من فوق.. القدس وفلسطين في التصوير الجوي المبكر (1917ـ1948)
هاني حوراني 12 ديسمبر 2021
فوتوغراف
الحرم القدسي والبلدة القديمة.. من مجموعة أريك ماتسون/مكتبة الكونغرس
شارك هذا المقال
حجم الخط
صورت القدس وفلسطين من الجو عشرات المرات خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى وعام النكبة، 1948. ويحتفظ أرشيف التصوير الجوي الإسرائيلي في الجامعة العبرية بحصيلة ست جولات تصوير جوية لفلسطين تضم ما يزيد على 24 ألف صورة فوتوغرافية، تشكل أرشيفًا ضخمًا يوثق تضاريس فلسطين من الجو، وتقدم هذه المواد المصورة من الجو وثائق بصرية عن القرى والأحياء العربية التي دمرتها إسرائيل خلال عامي 1947 و1948.
بدايات التصوير الجوي لفلسطين
بدأت عمليات التصوير الجوي لفلسطين وجوارها الجغرافي على يد سلاح الجو الألماني (البروسي والبافاري) خلال عامي 1917 و1918، موفرة حصيلة تقارب الثلاثة آلاف صورة جوية، حسب مقالة تمارا هودلي(1).
كان على السرب البافاري (AF 304 b) أن يؤمن مراقبة محيط منطقة عمليات القوات الألمانية، وإبقاءها تحت النظر، وكان هذا يشمل المنطقة الممتدة من دمشق إلى الساحل اللبناني، ومن بحيرة طبريا وحتى القاهرة. وفي غضون ذلك، التقطت طائرات السرب البافاري آلاف الصور الجوية، التي كانت مرجعًا لاستكمال رسم الخرائط المتفرقة التي كانت متاحة حينذاك للقوات العثمانية والألمانية، والأهم من ذلك للكشف عن البنية التحتية والتحركات البريطانية في المنطقة.
"التقطت طائرات السرب البافاري آلاف الصور الجوية، التي كانت مرجعًا لاستكمال رسم الخرائط المتفرقة التي كانت متاحة حينذاك للقوات العثمانية والألمانية، والأهم من ذلك للكشف عن البنية التحتية والتحركات البريطانية في المنطقة" |
كانت الفرقة التي قادت مهمة السرب البافاري (AF 304 b) قد استقرت في قرية عراق المنشية، على بعد 32 كيلومترًا شمال غربي غزة، وبين تشرين الأول/ أكتوبر 1917 وآب/ أغسطس 1918، تمكنت من التقاط 2872 صورة غطت فلسطين ولبنان والأردن، وجزءًا من الأراضي المصرية (القاهرة وأهرامات الجيزة). ورغم أن الهدف الرئيسي للأسراب الجوية كان متابعة تحركات الجيش البريطاني في المنطقة، ومراقبة العمليات العسكرية على الأرض، فقد طلَبَ تيودور ويغان، من معهد الآثار الألماني، من الطيارين، التقاط صور فوتوغرافية للمواقع التاريخية القديمة. وهكذا غطى السرب البافاري (AF 304 b) خلال مهماته الأربع السهول الساحلية والجبال الممتدة من لبنان إلى الخليل، وغور الأردن والجزء الشرقي من نهر الأردن. وقد أسفرت هذه الطلعات عن أرشيف مميز يوثق حالة وتفاصيل المشهد الطبيعي في فلسطين خلال عامي 1917 و1918.
القدس والمدن الفلسطينية كما بدت في صور السرب البافاري
وحسب مقالة تمارا هودلي، كانت الصور الجوية للقدس وأريحا وقيصرية وعكا والبحر الميت من بين أهداف عملية التوثيق هذه. وتشهد صور الكنائس والمواقع الدينية المسيحية الأخرى في القدس وبيت لحم والناصرة على ثمار المهمة الجوية ـ الآثارية التي تم تكليف السرب (AF 304 b) بالقيام بها في فلسطين وجوارها. فمنذ عام 1919، تم حفظ 2872 صورة جوية وأرضية في أرشيف الحرب البافاري. وقد أصبحت متاحة في الآونة الأخيرة على الموقع الإلكتروني لأرشيف ولاية بافاريا المركزي، التابع لمكتب المساحة لولاية بافاريا.
