ص دسامة سعيد.. من تفتّح الربيع إلى تفتّح الروح

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ص دسامة سعيد.. من تفتّح الربيع إلى تفتّح الروح

    سامة سعيد.. من تفتّح الربيع إلى تفتّح الروح
    مليحة مسلماني 11 أبريل 2022
    تشكيل
    أسامة سعيد
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    الدخول إلى عوالم أسامة سعيد التشكيلية، المتراوحة بين التجريدية والتعبيرية، تدفع إلى البحث عن السيرة العامة والشخصية التي تقف وراء التكوينات والعلاقات اللونية التي يقيمها الفنان على أسطح القماش؛ فهذه السيرة هي بمثابة المفتاح الرئيسي اللازم لسبر تجربته البصرية، وقراءة جمالياتها المتأرجحة بين البوح والكتم، وتفكيك العلاقات المتوارية خلف المسافات بين الضوء والظلال في أعماله.


    ميراث النكبة
    ولد أسامة سعيد عام 1957 في قرية نحف في الجليل المحتل، لعائلة لم تشهد النكبة فحسب، بل كان لها بالموازاة معها نكبتها الخاصة، والتي تمثّلت في فقدان ثلاثة شبان من العائلة، جرّاء خطط التهجير الممنهجة التي قامت بها العصابات التابعة للحركة الصهيونية آنذاك؛ فحينما وصلت إلى مسامع جدّ الفنان أخبار حول قيام جنود "الهاغاناه" بإعدام سبعة رجال في الساحة المركزية في نحف، قرّر، مدفوعًا بهاجس الخوف على حياة أبنائه، تهريب أولاده الثلاثة الكبار خارج القرية، على أن يعودوا بعد استقرار الأوضاع. انتهت الحرب، وتم إغلاق المنافذ الحدودية، وكان أعمام أسامة قد وصلوا مع قوافل اللاجئين إلى مدينة حلب في سورية، لتتقطّع أوصال العائلة منذ ذلك الوقت. ظل الجدّ يلوم نفسه على قراره تهريب أبنائه، فيما فقدت الجدة إحدى عينيها بسبب الحزن الذي رافقها حتى وفاتها.

    "أعمام أسامة وصلوا مع قوافل اللاجئين إلى مدينة حلب في سورية، لتتقطّع أوصال العائلة منذ ذلك الوقت"

    بعد مرور حوالي عقد من الزمان على النكبة، ولد سعيد لتلك العائلة التي تخيّم عليها آلام الفقد، ليترعرع في بيت الجد والجدة، ويرث منهما الذاكرة المنكوبة من جهة، وحبّ الطبيعة والارتباط بالأرض من جهة أخرى. وبذلك، ورث الفنانُ مفاهيمَ ووجدانًا تتراوح في دلالاتها، بين بهجة ومأساة، بين ضوء وظلّ. ويبدو أن التضاد بين: الألم والحب، والفقد والأرض، والذاكرة المؤلمة والطبيعة الساحرة في الجليل، بقي حاضرًا في أعمال سعيد على اختلاف مراحلها؛ ففي أكثر لوحاته بهجةً لونية وجمالية، يعثر الرائي على أزمات درامية تتوارى خلف خطوطها وألوانها، وتتشكّل من العلاقات بين ضوئها وظلالها، لتروي سيرة الإنسان والمكان.


    ورودٌ جارحة

    "تفاعل أسامة سعيد مع الذاكرة الموروثة المتمثلة بالنكبة والفقد، ومع الواقع المعقد بالنسبة للفلسطينيين بعامّة، والفلسطينيين المقيمين في دولة الاحتلال بخاصّة"


    لعل هذا بالضبط ما أراده أسد عزّي، واصفًا تجربةَ أسامة سعيد باختزال، بقوله "ألوانُ طاووسٍ، ومخالبُ هرّ"(1)؛ فالناظر في دواخل عوالم لوحات سعيد، متذوّقًا، أو مستكشفًا، سرعان ما يصطدم بحواجز تخبر عن أزمة ما قد تحيل إلى حقائق ووقائع تاريخية وراهنة خاصة، أو محلية، أو عالمية، أو داخلية ووجودية. تتوارى الأزمة خلف الألوان الراقصة والمتمايلة؛ فالمسافر في أعمال سعيد، كالداخل إلى حقل ورود مختلفة ألوانها وأشكالها، سرعان ما تجرح بأشواكها من يمسّها.
    كإنسان فلسطيني نشأ في فلسطين المحتلة عام 1948، تفاعل أسامة سعيد مع الذاكرة الموروثة المتمثلة بالنكبة والفقد، ومع الواقع المعقد بالنسبة للفلسطينيين بعامّة، والفلسطينيين المقيمين في دولة الاحتلال بخاصّة؛ وبذلك نعثر في أعماله على سيرة فلسطين: نكبتها، وتصدّعاتها التي شقّت ظهر أمكنتها وأهلها، ومصادرة أراضيها، وانتفاضاتها، وعذابات أبنائها، وقدسيّة قبّتها الذهبية، وفلّاحوها الملتصقون بأشجارها، وجماليات طبيعتها، بما فيها من أشجاز زيتون ولوز، وجبالٍ وصخور، وربيع يتفتّح لتكتسي الأرض ثوبًا من ألوانٍ تشقّ طريقها إلى وجدان الفنان، فينقلها بأسلوبه التعبيري المائل للتجريد، إلى أسطح القماش، محاولًا العثور، بربيع الأرض، على ربيع الروح.


