"صوت الما رضخوش"... آمال المثلوثي والدعوة إلى "فنّ ثوري"
محمود الشرعان
الأحد 31 أكتوبر 2021 م
تغنّي كلمات تحمل رسائل تحبّ التعبير عنها، لا ما يطلبه الجمهور. تخلق لنفسها إيقاعاً خاصاً يسعدها. تعرّف نفسها بأنها تونسية عربية أمازيغية روسية فرنسية، في تنوّع ينعكس في ما تقدّمه عبر فنها وحضورها. لا قالب واحداً ثابتاً. لا كلمة واحدة. لا إيقاع ثابتاً... بل مجموعة من الأفكار من كل الاتجاهات الجغرافية والفكرية بشكل فنّي ثائر على ما هو تقليدي.
في شتاء عام 2015، صعدت الفنانة آمال مثلوثي بهدوء على مسرح مدينة أوسلو في حفل جائزة نوبل للسلام، وسط دهشة الحضور وانتظار التونسيين.
ومع أول "كوبليه" لها، تصاعد تفاعل الجمهور. غنّت فأطربت: "أنا أحرار ما يخافوش/ أنا أسرار ما يموتوش/ أنا صوت الما رضخوش/ أنا في وسط الفوضى معنى/ أنا حق المظلومين...".
حظي أداؤها بتصفيقٍ حار من الجمهور وثناء الصحافة الدولية. هذه الأغنية، بنظر آمال، بمثابة "شعلة لا تنطفئ، ومهما مرّت السنوات تبقى ثابتة".
مهما حاوَلَت ألا تغنّيها في حفلاتها، إلا أن الناس يطلبونها. كانت هذه الأغنية نقطة تحوّل في حياتها الفنية، وهي برأيها تجسد المعنى الحقيقي للفن.
السن الخامسة عشر، بدأت آمال المولودة عام 1982 أولى خطواتها الفنية. أسست فرقة موسيقى هيفي ميتال، فهي من أشد المعجبين بهذا النوع الموسيقي، لكنها كانت أيضاً تسمع أغاني للشيخ أمام وفيروز وأم كلثوم وتسمع موسيقى بيتهوفن، وموسيقى من الهند وإيران ودول أوروبية مختلفة، وفي نفس الوقت تقرأ لنجيب محفوظ ودوستويفسكي وآخرين. تعتقد أن على الفنان أن يسمع كل شيء.
وعام 2004، انفصلت عن الفرقة وبدأت تكتب أغانيَ سياسية، وأوصلتها أغنيتها الشهيرة "يا تونس يا مسكينة" إلى نهائيات جائزة راديو "مونت كارلو" للموسيقى العربية، وهي جائزة لتشجيع المواهب الجديدة في مجال الموسيقى والغناء في دول عربية عدّة.
دعت في أغنيتها تلك إلى الثورة، رافعةً رسالة سياسية ذات سقف مرتفع من كل شيء: "يقولو الخوف كان من ربي/ كبديت نفهم/ وغزرت للعالم/ لقيتهم يخافو من كل شيء/ كان من ربي/ الخوف ساكن في عظامهم/ سكات عيشتهم/ علموهولهم في الكراس/ غرسوهولهم في الراس".
بعد ذلك بعامين، منعت الحكومة التونسية بث أغانيها في الإذاعة والتلفزيون، ما دفعها للانتقال إلى فرنسا. ورغم الحظر، انتشرت فيديوهات عروضها في فرنسا على الإنترنت، ما جعلها أكثر شعبية باعتبار أن "كل ممنوع مرغوب".
قرار منعها من الغناء في تونس كان "مسألة حساسة جداً وأكبر تكلفة تكبّدتها"، برأيها. تعتقد أن الكلفة لا تزال مستمرة لغاية اليوم، خاصة وأنها غير قادرة على التواصل بشكل دائم مع جمهورها التونسي. "أنا روحي في تونس، المكان اللي نولدت فيه وكبرت فيه. نقطة حساسة جداً ونحس إنها من التكلفة اللي جاءت مع مجموعة تكاليف"، تقول.
"أنا نكرهها لكلمة نخبوية هذه بالذات عَ خاطر كلمة موسيقى ونخبوية ما يجوش مع بعض بنفس السياق وخاصة أن الموسيقي التي نؤمن بها واللي نشتغل عليها هي موسيقي غريزية جداً، فيها العفوية والمشاعر"
وبعد انطلاقة شرارة ثورة الياسمين في تونس، في كانون الأول/ ديسمبر 2010، وفي سياقها الذي أسفر عن إسقاط زين العابدين بن علي، جذبت آمال انتباه الرأي العام على نطاق واسع إذ أصبحت أغانيها أناشيد للثورة، ولا سيما أغنية "كلمتي حرّة"، وهي مزيجٌ من الإيقاع الإلكتروني والإيقاعات التقليدية، وغنتها بين الثوار في شارع الحبيب بورقيبة، في "ساحة الثورة".