البحر الميت من الجو، وتظهر في الصورة منشآت شركة البوتاس الفلسطينية على شاطئ البحر الميت وتعود لعام 1931 |
تشكل هذه الصور أداة مهمة لدراسة المشهد العمراني لفلسطين، لأنها توثق غالبية البلدات والقرى في نهاية العهد العثماني. كما أنها تعمل كخط أساس للمقارنة ما بين التضاريس التي كانت قائمة عشية الانتداب البريطاني مع الصور التي تعكس تضاريس فلسطين عند نهاية الانتداب البريطاني وقبل النكبة. ويشار إليها على نطاق واسع في الدراسات المتعلقة بتطوير مراكز المدن التاريخية، إذ هي تشكل أقدم سجل مفصل من حيث حجمها. علاوة على ذلك، يمكن استخدامها لإظهار النسيج العمراني والمباني التي كانت موجودة قبل فترة الانتداب البريطاني. إن الدقة العالية للصور تجعل من الفحص الدقيق للمشهد العمراني ممكنًا، مما يؤدي إلى فهم أفضل لتضاريس البلدات والقرى الفلسطينية. وعند مقارنة الصور الجوية للسرب (AF 304 b) بالخرائط البريطانية المساحية، وأرشيفات البلديات (أو مجالس القرى)، والخرائط والصور الجوية اللاحقة، سيمكن ذلك المؤرخين الحضريين من رسم خرائط إنشائية تعرض بالتفصيل تطور مراكز هذه المدن.
"منذ عام 1919، تم حفظ 2872 صورة جوية وأرضية في أرشيف الحرب البافاري. وقد أصبحت متاحة في الآونة الأخيرة على الموقع الإلكتروني لأرشيف ولاية بافاريا المركزي، التابع لمكتب المساحة لولاية بافاريا" |
وحسب تلخيص تمارا هودلي لبحث ندى الأطرش حول أهمية صور سلاح الجو البافاري لفلسطين، فإن هنالك وسيلة أخرى يمكن من خلالها استخدام هذه الصور الجوية، وهي رسم خرائط لمساحات البلدات والقرى المختلفة، وللعلاقات والصلات بينها؛ وستعكس مقارنة النتيجة مع حالتها اليوم التغيير الكبير الذي حدث في المشهد الفلسطيني خلال القرن الماضي. ربما يكون الدور الأكثر دراماتيكية لهذه الصور الجوية هو رسم خرائط للقرى التي تم تفريغها من سكانها وطردهم من منازلهم بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في كل من عامي 1948 و1967. وبالتأكيد، سيؤدي الاستخدام العلمي الصحيح لهذه الصور الجوية إلى مزيد من البحث، وإعادة تقييم الدراسات السابقة في مختلف المجالات، وسيؤدي إلى استنتاجات أكثر دقة، أو حتى أكثر اختلافًا بشكل جذري، في ما يتعلق بالمشهد الثقافي الفلسطيني.
سلاح الجو الأسترالي يصور فلسطين ومحيطها
خلال الفترة ذاتها، وتحديدًا في عامي 1917 و1918، قام سلاح الجو الأسترالي بعمليات تصوير جوية مشابهة لفلسطين والمناطق الواقعة إلى الشرق من نهر الأردن، حيث كانت القوات الأسترالية، ودول الكومنولث (Common Wealth)، جزءًا من قوات الحلفاء التي غزت الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى(2).
ويحتفظ متحف الحرب التذكاري الأسترالي بمجموعة كبيرة من مسودات (أو الأصول الزجاجية) لصور الحرب العالمية الأولى في كل من الجبهة الغربية وفلسطين، وقد التقطت هذه الصور من قبل كل من المصورين الأستراليين الرسميين فرانك هورلي (Frank Hurley)، وهوبرات ولكنز (Hubrat Wilkins)(3).
التصوير الجوي البريطاني: تحديث خرائط أراضي فلسطين
في ورقته المنشورة في المجلة الجغرافية (العدد الأول، آذار/ مارس 1987) الصادرة عن الجمعية الجغرافية الملكية (البريطانية)، تناول الباحث دوف جافيش (DOV Gavish)(4) الطلعات الجوية فوق فلسطين التي كانت تقوم بها سلطات الانتداب البريطاني لغايات إجراء المسوح الدورية للأراضي التي كانت تحت سلطتها لنحو ثلاثة عقود من الزمن. وهي المسوح التي كانت تهدف إلى تحديث خرائط أراضي فلسطين بصورة دورية، لكن لم تتم دراستها أو تناولها بالبحث حتى وقت قريب.
