تشكيلية من غزة تستعيد طريق سكة الحجاز.. الشريان الغائب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تشكيلية من غزة تستعيد طريق سكة الحجاز.. الشريان الغائب

    تشكيلية من غزة تستعيد طريق سكة الحجاز.. الشريان الغائب
    تحسين يقين 1-جد-
    فوتوغراف
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    غزة- جنيف.. بقليل من الجنيهات..! ليس حلمًا، إنما كان ذلك يومًا ما هنا..

    على رصيف غزة يافا، يقف رجلان بانتظار القطار، ترى إلى أين سيذهبان؟ إنهما لا يحملان حقائب، لا يبدو عليهما أنهما على سفر. لكن هناك ركاب غيرهما تجمعوا، ولعلهم على سفر قريب أو بعيد. صوت القطار وجرس المراقب يُسمعان.

    كان يمكن أن تكون تلك مشاهد عادية اليوم وغدًا، لكنها ليست إلا مشاهد من أمس، الذي زادت به الأعوام، ولا تكاد تقف عند الـ73 عامًا، هي ما تفصل بيننا الآن، عن لحظة توقف القطار في رحلته الأخيرة، تاركًا سكة الحديد تندب حظها. فما معنى سكة قطار بدون قطار؟ لكن ذلك حدث ويحدث في فلسطين، التي شوّه الاحتلال بصرها.

    ترى أين باقي سكة الحديد؟ والقطارات؟ والمرافق؟ والناس أين هم؟

    من هنا، راحت الفنانة رنا البطراوي، من غزة، تبحث عن كل ذلك، في رحلة بصرية تجتمع فيها النوستالجيا والأمل بغد حرّ طليق يتنقل فيه البشر بحرية في فضاء الأرض.

    بأدوات بسيطة، لكنها منسجمة مع لغة العصر بصريًا، ومن خلال عمق التناول الفني الإنساني، تركت البطراوي فيلمها وصورها المُستعادة، تروي ما كان هنا من حياة، وما صار هنا من خراب استلزم الرثاء، لكن بذكائها قدمته لا كبكائية، ولكن كأمل وإمكانيات فعل، وحقوق لا يمكن نسيانها، حيث تنفتح سماء غزة على اتساعها، رغم ما يضيق به المكان من حصار وخنق.
    "راحت الفنانة رنا البطراوي، من غزة، تبحث عن كل ذلك، في رحلة بصرية تجتمع فيها النوستالجيا والأمل بغد حرّ طليق يتنقل فيه البشر بحرية في فضاء الأرض"
    لقد انسجم عنوان هذا النشاط الفني: "التدخلات في الفضاء العام"، مع ماضي وحاضر البلاد تحت الاحتلال، الذي مزّق عبر مراحل تاريخية نسيج الأرض، التي سُلبت تواصلها الإقليمي، ليس بين فلسطين والعالم فقط، بل بين مدن فلسطين أيضًا. وهو الذي سلب عيش الشعب هنا، فانشطروا تجمعات هنا وهناك.

    ولقد وفق "محترف شبابيك" في غزة في اختيار العنوان، الذي ألهم الفنانة بطراوي، لتذهب بعيدًا، في الزمان والأمكنة، بما يتجاوز جزئية التدخل في الفضاء الآن؛ بحيث التقطت فكرة مكانية طبيعية، عبر استعادة تنقل الناس من خلال القطار، ذي القضبان الحديدية التي تمتد على طول الأرض، فتجعل من البلاد والدول بلدًا واحدًا وحّده سير القطار الحرّ.

    وإن تأمل مشروع الفنانة "فليتذكر زمني الأزرق سكة تترحل"، يصب استراتيجيًا في بناء المشهدية الفلسطينية؛ فلقد كانت هناك حياة لعالم خطوط سكة الحديد، من موجودات وأبنية ومعمار، بل أيضًا من خلال السمع؛ حيث يشكل صوت القطارات في العالم دومًا صوتًا مميزًا وجزءًا أصيلًا من حياتها وسمعها كما بصرها.






    فيديو

    يبدأ الفيديو، المصاحب لمشروع رنا البطراوي، بخارطة جوية للأرض تصور مناطق من آسيا، مقتربة من تركيا وبلاد الشام والجزيرة العربية، لكن سرعان ما نجد أنفسنا على أرض غزة بسمائها الزرقاء الواسعة.