الدخول في معترك السياسة لم يخِف آمال. ترى أن الفنان يجب أن يكون "حرّاً وحرّاً"، كما ترى أن السيادة والحكم للشعب، وأن الذي انكسر خلال الفترة الماضية يجب ألا يعود، خاصة وأن والناس لم تعد تقبل بالخيارات السيئة.
تؤمن بـ"أننا ورثنا أموراً عظيمة خلال السنوات العشر الماضية، تحتّم علينا الاستمرار في السعي والنضال"، وبأن "الديكتاتورية التي انتهت يجب ألا تعود"، كما تدعو المرأة إلى الثورة على نفسها.
تواصل صعودها الفني مكرّسة فنها للقضايا السياسية. "لا يزال يتعيّن علينا الشعور بألم الآخرين، هذا هو أساس عدم خضوعنا للتجرد من الإنسانية، هذه هي نقطتي الأساسية"، تقول مشيرة إلى أن فنها سيكون دوماً معنياً بالقضايا العامة وبمشاكل الناس وهمومهم، خاصة أنها تؤمن بأن الفنان عليه دور في تطوير آراء وأفكار الإنسان، وعليه أن يهزّ عقل الجمهور، ويجعله يحلم وينمّي خياله ويزيد تطلعاته و"يرى أشياء لم يرها من قبل".
"الفن هو آلة وعي". هي فلسفة آمال حول ما تقدمه. برأيها، الفنان هو الوحيد الذي لديه قدرة على الحديث عن هموم الناس ومشاكلهم، في ظل وجود مسرح وضوء وثقة الناس، مما يرتب عليه في نفس الوقت مسؤولية، ولذلك "على الفنان أن يكون حرّاً حتى يستطيع تقديم ما هو حقيقي". تقول: "بالنسبة إليّ، ماخذة حريتي 100%. هناك كثير أشياء تأخذ من حريتي. لكن أنا حرة حقيقةً".
آمال التي تجمع في اسمها الأمل، حملت أغانيها رسالتها الإنسانية، عبر الفن. في أغنيتها "إنسان ضعيف"، تحدثت عن الضغط والقهر اللذين يتعرّض لهما الإنسان على هذا الكوكب بشكلٍ عام. وفي "قديش"، حكت عن قسوة الإنسان مع الإنسان.
أما الأغنية الأقرب إلى قلبها، فهي أغنية "في كلِّ يومٍ". تشعر بأن كلماتها فيها مجهود ضخم، وخرجت قوية، وكمؤلفة هي سعيدة بها. تذكر أنها قالت كلماتها أمام الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وقالت: "أليس المرّ محتوماً، أليس المرّ محتوماً علينا"، فرد القاسم عليها: "لا ليس المرّ محتوماً علينا، فعلى الرغم من العنف والأحداث السيئة يبقى هناك بصيص أمل وتفاؤل".
"من المهم أن يكون لدينا في الوطن العربي فن حر أو فن ثوري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعلى كل الأصعدة: في الإيقاع، في الشكل، في اللحن في الكلمات"
تقول في أغنية في كل يوم: "في كل يوم يهجر الربيع قلباً، ويموت طيرٌ في ربا السماء. في كل يوم تخطف الحياة منّا أملاً جديداً، ونبكي الفرح، ونبكي الفرح، ونبكي الفرح في كل يوم، في كل يوم. في كل يوم يدفن العِباد فكرة، وتغيب روحٌ في كهف الحياة، في كهف الحياة، في كل يوم، في كل يوم. هذا واقعُ العيشِ، هذا واقع العيش، فلماذا نسير؟ فلماذا نسير؟ أليس المر محتوماً؟ أليس المر محتوماً علينا؟ في كل يوم تكشف الحياة سراً، وتهدينا نوراً يخرق الغيوم، يخرق الغيوم. في كل يوم، في كل يوم تشرق شمسٌ، شمس".
الرسائل المختلفة التي تحملها المثلوثي في أغانيها صدمت جزءاً من الجمهور العربي. البعض لم يتقبلها كنوع جديد من الفن، ما شكّل صعوبة لها، وترى أن الصعوبة ما زالت قائمة في بعض الأحيان خاصة وأن البعض يقول لها: "موسيقتك مش نخبوية". عن ذلك تجيب: "أنا نكرهها الكلمة هذه بالذات عَ خاطر كلمة موسيقى ونخبوية ما يجوش مع بعض بنفس السياق وخاصة أن الموسيقي التي نؤمن بها واللي نشتغل عليها هي موسيقي غريزية جداً، فيها العفوية والمشاعر".