يقول جافيش إن تلك المسوح الجوية تضع فلسطين بين أوائل البلدان التي شهدت عمليات مسوح جوية، إن لم تكن الأولى قاطبة، وإن أسس رسم الخرائط العسكرية اعتمدت بصورة رئيسية على خبرة التصوير الجوي التي توفرت منذ الحرب العالمية الأولى.
لقد وفرت تلك الحرب التربة الخصبة لتقدم تقنيات التصوير الجوي. ففي كل معركة، كان هناك ضابط مخابرات، أو مهندس مكلف باكتشاف إمكانيات البرمجة الفوتوغرافية، من خلال التصوير الجوي، كانت هنالك حالة الجبهة الغربية وبلاد ما بين الرافدين، ومصر وفلسطين. وتعود إلى السنوات 1915/ 1916 المحاولات الأولى لاستخدام التصوير الجوي من أجل وضع خرائط ومسوح للمساحات المفتوحة في كل من مصر وسيناء.
التصوير الجوي البريطاني: من المسوح الروتينية
للأراضي الفلسطينية إلى استهداف ثورة 1939/1936
من ناحية أخرى، يلقي نادي أبو سعدة(5) الضوء على الوجه الآخر لاستعمالات التصوير الجوي البريطاني، في السنوات الواقعة ما بين الحربين العالميتين، ألا وهو توظيف تقنيات التصوير الجوي من أجل قمع الثورة الفلسطينية الكبرى في الأعوام 1936/1939.
ففي مقالته المنشورة في "حولية القدس"، العدد (81)، الصادر في ربيع 2020، يوضح الباحث أبو سعدة كيف أدى التصوير الجوي في مرحلة مبكرة من القرن العشرين إلى إحداث ثورة في الأعمال الحربية، لتصبح على النحو الذي صارت عليه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكيف أدت كذلك إلى تثوير وسائل عرض المشاهد الأرضية والتدخل فيها من خلال الصور الفوتوغرافية.
ومنذ الحرب الكبرى (الأولى)، فإن معظم حملات التوثيق الجوي للمشاهد الأرضية لفلسطين كانت محصلة للمجهودات الحربية، ومحاولات الإمبراطورية البريطانية تعزيز هيمنتها على فلسطين، إبان فترة الانتداب البريطاني.
"في كل معركة، كان هناك ضابط مخابرات، أو مهندس مكلف باكتشاف إمكانيات البرمجة الفوتوغرافية، من خلال التصوير الجوي، كانت هنالك حالة الجبهة الغربية وبلاد ما بين الرافدين، ومصر وفلسطين" |
وبعد أن يتوقف أبو سعدة عند التجارب المبكرة للتصوير الجوي البافاري/ العثماني والأسترالي/ البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى، وما رافق هذه التجربة من ظهور لبعض الاختراعات في مجال علم رسم الخرائط وعلم الجغرافيا، ينتقل للحديث عن عمليات الجيش البريطاني في فلسطين، والتي استهدفت قمع الثورة المناهضة لهم، وللحركة الصهيونية، ويقول:
"كانت جبهة فلسطين من بين المواقع المبكرة التي طبقت فيها الاختراعات التي وقعت خلال الحرب العظمى، ولم يأخذ البريطانيون الكثير من الوقت لإدراك أهمية هذا الاكتشاف في السيطرة على فلسطين الوسطى. ولإدراك أثرها في تغيير طبيعة المعركة. وبعكس سيناء والنقب، حيث كانت المواجهة تقع في مناطق واسعة ومفتوحة وغير مأهولة بالسكان، كانت فلسطين الوسطى على النقيض، حيث كان على البريطانيين مواجهة خطوط الدفاع في المدن الرئيسية، ولقد تبين للقوات البريطانية أن الخرائط المرسومة من قبل صندوق استكشاف فلسطين (PEF)، والتي استعملت في بداية الحرب العظمى لم تعد ملائمة للاستخدام في ذلك النوع من الأعمال الحربية، وبالنتيجة فقد قرروا الاعتماد بصورة أكبر على التصوير الجوي".