    على الصوت المنتظم لمسننات القطار على سكة الحديد، الذي يبدو كموسيقى تصويرية هو وجرس مراقب القطار، تبدأ مكونات حياة السفر العادية عبر خطوط سكة الحديد الفلسطينية، من رصيف غزة بالمنتظرين، في حين يظهر قطار القدس- يافا (الوحيد الذي ظلّ مستمرًا بسبب سيطرة إسرائيل على غرب القدس حتى يافا). لكن فجأة يعلو الصوت كصدمة كأنه لا صوت قطار، بل صوت انفجارات، لعلها استوحتها الفنانة، لتلائم الخط الزمني ببدء نكبة فلسطين في حرب عام 1948، فكان ذلك إشارة لقطع ما، كأن المتفجرات قد دمرت أيضًا القطارات وطريقها وطقوسها وعاداتها اليومية. وهنا، بعد هذا الصوت المدمر، لم يبق إلا الآثار، وهي حرية بالرثاء فعلًا. مقاطع من بقايا سكة حديد وأجزاء من القطارات ككتل سوداء، وصولًا إلى اختفاء تدريجي لتلك الآثار، حتى الحديد ذاب هنا.. لم تبقَ غير خطوط.. وبعض التلال الخفيفة مكان سكة الحديد التي ترتفع عادة عن الأرض. خلال ذلك، ظهرت صور تذاكر السفر، فهذه تذكرة سفر من غزة إلى الإسكندرية عبر مدينة بنها في دلتا مصر، وتلك تذكرة سفر من غزة إلى جنيف..! ويبدو أن ذلك يتم عبر قطار غزة - تركيا، ومن ثمة بوسيلة تعبر أوروبا، ومن هناك يتم استئناف الرحلة إلى سويسرا.
    "كان هنا يوم سفر ليس إلى الإسكندرية فقط، بل إلى سويسرا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا. هذا كان فعلًا، ولولا ما يثبت ذلك من توثيق، لظنّ الناس أن ذلك مجرد أحلام. لكنه كان واقعًا حقيقيًا، سعت البطراوي لاستعادته"
    بالإضافة إلى الصور الفوتوغرافية، عرضت الفنانة البطراوي عملًا نحتيًا، "يمثل تهالك واختفاء هذه السكة، بحيث جسّدت السكة الشخص الذي ترك أثرًا وقصصًا وروايات مع الزمن، حيث كانت سكة الحديد شريان الحياة، ربط المنطقة العربية ببعضها، وسهّل التواصل، فانتعش الاقتصاد، فالمواصلات هي من أسس قيام الدولة"، وفقًا لما ذكرته الفنانة.

    كان هنا يوم سفر ليس إلى إسكندرية المتوسط فقط، بل إلى جنيف سويسرا وسط أوروبا بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا. كم كان ذلك جميلًا وملهمًا! هذا كان فعلًا، ولولا ما يثبت ذلك من توثيق لظنّ الناس، هنا وهناك، أن ذلك مجرد أحلام نوم أو أحلام يقظة. لكن ذلك كان واقعًا حقيقيًا، سعت البطراوي لاستعادته في سياق استعادة وحدة ليس فلسطين فقط بمدنها وبلداتها، بجبالها وبحرها، بل هو التواصل الطبيعي الذي ربط بلاد الشام وتركيا والحجاز، ومصر بالتأكيد. أما لماذا سميت بسكة الحجاز، فهذا نوع من التبرك بدلالات الحج، من خلال تأسيس سكة الحديد الروحية، حيث تتجاوز أهداف التأسيس إلى بناء مواصلات تصل البلاد بالبلاد.





    بانتهاء خط سكة الحديد التاريخي هذا، تكون مرحلة انتهت لتبدأ مرحلة أخرى، تاركة الحسرة في القلوب، حيث تقتبس الفنانة رنا البطراوي ما رثا به الأديب السوري المعروف علي الطنطاوي قطار الحجاز بقوله: "حملته أمه ثماني سنين وعاش بعدما ولد عشر سنين، ثم أصابته علة مزمنة فلا هو حيّ فيُرجى ولا هو ميت فينسى.."!

    وعودة إلى "التدخلات في الفضاء العام" قديمًا، كيف كانت تنسجم مع تواصل البشر في الزمان والأمكنة، نجد أنفسنا في "تدخلات" أخرى ضيقت المكان، ومنعت التواصل الإنساني، وصولًا إلى حدّ الاختناق.