    ربيعٌ جريح



    لا ينتمي أسامة سعيد إلى أسلوب فني، كما لا يبقى أسير موضوع أحادي، سياسيًا كان أو وجوديًّا؛ فالمطّلع على مختلف مراحل سيرته الفنية يعثر على أعمال تتنوع أساليبها بين الانطباعية والتعبيرية والتجريد، إذ تركت دراسته الفن في ألمانيا، وتردّده عليها في ما بعد للإقامة فيها بين الحين والآخر، آثارها على أساليبه الفنية، متأثرًا بشكل كبير بفنانيها التعبيريين(2).
    وبالمثل، يعثر المتأمّل في مجمل أعمال سعيد على تنوّع في المواضيع، التي لا تنتمي إلى فلسطين فحسب، إذ حضر الربيع العربي في سلسلة من الأعمال تصور بشاعة الديكتاتورية والواقع الدموي والمأساوي الذي تعيشه الشعوب العربية؛ وهكذا يروي الفنان وجهًا آخر للربيع، ليس بعيدًا عن الربيع الجليليّ، والذي يبدو أيضًا في أعماله، رغم جماليات ألوانه، جريحًا وجارحًا؛ جريحًا بذاكرة الفقد والاقتلاع، وجارحًا حين البوح والنواح. ومن الربيع الجليليّ، إلى الربيع العربي، تحاول أعمال أسامة سعيد الارتقاء بحثًا عن ربيعٍ للروح، كما في أعماله التي أنجزها في السنوات القليلة الماضية، وعُرض جزء منها مؤخرًا في غاليري "زاوية" بدبي.


    ذاكرة الوجدان



    يوسّع الفنان دائرة انتماء أعماله في السنوات الأخيرة، لتنحاز إلى الإنساني والكونيّ، عبر طرحها الأسئلة حول الوجود والجوهر والمعنى، وبتعبير آخر: الروح. بل يبدو أن البحث عن ربيع الروح، أو عن نورٍ في آخر نفق الواقع المظلم، قد رافق الفنان منذ بدايات مسيرته، فالدافع للفنّ كان دائمًا الوجدان الذي يحركه تجاه الموضوع لا الموضوع نفسه، كما يقول: "في حالات كثيرة لا يعود الموضوع هو العنصر الأساس، بل قد يصبح عامل إزعاج.. لا أبحث عن المواضيع، ولا ألاحقها، أرسم لأن الرسم يمنحني شعورًا بالسلام، وعلاقتي مع الأشياء أو المواضيع هي علاقة وجدانية روحانية، كعلاقتي مع شجرة الزيتون، أو شجرة اللوز. أنا أرسم شعوري تجاههما. وكذلك قبّة الصخرة، التي تربطني بها علاقة قوية، وتمثل بالنسبة إليّ النفس الداخلية، أو الروح. تتناغم القبة بوهجها مع الضوء الذي في داخلي؛ هناك أمكنة تربطنا بها علاقة قوية، تمنحنا شعورًا أو طاقة ما، وكأنها تسحبنا ضمن حقلها المغناطيسي، وهكذا لا أرسم المكان، بل أرسم روح المكان مستلهِمًا من ذاكرة الوجدان"(3).

    "يعثر المتأمّل في مجمل أعمال سعيد على تنوّع في المواضيع، التي لا تنتمي إلى فلسطين فحسب، إذ حضر الربيع العربي في سلسلة من الأعمال تصوّر بشاعة الديكتاتورية والواقع الدموي والمأساوي الذي تعيشه الشعوب العربية"


    تتحرر أعمال سعيد الأخيرة من الموضوع بشكل كبير، وتعتمد الاختزال الشكليّ واللوني، لتبدو لوحاته تكوينات لونية من التجريد نابعة من حالة وجدانية روحانية. يقول: "أحاول التخلص من الشكل في اللوحة ما لم يكن له ضرورة ماسة، لأنه يُضعف القيمة الروحانية للعمل الفني، وبدلًا من أن يركّز الفنان على وجدانه وعلاقته مع تأثيرات الألوان وتفاعلاتها، ينشغل بتفاصيل الشكل وتناسقاته وموضعته في اللوحة وغيرها من التفاصيل، ما يشتت التركيز الروحاني للعمل. وبالنسبة للمتلقّي، فإن وجود الشكل يصبح هو المسيطر، ما يحدّ من انطلاق الخيال في الحقول اللونية للوحة، ومن المضيّ عميقًا لاكتشاف جمالياتها وطبقاتها وملمسها وكثافة ألوانها.."(4).