خبرة التصوير الجوي البريطاني في قمع الثورة العراقية
استخدم البريطانيون التصوير الجوي كعنصر حيوي لقمع الثورات التي اندلعت ضدهم في كل من العراق وفلسطين. فبعد الخبرات التي اكتسبها سلاح الجو الملكي البريطاني (RAF) في مجال توظيف التصوير الجوي لغايات عسكرية في الحرب العالمية الأولى، ولا سيما في الشرق الأوسط، وظف البريطانيون هذه الخبرة أولًا في قمع ثورة 1920 في العراق، حيث طوروا استراتيجية ما يسمى "السيطرة من الجو Air Control". ويصف أبو سعدة الطريقة التي تم فيها استخدام الاستراتيجية الجديدة لسلاح الجو الملكي البريطاني (RAF) لأغراض مناهضة للنشاط الثوري في العراق. إذ يرى أن الاستراتيجيات الجديدة لسلاح الجو الملكي قد تم اختيارها من قبل الخبراء البريطانيين بشكل خاص، لأنها ملائمة لمنطقة ما بين النهرين. وإن هؤلاء الخبراء كانوا مقتنعين بأن بلاد ما بين النهرين ملائمة للأعمال الجوية بشكل خاص، أكثر من القارة الأوروبية، آخذين في الاعتبار الخلاء، أو السطوح الفارغة في الأراضي قليلة الغطاء، وإمكانية استخدام الرادار عبر البلاد من قواعد مناسبة. ولقد شكلت المنطقة ميدانًا مثاليًا لتدريب سلاح الجو الملكي البريطاني، حيث يوجد تنوع طوبوغرافي من جبال وهضاب وسهول وأحواض نهرية، كما أن صعوبة الاتصالات في العراق جعلت من فكرة استخدام الطائرات مغرية للغاية.
إن خصوصية العمليات البريطانية المسماة بالـ Air Control في بلاد ما بين النهرين عنت أنها قابلة للنسخ، من حيث فاعليتها لمناهضة الثورات في المناطق الحضرية المأهولة بالسكان، أو لأغراض قمع وإخماد ثورة فلسطين الكبرى في السنوات 1936/1939. وكتب السير أرثر هاريس، الذي التحق لوقت قصير بسلاح الجو الملكي، إبان عمليات الأخير في فلسطين، خلال فترة الثورة الفلسطينية الكبرى، والتي تلت خدمته في العراق: "ما كان مفترضًا أبدًا بأن تختبر ذات النوعية من السيطرة الجوية فوق فلسطين، كما حصل في العراق".
لا يعني هذا أن العمليات الجوية لم تكن مهمة للبريطانيين أثناء تصديهم للثورة الكبرى في فلسطين، وإنما عنت بأن هذه العمليات كان يجب أن تعمل، أو تنفذ، بصورة مختلفة، آخذين في عين الاعتبار ليس فقط الطبيعة الجبلية المأهولة للطبيعة الفلسطينية، وإنما أيضًا اختلاف طبيعة الثورة ذاتها في فلسطين، وكذلك السياسة البريطانية في فلسطين في ذلك الوقت، حيث أنه في إطار إدارة مدنية كانت قد تأسست في فلسطين، تطلب الأمر من بريطانيا الموازنة ما بين الاعتبارات المدنية والعسكرية.
التصوير الجوي البريطاني لفلسطين: بيئة مختلفة
بفعل تواصل عمليات الثورة، خاصة مع تقدم مستوى تنظيم الجماعات العربية المسلحة، كانت أغلب المواجهات من قبل البريطانيين تجري بصورة تعاون وثيق ما بين الطيران والقوات الأرضية، وهو ما كان يقصده البريطانيون بتعبير "الأعمال المشتركة Combined Action".
وحسب مقالة نادي أبو سعدة، فقد قسّم البريطانيون فلسطين إلى أربع مناطق طيران، حيث كانت كل منها من مسؤولية سرب، أو كتيبة. وقد كانت أرقام لاسلكي سلاح الجو الملكي موضوعة على سيارات خاصة Rodex، وموزعة على مختلف قطاعات عمل الجيش، وحالما يتم الاتصال مع هذه العربات، أو مع طائرات سلاح الجو، كانت تحدد أماكن تحرك هؤلاء، ويوجه نداء لسلاح الجو لدعم الجيش في منطقة الاشتباك مع الثوار.