    من هنا يجيء مشروع رنا البطراوي "فليتذكر زمني الأزرق سكة تترحل"، كتحد للخلاص النفسي من الاختناق، مقدمة لمبادرة استعادة تواصل شعب فلسطين مع الشعوب؛ فلا يمكن الاستمرار بقبول هذا السجن، الذي اعتقل فيه شعب عريق. ولعل اتساع خارطة الكون، والأرض من علو، انسجم مع السماء الزرقاء، التي هي بلا حدود فعلا، هو سخرية من قيود الاحتلال، ولتقزيم "تدخلات الاحتلال" أيضًا.
    "يجيء مشروع رنا البطراوي "فليتذكر زمني الأزرق سكة تترحل"، كتحد للخلاص النفسي من الاختناق، مقدمة لمبادرة استعادة تواصل شعب فلسطين مع الشعوب؛ فلا يمكن الاستمرار بقبول هذا السجن"

    صوت وصور

    من هذا الضيق الذي أريد للشعب هنا أن يكون سجينه، انطلقت رنا البطراوي لبث الأمل بالقادم من الأيام، في فكر تقدمي طليعي، يستعيد الخارطة ببوصلة إنسانية ووطنية. عمقت الفنانة مشروعها بصريًا، من خلال الفيديو الذكي بإيحاءاته، كذلك من خلال الصور والوثائق التي حصلت عليها من خلال بحث في الموضوع.

    أسمت البطراوي سكة الحجاز بالشريان الغائب، لما للشريان من دلالات جسد الإنسان والوطن والبلاد. رحلة بحث تاريخي تعرفنا أن تأسيس الخط الحديدي التاريخي كان في فترة ولاية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قبل قرن أو يزيد. وفي رحلة بحثها، استمعت لروايات شفوية من محيطها، جعلتها تتخيل ما كان، فكان هذا المشروع استعادة، بالإضافة إلى ما يحمله من فكرة وحق التواصل بين الشعوب، لتحقيق أهداف إنسانية واقتصادية.







    الفنانة رنا البطراوي من مواليد غزة، حاصلة على بكالوريوس في التربية الفنية، لها 3 معارض فردية: زهرة الصبار 2011 وجمرة الأرض عام 2016 ورماد طين عام 2019، إضافة لمشاركاتها في ندوات ومعارض جماعية وبينالات، في فلسطين والخارج، وصولًا إلى الولايات المتحدة في مدينتي نيويورك ولوس أنجلوس. التحقت بعده دورات تدريبية متنوعة في مجالات الفن، منها دورة متقدمة في الأطر والأساليب التربوية لماده التربية الفنية وتطبيقاتها العملية، قدّمت ورشات نحت للأطفال والمعلمين في مركز القطان للطفل، تهتم بالفنون القائمة على إعادة التدوير من مخلفات البيئة، حيث قامت بتجريب شخصي للخامات، وتشجيع المعلمين والطلبة على اختبارها، كما فعلت في التعامل مع الرماد، وهو الذي كان مادة وفكرة معرضها الشخصي الثالث "رماد طين".
    "كل فرد من أسرة الفنانة اليوم موجود في دولة، ولعل مشروعها القائم حاليًا في "محترف شبابيك" هو تذويت فني وإنساني، يعكس حالة التشتت الآن، والحصار الذي تعيشه في غزة"
    لجأت أسرة رنا البطراوي من مدينة أسدود إلى غزة، ولم يقف تشتت الأسرة عند هذا الحد، فكل فرد من أسرتها اليوم موجود في دولة، ولعل مشروعها القائم حاليًا في "محترف شبابيك" هو تذويت فني وإنساني، يعكس حالة التشتت الآن، والحصار الذي تعيشه في غزة، بما كان من ماض أكثر جمالًا لها الحق في استعادته وشعبها حقيقة، وليس فقط من خلال الحلم الفني. لذلك يعتبر مشروعها الفني "فليتذكر زمني الأزرق سكة تترحل"، تنويعًا جديدًا تعزف فيه على الحالة الفلسطينية شكلًا ومضمونًا. إنه أولًا وأخيرًا دور الفن في استعادة الأمل، في طريق قد يطول لاستعادة الحقوق. وهو يؤكد على وعي الكثير من الغزيين، من أجيال متعاقبة، على احترام "حرم السكة" التي لم يعبث فيها المواطنون، فاحتفظوا بآثارها ومكانها، وأكدوا على علاقتهم بحرم السكة، وشارع السكة، فلم تقم عليهما مبان ولا شوارع مرصوفة.



يعمل...
X