    تفتّح الروح



    في أحد أعمال الفنان الأخيرة، تسيطر درجات لونية من الأزرق على معظم مساحة اللوحة، والأزرق يمثل بالنسبة للفنان لونًا رجوليًا، فهو ثابت، وهادئ، وقادر على الاحتمال، إذا مسّه لون آخر يحافظ على هويته كأزرق، على العكس من الأصفر الأنثويّ، فهو لون شفّاف وحسّاس، إذا اقترب منه لون اختفى سريعًا وأصبح لونًا آخر. وبالعودة إلى اللوحة، تمثل المساحة الحمراء في الأسفل، العالم المادي ـ والواقعي، وهي بمثابة عتبة للرائي للدخول في الفضاء الأزرق للعمل، غير أنه يصطدم بحاجز يقطع اللوحة بشكل مائل من منتصفها تقريبًا؛ يحيل الحاجز بدوره إلى المفاهيم المادّية والمصطنعة، كالتكنولوجيا، والاحتلال، والانتهازية، والسيطرة، والتي تعيق سيرورة الارتقاء والانعتاق والتحرر.

    "تمثل أعمال أسامة سعيد بشموليتها سيرةً بصريةً لهويات متعددة لا تقف عند حدود الخاص فحسب، بل تمزجه والعام كما في حدث النكبة التي اختلطت، كمأساة شعب عامة، بتشكيل الفنان المعرفيّ والوجدانيّ"


    تتعزّز دراما الروح، في محاولاتها النفاذ من الضيق المادي، وتخطّي حواجزه إلى الوِسع النوراني، في لوحة أخرى يكسوها بشكل رئيس الأزرق السماوي، بينما تحيط بها تكوينات سوداء أشبه بأطر وحواجز أضفت ثقلًا على اللوحة. تأخذ هذه التكوينات في الجزء السفلي من العمل شكل شفرات كبيرة حادّة وقاطعة، أو بوابات سجن عالية، ما يؤكّد أزمة الروح الإنسانية بانحباسها في سجون العوالم والمفاهيم المادية.
    يكتسى عملٌ آخر بالأحمر، وهو بطبيعته لونٌ مسيطر، تمامًا كالمادة التي تسيطر على إنسان هذا العصر. الطبقات المتشكّلة في المساحة الحمراء، من تداخل درجات مختلفة من الأحمر مع الأسود والبرتقالي والأصفر، تمثل بدورها تعقيدات وطبقات العالم المادي، في حين يلقي الحاجز الذي يقطع اللوحة طوليًا ثقلًا على المشهد البصري للوحة، وهو يحيل إلى معاني الاعتراض والمنع والحدّ والتقييد. غير أنه يظهر شقّ في أحمر اللوحة في أعلاها، ومن خلفه زُرقة؛ يحيل الشقّ إلى نافذة الروح التي تحاول إيجاد سبيلها للهروب من سجون العالم الماديّ.
    أخيرًا، تمثل أعمال أسامة سعيد بشموليتها سيرةً بصريةً لهويات متعددة لا تقف عند حدود الخاص فحسب، بل تمزجه والعام كما في حدث النكبة التي اختلطت، كمأساة شعب عامة، بتشكيل الفنان المعرفيّ والوجدانيّ. وبقدر ما استلهمت هذه التجربة من جماليات المحليّ، أي المكان الفلسطيني، موظفًا فيها الفنان أساليب فنية متعددة ومواد مختلفة، كألوان الزيت والجفت والرماد، بقدر ما انفتحت أيضًا على الاتساع الكوني النابع من سؤال الروح عن المعنى. لذا تبدو أعمال سعيد رحلة روحيّة مصوَّرة بصريًا، تروي، عبر تأثيرات الألوان وأمزجتها والعلاقات في ما بينها، ورقصها وتمايلها وثباتها ووهجها وخُفوتها، حالات الروح في عروجها.



    هوامش:


    (1) يُنظر؛ أسد عزي: ألوان طاووس ومخالب هرّ، في كتالوج: سماء مكشوطة.. أسامة سعيد، رام الله: جاليري بيت مريم، 2016.
    (2) للمزيد حول أساليب الفنان والتأثيرات المختلفة عليها، يُنظر؛ نافا سبيليا سَديه، "تفتّح الربيع"، في كتالوج: أسامة سعيد.. زهر الربيع، أم الفحم: صالة العرض للفنون، 2013، ص 27-34.
    (3) أسامة سعيد، مقابلة مع الكاتبة عبر زووم، 04/04/2022.
    (4) المصدر السابق نفسه.
يعمل...
X