"كانت جبهة فلسطين من بين المواقع المبكرة التي طبقت فيها الاختراعات التي وقعت خلال الحرب العظمى، ولم يأخذ البريطانيون الكثير من الوقت لإدراك أهمية هذا الاكتشاف في السيطرة على فلسطين الوسطى" |
من خلال التقسيم الجوي لفلسطين، ونظام الاتصالات الأرضي الذي أقامه البريطانيون خلال الثورة الفلسطينية الكبرى، كانوا قادرين على إدارة أربعة أشكال من الأعمال المشتركة. الأول دفاعي ضد الجماعات المسلحة، والتي تكون غالبًا نتيجة تلقي مكالمة، أو نداء أرسل من الأرض وأجيب عليه من القوة الجوية الضاربة. وكأمثلة على هذا النوع من "الأعمال المشتركة" كانت هنالك عملية نفذت في 28 تموز/ يوليو 1936 في باب الواد، والتي انتهت بقتل 11 فلسطينيًا. وكذلك كانت هنالك عملية نفذت في 24 أيلول/ سبتمبر 1936، في تلال نابلس، كان من نتيجتها إصابة 50 مواطنًا فلسطينيًا، منهم 41 مصابًا بجروح جراء ضربة جوية، وإلقاء 33 قنبلة.
ثانيًا: لأغراض الاستطلاع الجوي الذي يتضمن تحديد أماكن العدو؛ الاستطلاع الأرضي؛ والاستطلاع لغايات إيقاع تخريب في خطوط الاتصالات الرئيسية.
ثالثًا: استخدام القوة الجوية لمرافقة قوافل العربات العسكرية، وفي درجة أقل حركة القطارات التي تحمل القوات والعتاد.
وأخيرًا (رابعًا) استخدام سلاح الجو من أجل التواصل مع القوات على الأرض وتزويدها بالمواد، وهو الأمر الذي كان ضروريًا في حالة أو اثنتين خلال فترة تواصل الثورة. وبالنسبة للإنكليز، فقد كانت هذه الأشكال من "الأعمال المشتركة" مهمة من أجل تنفيذ استراتيجياتهم المعادية للثوار.
الألمان يجددون الطلعات الجوية ويصورون فلسطين
في 24 حزيران/ يونيو 1941، في ذروة الحرب العالمية الثانية، حلقت طائرة حربية فوق حيفا لتلتقط الصور للمدينة(6). ولمدة ثمانين دقيقة حلقت الطائرة الحربية الألمانية فوق فلسطين وشرق الأردن. وخلال ذلك صور الطيار كلا من مدينة تل أبيب، وادي الأردن، طبريا ومطار يقع إلى الغرب من مدينة عمان.
قرب بحيرة طبريا فك الألمان الشيفرة الخاصة بموقع مهبط الطائرة المائي إلى جنوب البحيرة. وفي طريق العودة، صور الطيار الألماني حيفا، حيث كانت مضادات الطائرات البريطانية تحاول إسقاط طائرته من دون نجاح، وقد استطاعت الفرار والعودة إلى قواعدها في اليونان المحتلة حينذاك من قبل الألمان.
لم تكن تلك المرة الوحيدة خلال زمن الحرب العالمية الثانية التي يخرج فيها الألمان في طلعة جوية فوق فلسطين. وقد كشف باحثون تاريخيون عن مجموعة من مئات الصور الفوتوغرافية لفلسطين كانت قد التقطت بواسطة سلاح الجو الألماني (Luftwaffe) خلال الحرب العالمية الثانية، وفق دراسة نشرت حديثًا بالعبرية.
كانت هنالك 286 صورة هي حصيلة 50 غارة شنتها الطائرات الألمانية، ووجدت في الأرشيف الوطني الأميركي، وذلك من أصل مليون صورة فوتوغرافية ونيّف التقطت بواسطة الطيران الحربي الألماني خلال الحرب العالمية الثانية. وهذه الكمية الهائلة من الصور كانت قد وقعت بيد الحلفاء وسلمت للمخابرات المركزية الأميركية (CIA)، حيث استخدمت للتحليل الاستخباري حول المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة السوفييتية خلال حقبة الحرب الباردة، وفي الثمانينيات كانت هذه الصور قد خضعت للتصنيف، قبل أن تحفظ في الأرشيف الوطني الأميركي.
