحزان ألكترا، ونحيب الخنساء. عالم موحش يقود إلى مقصلة البحر. وكما يدعوها شاعرنا "أرض ما بعد الأرض"، المجهول في عدميته وحداده الأبدي السيزيفي. ربما نقع في وهم النزوح من كوكب آخر إلى آخر، وإلى قدر فنائي!
واحدة من اللوحات نتبين في كآبتها مركبًا من ورق طفولي معلقًا بخيط بين سماء وأفق البحر إلى أغوار المدافن، يغطس في القاع من دون أمل في النجاة.
لوحات مكفنة بالحزن، وبسحنات بلدية محلية بريئة، صور كونية يشوبها هذيان الهروب من قدر المكان وشيطانيته.
* * *
لا بد أن نستدرك، ولو جزئيًا، سيرة المبدعين: جمعتهما مساحة النكبة والخراب، وقيامة نشور لعنة القمع والفساد والتحلل الثقافي والمؤسساتي والفساد العام، وقانون الغاب والتفسخ القضائي، وعالم العسكرتاريا المتعسف، هما أبناء الجيل المقهور نفسه، الفنان أسعد فرزات من مواليد حماة 1959م، ومقيم في مدينة زيوريخ في سويسرا منذ 2015م، وشاعرنا المرهف نوري الجراح من مواليد دمشق 1956م، والمقيم في لندن، ويعمل فيها رئيسًا لتحرير مجلة ثقافية هي "الجديد"، وله مؤلفات عديدة.
تخرج أسعد في كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1986م بدرجة امتياز. سرعان ما تكثفت معارضه محليًا وعربيًا وأوروبيًا. وبصقل متسارع في تقنية موهبته، عرف بعربدة سلوك فرشاته، وبتلقائية تقبل التراكم وليس التعديل، طقوس لوحته، التي جرت في اتجاه واحد متقدم، لا يقبل العودة ولا التردد ولا الحيرة أو التصحيح. هو سر فورة تعبيره البركاني الجائح المأزوم في مادة ألوان الأكريليك وسلوكها الغريزي الحدسي الفياض.
تميل مشتقات ألوانه إلى درجات الحداد الأسود من دون أن تفقد نورانية اللون المكبوت والمخفي تحت ليل الباليتا التعبيرية النزقة.
لعل هذا المعرض الثنائي من أشد معارضه أصالة وعلوًا حرفيًا، أشعل مداده عمق التجربة واستلهامه من معين لا ينضب من أسى أحزان كلمات وصور نوري الجراح، وضمن تحالف نبيل بين الكلمة واللون، بين النص واللوحة.
أسعد عرابي
=
تشكيل
الشاعر نوري الجراح والفنان أسعد فرزات
شارك هذا المقال
حجم الخط
افتتح مساء العاشر من شهر آذار/ مارس الحالي معرض يمثل حدثًا بارزًا بعنوان "الخروج من شرق المتوسط"، مستمرًا حتى الخامس عشر من شهر نيسان/ أبريل 2022م، وذلك في غاليري أوروبيا الباريسية المعروفة بجانب صرح الأنفاليد، بإدارة خلدون زريق وزوجته ندى كرامة، وهما مثقفان جامعيان من أصل سوري، ويعرضان بصيغة محترفة لأبرز الفنانين السوريين في الشتات وفي الداخل، إلى جانب نخبة من الفنانين العرب والأجانب.
"يستلهم المصور أسعد فرزات لآلئه التعبيرية المرسومة من ثنايا قصيدة الشاعر نوري الجراح، التي لامست ونكأت الجرح السوري" |
المعرض الحالي يدعو العابر (من شارع سيجور المطلة عليه الغاليري) للتوقف أمام واجهته الزجاجية الرحبة والمثيرة لتأمل لوحة الفنان المنجزة بألوان أكريليك على قماش بقياس مربع (130 × 130) سم. يحتوي المعرض على 12 لوحة، 6 لوحات بقياس (130 × 130) سم، 4 لوحات بقياس (50 × 50) سم ولوحتان بقياس (80 × 100) سم.
المعرض ثنائي يتحالف فيه بصيغة نبيلة اللون والكلمة. يستلهم المصور أسعد فرزات لآلئه التعبيرية المرسومة من ثنايا قصيدة الشاعر نوري الجراح، التي لامست ونكأت الجرح السوري، والنزوح العمودي إلى بواطن المتوسط الذي تحول إلى مدافن للبراءة، من الأطفال وسواهم، عنوانها "الخروج من شرق المتوسط"، وأضيف إلى عنوان المعرض "حكايا مصورة".