الصعوبات التي واجهتها آمال في بداية مشوارها الفني، أبعدتها عن طموح أن تكون معروفة في تونس والشرق الأوسط، معتبرةً أن موهبتها ممكن أن تأخذ حقها أكثر في الغرب. لكن كل ذلك تغيّر خلال الربيع العربي، إذ منحتها تلك الفترة أملاً.
تذكر حينما ذهبت إلى مهرجان الجونة الذي يعقد سنوياً في مصر، والذي يتواجد فيه الفن التقليدي. "كان الجمهور مختلفاً. كلهم ممثلون وأنا مش داخله أوي بالعالم هاد خاطر أنا مستقلة، وحسيت إنو في نظرة احترام كبيرة من الفنانين بالمهرجان، حسيت إنهم حبوني عَ خاطر الستايل تاعي ولأني مختلفة وهذا هدف حياتي: إني أعمل فرق"، تقول.
لكن لكل توجّه ضريبة. ضريبة الاستقلالية لدى آمال أنها تلاقي صعوبة بالغة في اختيار أغانيها. لم تحب طيلة مشوارها الفني أن تصعد على المسرح وتغني أغنية لا تؤمن بها أو تحبها أو تتوافق مع طريقة تفكيرها. تعتبر أن الفنان يجب أن يكون صادقاً مع نفسه ومع جمهوره لأن هناك ثقة ممنوحة له ويجب أن يكون على قدر تلك الثقة وأكثر.
تشعر بأن الشباب العرب اليوم لديهم تقبّل للنوع الموسيقي الذي تقدّمه أكثر من أي فئة أخرى، وأن الأمور بدأت تتغير في الوطن العربي، إلا أن أغلب الفن الدارج لدينا لا يزال من ذات النوع، سواء في الراديو أو التلفزيون أو المهرجانات.
ورغم ما سبق، هناك موسيقى جديدة في المنطقة العربية: "يغني إلكترونك ويلعب غيتار ويحكي معهم عربي، هذا شيء مميز يحرك العالم ويخليهم متحمسين جداً، لكن الموضوع صعب شوي وبده شغل أكثر".
تصرّ آمال على أنه من المهم أن يكون لدينا في الوطن العربي "فن حر أو فن ثوري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وعلى كل الأصعدة: في الإيقاع، في الشكل، في اللحن في الكلمات". وهذا ما تطمح هي نفسها إليه.
تحاول أن تتفاعل مع البيئة المجتمعية التي تشبهها، وتشعر بأن على الفنان أن يكون موجوداً في كل الأماكن المحيطة به، ليس كفنان فقط، بل كجزء من مجتمعه، لا سيما أن الفن جاء بالطبيعة أو بالفطرة، فعلاقة الإنسان بالفن والشعر والموسيقى والرقص حاجة غريزية لذلك تفرح حينما يكون الفن مندمجاً بالعمل الاجتماعي أو السياسي. "يجب أن تكون هناك علاقة تكاملية بين الفن والحياة ككل"، تقول.
"في الوطن العربي، بفعل الدكتاتورية، أصبحنا نفضّل التقليدي على الجديد والمبتكر والذي يدعو للتجديد والتطوير، لكن في النهاية الفكرة كوهج النجمة لا يمكن أن تنطفئ"، تقول، فكل شيء يبدأ بفكرة بسيطة ثم تغيّر هذه الفكرة الواقع العام.
حول مشاريعها المستقبلية، تتحدث آمال عن أن ألبومها القادم سيكون مختلفاً كلياً، إذ سيكون نسوياً ويحمل دعمها لقضايا النساء، وكل مَن فيه سيكنّ سيدات، بمعنى أنه سيضم مؤلفات وملحنات ومنتجات.
في اللقاء الذي جمع آمال برصيف22 على هامش مشاركتها في الحفل الختامي لمسابقة iValues-2021، وهو مشروع تطلقه للمرة الأولى مؤسسة "فريدريش ناومان من أجل الحرية" الألمانية وهدفه "إعادة التفكير في السياسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، في العاصمة الأردنية عمّان، توجّه آمال، الفنانة والأم والثائرة على الظلم، رسالة حب واحترام إلى الجمهور العربي الذي ساندها في كثير من الأوقات، وتأمل بمستقبلٍ يزدهر بالحرية والفن والإبداع في منطقتنا العربية، بعيداً عن الحروب والدمار والكوارث.