الهاغانا وتصوير فلسطين من الجو
يبقى أن نشير هنا إلى دور المنظمات الصهيونية، ولا سيما الهاغانا، المنظمة العسكرية الرئيسية للحركة الصهيونية في فلسطين، والتي شكلت نواة "جيش الدفاع الإسرائيلي" بعد حرب 1948 ـ في عمليات المسح الجوي لجمع المعلومات، عن القرى والمدن الفلسطينية، وكذلك إلى بعض المبادرات اليهودية الخاصة غير العسكرية للقيام بتصوير جوي لمناطق عدة من فلسطين، في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي.
تقدم مقالة رونا سيلع، الباحثة الإسرائيلية المتخصصة بالجانب البصري من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتي تحمل عنوان "استكشاف الأراضي الفلسطينية (1940/1948): ملفات القرى والصور الجوية والاستطلاعات الخاصة بالهاغانا"(7) عرضًا وافيًا لجهود الهاغانا لتصوير القرى الفلسطينية من الجو، وذلك في إطار جهودها الاستخبارية الرامية إلى جمع معلومات عن القرى والمدن الفلسطينية، والتي عرفت باسم "ملفات القرى". فقد استخدمت الهاغانا، منذ عام 1943، الكشافة من الشباب اليهود في عمليات توثيق المعلومات عن القرى الفلسطينية، والذين كانوا يتحركون بشكل منهجي لبناء قواعد معلومات عن هذه القرى، تحت ستار النزهات والمسيرات الطويلة، سيرًا على الاقدام، وكان هؤلاء يقومون بجمع المعلومات التفصيلية عن الطرق والأحياء السكنية والمباني العامة والآبار والكهوف، وغيرها.
"كشف باحثون تاريخيون عن مئات الصور الفوتوغرافية لفلسطين كانت قد التقطت بواسطة سلاح الجو الألماني (Luftwaffe) خلال الحرب العالمية الثانية، وفق دراسة نشرت حديثًا بالعبرية" |
ولأن الصور الفوتوغرافية اعتبرت مصدرًا "موضوعيًا" و"موثوقًا" للمعلومات، فقد دربت فرق الكشافة اليهودية على استخدام الكاميرات في جولاتها التجسسية. وفي نهاية عام 1945 باشرت الهاغانا بتصوير القرى والمواقع الفلسطينية ذات الأهمية من الجو، وذلك لجمع معلومات مسبقة عن القرى والأهداف الفلسطينية المتوقع مهاجمتها واحتلالها في وقت لاحق. وقد استعانت الهاغانا بمصورين جويين محترفين، كان بعضهم من مصوري سلاح الجو الألماني إبان الحرب العالمية الاولى، وآخرين يعملون لصالح شركة "أفيرون للطيران" التابعة للوكالة اليهودية.
تقول رونا سيلع: "تظاهر الطيارون بأنهم أعضاء في نادي "أفيرون" للطيران من أجل تصوير المواقع المستهدفة، من دون إثارة الشبهات. واتخذت الرحلات الأولى طابعًا رومانسيًا، إذ يأتي إلى المطار عاشقان (....) يرتديان ملابس يوم السبت الاحتفالية الملائمة لمثل هذه الرحلات. وكانت المرأة تحمل دائمًا حقيبة يد كبيرة، بما يكفي لوضع الكاميرا والأفلام فيها، وفي ما بعد أضيف غطاء آخر للرحلات تمثل في اصطحاب طفل مصاب بالربو، وادعاء أنه يحتاج، كما نصح الطبيب، إلى التحليق عاليًا في الجو".
وفي هذه الأثناء، كانت البالماخ، قوات النخبة الضاربة التابعة للهاغانا، قد أكملت تشكيل تنظيم سرب طائرات تابع لها. وقد عهدت إليه بمهمات التصوير الجوية، مستفيدين من كون الطيارين مسجلين من قبل كأعضاء في نادي الطيران. وهكذا فقد كان هؤلاء يطلبون زيادة ساعات الطيران، من دون أن يثيروا الشك حول الهدف من إطالة ساعات الطيران. وقد عرف هؤلاء باسم "الفرقة المحمولة جوًا" داخل البالماخ، فيما جرى تقديمهم في الخارج باعتبارهم مجرد أعضاء في نادي الطيران التابع لشركة أفيرون.