يشرح شاعرنا، نوري الجراح، كيف تحول مضمون القصيدة إلى لوحة من خلال نص تحية إلى أسعد فرزات، نشره على فيسبوك، اجتزأت من ختامه هذا التفصيل: "الخروج من المتوسط" التي مسرحتها ريشة الفنان أسعد فرزات برهافة تليق بلوعة الكلمة هي القصيدة الأكثر زرقة في وداع المتوسط، والعبور الغسقي نحو أرض وراء الأرض، بعيدًا عن مشرق الشمس، وعن غسيل أمهات لطخته حمرة الغروب. الألوان الصاخبة في لوحة الفنان هي الصرخة نفسها التي تركها الغريق في شراع القصيدة".
"عربدة الفرشاة تحيلنا من كثافة التجريد الملتبس إلى الإلماح الكثيف للحواضر، ونشور يوم قيامتها، وخروجها من شرق المتوسط إلى المجهول، بما فيه الموت" |
لا شك في أن اختيار هندسة المربع للوحات (على تنوع قياساتها) ساعد على إحكام سينوغرافيا العرض، وساهم، وهو الأهم، في تهيئة مساحة جماهيرية متدافعة قصوى في التكوينات، هي بالأحرى تشكيلات تدميرية حضرية عانت منها الحواضر الشامية قبل نزوح الملايين من مواطنيها. تتنافس قوافل جماهير النزوح في اللوحة مع تزاحم أسطح المدن المتهافتة. وفي شتى هذا التزاحم نشهد عربدة الفرشاة، التي تحيلنا من كثافة التجريد الملتبس إلى الإلماح الكثيف للحواضر، ونشور يوم قيامتها، وخروجها من شرق المتوسط إلى المجهول، بما فيه الموت. وهنا ندرك رمزية ذبول الألوان رغم ضجيجها، لأنها مكتحلة بمشتقات ليلية، بسوادات عتمة البحر، وتماوجات دكنته التعبيرية المأزومة المكفنة بأحزان ألكترا، ونحيب الخنساء. عالم موحش يقود إلى مقصلة البحر. وكما يدعوها شاعرنا "أرض ما بعد الأرض"، المجهول في عدميته وحداده الأبدي السيزيفي. ربما نقع في وهم النزوح من كوكب آخر إلى آخر، وإلى قدر فنائي!
"اختيار هندسة المربع للوحات (على تنوع قياساتها) ساعد على إحكام سينوغرافيا العرض" |
واحدة من اللوحات نتبين في كآبتها مركبًا من ورق طفولي معلقًا بخيط بين سماء وأفق البحر إلى أغوار المدافن، يغطس في القاع من دون أمل في النجاة.
لوحات مكفنة بالحزن، وبسحنات بلدية محلية بريئة، صور كونية يشوبها هذيان الهروب من قدر المكان وشيطانيته.
* * *
لا بد أن نستدرك، ولو جزئيًا، سيرة المبدعين: جمعتهما مساحة النكبة والخراب، وقيامة نشور لعنة القمع والفساد والتحلل الثقافي والمؤسساتي والفساد العام، وقانون الغاب والتفسخ القضائي، وعالم العسكرتاريا المتعسف، هما أبناء الجيل المقهور نفسه، الفنان أسعد فرزات من مواليد حماة 1959م، ومقيم في مدينة زيوريخ في سويسرا منذ 2015م، وشاعرنا المرهف نوري الجراح من مواليد دمشق 1956م، والمقيم في لندن، ويعمل فيها رئيسًا لتحرير مجلة ثقافية هي "الجديد"، وله مؤلفات عديدة.
"تميل مشتقات ألوانه إلى درجات الحداد الأسود من دون أن تفقد نورانية اللون المكبوت والمخفي تحت ليل الباليتا التعبيرية النزقة" |
تخرج أسعد في كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1986م بدرجة امتياز. سرعان ما تكثفت معارضه محليًا وعربيًا وأوروبيًا. وبصقل متسارع في تقنية موهبته، عرف بعربدة سلوك فرشاته، وبتلقائية تقبل التراكم وليس التعديل، طقوس لوحته، التي جرت في اتجاه واحد متقدم، لا يقبل العودة ولا التردد ولا الحيرة أو التصحيح. هو سر فورة تعبيره البركاني الجائح المأزوم في مادة ألوان الأكريليك وسلوكها الغريزي الحدسي الفياض.
تميل مشتقات ألوانه إلى درجات الحداد الأسود من دون أن تفقد نورانية اللون المكبوت والمخفي تحت ليل الباليتا التعبيرية النزقة.
لعل هذا المعرض الثنائي من أشد معارضه أصالة وعلوًا حرفيًا، أشعل مداده عمق التجربة واستلهامه من معين لا ينضب من أسى أحزان كلمات وصور نوري الجراح، وضمن تحالف نبيل بين الكلمة واللون، بين النص واللوحة.