تعرض رونا سيلع في مقالتها الآنفة كيف أنشأ يتسحاق شيفر، مدير التدريب الميداني في الهاغانا في تل أبيب، مدرسة للمصورين الجويين لتدريب الطيارين على مهمات التصوير، وكانت مؤلفة من غرفة واحدة كان يتقاسمها مع زوجته.
وتضيف: "كان الطيارون يخبئون الأفلام في مستودع نادي أفيرون في مدينة الرملة، ثم يلصقونها على أجسادهم ليخرجوها من المستودع. ولكي لا يضطروا إلى نقل الكاميرا، فإنهم كانوا يخفونها في مخبأ في الرملة. وعندما كثف البريطانيون تحقيقاتهم في ما اعتبروه عمليات مشبوهة للهاغانا، صار الطيارون يحلقون فوق بقعة معينة، بالقرب من مخيم البالماخ في مستوطنة ناعان، ثم يلقون بالأفلام من الطائرة قبل توجههم للهبوط في الرملة. وكانت الأفلام تخبأ في جيوب صغيرة تمت خياطتها في مستوطنة ناعان، وكانت تملأ بالرمل، ويوصل بها ذيل ملون لتسهيل العثور عليها".
وحسب مقابلات أجرتها رونا سيلع مع مسؤولي أرشيف الهاغانا في تل أبيب، كانوا قد أجروا أبحاثًا حول مشروع ملفات القرى، فقد أفاد هؤلاء بأن الكثير من الصور الجوية للقرى العربية قد أحرق بعد قيام دولة إسرائيل. لكن رغم ذلك ما زال هناك الكثير جدًا من الصور والمسوح الجوية للقرى والبلدات الفلسطينية، التي تقترح سيلع على الفلسطينيين اللجوء إليها لإعادة قراءتها والاستفادة منها، لا فقط للحصول على المعلومات الخاصة بالقرى المدمرة، أو التي استوطنها مهاجرون يهود، وإنما أيضًا لاستخراج المعلومات عن أكثر من 750 تجمعًا فلسطينيًا تم تصويرها من الجو. وترى سيلع أن هذه الصور تتوافر على معلومات هامة تخص الجوانب المعمارية والزراعية والجغرافية والاجتماعية والتاريخية، للتجمعات والقرى الفلسطينية.
للاحتفاء بعيد ميلاده.. زلمان شوكن يصور فلسطين من الجو!!
بعيدًا عن التصوير الجوي لأغراض عسكرية، أو استخبارية، كان زلمان شوكن (وهو ناشر ورجل أعمال بارز امتلك أيضًا صحيفة هآرتس) بصدد الاحتفاء بعيد ميلاده الستين، في 23 أكتوبر / تشرين الأول 1937، وأراد أن يعد هدية متميزة لمن احتفوا معه، وأهدوه هدية بهذه المناسبة. وهكذا اتفق مع نحمان شيفرين Nechman Shifrin، صاحب وكالة التصوير المعروفة باسمOrient Press Photo Agency ، على إعداد ألبوم صور جوية للمدن والمناطق ذات الأهمية الخاصة لليهود من فلسطين(8).
كان شيفرين الذي تعاقد معه زلمان شوكن يهوديًا ألمانيًا، ومع صعود هتلر إلى السلطة عام 1933، وبدء عمليات التضييق على اليهود بمن فيهم المصورون الفوتوغرافيون، أدرك أن هذا هو الوقت المناسب لمغادرة ألمانيا. وهكذا قام ببيع وكالة التصوير الكبيرة التي تعود له في برلين، وهاجر إلى فلسطين، حيث لاحظ حاجة قطاع الصناعة اليهودي المزدهر في فلسطين إلى خدماته في عمليات الترويج لتلك المصنوعات. ويقول د. غيلي ويسبلي، الباحث في أرشيف الصور، التابع للمكتبة الوطنية الإسرائيلية، في مقالة له في صحيفة هآرتس (7 آذار/ مارس 2017): لم يكن شيفرين مصورًا، لكنه اصطحب معه إلى فلسطين واحدًا من ألمع المصورين اليهود قبل قيام الدولة العبرية، وهو سلطان كلوغر Zoltan Kluger. كان كلوغر يهوديًا هنغاريا، قدم إلى ألمانيا. وعمل فيها من عشرينيات القرن المنصرم. وقد وجدت المؤسسة الصهيونية، ولا سيما "كيرن هيسود" والصندوق القومي اليهودي، ضالتها في هذا المصور صاحب الشخصية المتواضعة والعظيم المهارة، حيث استخدموه في التقاط أهم الصور الدعائية التي أنتجتها الآلة الصهيونية للترويج للمستوطنات اليهودية، وللمشروع الصهيوني عمومًا، ولاستدراج اليهود الأوروبيين للهجرة نحو فلسطين.
"حسب مقابلات أجرتها رونا سيلع مع مسؤولي أرشيف الهاغانا في تل أبيب، كانوا قد أجروا أبحاثًا حول مشروع ملفات القرى، فقد أفاد هؤلاء بأن الكثير من الصور الجوية للقرى العربية قد أحرق بعد قيام دولة إسرائيل" |
إن تعاون كل من رجل الأعمال والناشر، زلمان شوكن، ونحمان شيفرين، قاد إلى التقاط أربعين صورة جوية لمواقع مختلفة من فلسطين على يد المصور سلطان كلوغر، الذي تنقل على طائرة مستأجرة لصالح شيفرين ووكالته، من فوق عشرات المواقع البارزة في فلسطين مثل: القدس والحرم القدسي، ميناء حيفا، ضواحي القدس الغربية، وادي الأردن، جبل سكوبس، تل أبيب، القلعة الرومانية في عتليت. هذا بالإضافة إلى عدد آخر من الصور للمستعمرات اليهودية الكبرى، مثل نهلال، وطيرات تسفي، ومحطة توليد الكهرباء في نهرايم.
وتعزو الصحيفة الإسرائيلية أهمية هذه المجموعة من الصور الجوية إلى أنها أنتجت على يد مصور موهوب هو سلطان كلوغر، بعد أربع سنوات على وصوله إلى فلسطين، لكن ميزاتها الخاصة هي أنها ـ حسب الصحيفة ـ أول صور جوية لا تلتقط لأغراض عسكرية في فلسطين، وإنما بمبادرة من شخصية يهودية عامة، عرفت برعايتها للفنون والآداب.
على أن هذا لا يحول دون توصيف هذه الصور، شأن بقية الإرث المعروف لسلطان كلوغر، بأنها شكل من أشكال الدعاية المبكرة للمنجز الصهيوني على أرض فلسطين، وأن جمالياتها مكرسة لغاية بناء دولة يهودية في فلسطين على حساب سكانها الأصليين، ليحل محلها سكان آخرون غرباء عنها.
الهوامش:
1 Tamara Hodali، Aerial Photography Of Palestine: A Spying Mission Produced Valuable Documentation.
This Week In Palestine، 4 June 2016
وقد استندت المقالة إلى ورقة بحثية مطولة كانت قد أعدتها ندى الأطرش:
"Mapping Palestine: The Bavarian Air Force`S Wwi Aerial Photography"
المنشورة في "حولية القدس"، العدد السادس والخمسون. وهي المجلة الصادرة باللغة الإنكليزية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
2- أنظر: موقع متحف الحرب الأسترالية التذكاري على شبكة الإنترنت.
3- أنظر:Australian War Memorial: Australian Photographers Related With Mena Https://Www.Awm.Gov.Au
4- Dov Gavish ،An Account Of An Unrealized Aerial Cadastral Survey In Palestine Under The British Mandate، The Geographical Journal، Vol.153.No.1(March 1987.Pp.93-98).
5- Nadi AbuSaada، Combined Action: Aerial Imagery And Urban Land Scape In Inter War Palestine،"1918-46" Jerusalem Quarterly، Issue 81، Spring 2020.
6- أنظر/ Never – Before – Seen Aerial Photos Of The Pre-State Israel Taken Bya Nazi Pilot. Haaretz.Com.
7- أنظر: رونا سيلع، استكشاف الأراضي الفلسطينية، 1940 ـ 1948. ملفات القرى والصور الجوية والاستطلاعات الخاصة بالهاغانا. ترجمة ريم دبيات، مجلة دراسات فلسطينية، العدد 98، ربيع 2014.
8- صحيفة هآرتس، 7 آذار/ مارس 2017.