Mohammed Dunia
مقالات مترجمة
مونيه
رسام الزنابق
كلود مونيه هو رائد التجريد والحركة الانطباعية. أضفى على الطبيعة نظرة جديدة، خالصة من كل حكم جمالي مسبق أو ذاتية محضة. سجل الضوء بالألوان، التي كان ثملاً بها، وصوره بأسمى تموجاته وأكثر تناغماته عبوراً وزوالاً. كان يرسم ما يحس به وليس ما يراه. إلا أنه دفع غالياً ثمن جرأته: لم يفهمه أحد. واعتبره البعض مجنوناً…
أينما عرضت لوحاته، يبقى " مونيه " بالنسبة للجمهور الفنان الانطباعي بامتياز، وأفضل من جسد الحركة الانطباعية، التي تكاد تختزل فيه وحده. مع ذلك، كان هذا الرجل المؤنس ضحية سوء فهم الجمهور لزمن طويل. وعاش سنواته الأربعين الأولى في عور وفاقة. ولعلنا نتذكر تلك الجملة الخبيثة والغبية، " إن ورقة جدران مرسومة، بدائية، لهي أفضل صنعاً من هذه "، التي قالها ناقد في إحدى الدوريات، عندما عرضت لوحة الفنان " انطباع، شمس مشرقة " مع لوحات زملائه. بدت لوحاتهم آنذاك متجانسة في عيون المشاهدين، ولم يتوانوا عن وصفه وزملائه بجماعة " الانطباعيين ". سخروا من " مونيه "، وأثاروا ضجة حوله، غير أنه واصل الرسم. ولما تكللت الانطباعية بالنجاح، استقر أخيراً في " جيفرني "، حيث صور في حديقة داره نتائج دراساته الممتعة لزنابق الماء، واستقبل فنانين ورجال سياسة، ومهد للفن الحديث.
لم يكن أحد مهيأً حينذاك للريادة الجديدة سواه، فـ " رينوار " أخطأ ورسم لوحات خلاعية، بل وغير متقنة في أخريات حياته. وكان " مانيه " نفاجاً، و " ديغاس " متذمراً، و " سيزان " غضوباً. أما " مونيه "، فكان عبقري الانطباعية المناسب. بعد عرض مجموعاته الشهيرة، من بينها وأروعها " زنابق الماء "، تبين كم كان " مونيه " موحياً بمجيء الحركة القادمة، التجريدية. وذاك برهان، إن كان ضرورياً، على أن الرسام لم ينبئ بأفول رسم القرن التاسع عشر، بل أنبأ بإطلالة رسم القرن التالي.
أيام العوز انتهت عام 1889، عندما هيأ له معرض " جولج بتي " الدائم فرصة تعليق لوحاته، والتعريف بأعماله منذ إقامته في قرية " جيفرني " الصغيرة ( 1883 )، فردوس الفنان الوحيد والحقيقي، على مسافة ستين كيلومتراً من باريس. كانت " جيفرني " تعني الريف، الذي اختصره الفنان في حديقته الخاصة، بجوار نهر " إبت "، حيث مارس مواهبه الحدائقية في منأى عن العالم كله. هنا تخلص " مونيه " من متاعبه المالية، وأراح بدنه وأرهق ذهنه في آن واحد، بادئاً محاولات هادئة وبارعة لإدخال الوجوه إلى المشاهد. وراق له بشكل خاص أن يصور نفسه فيها برفقة زوجته وابنه خلال النزهات الطويلة في الحقول. كانت لوحات تلك الفترة، المفعمة بالوداعة والأحاسيس، تبدو وكأنها من رسم صديقه " رينوار ". أصبحت حديقته ملهمة ألوانه، وبقي يسعى إلى سبر أسرار الضوء وانعكاساته على الماء والزهور، مبشراً بمجيء الفن الحديث: أخذت ألوانه الموحدة، المتضادة بعنف، وشبه الهندسية، والجريئة بمخالفتها كل القواعد السائدة، تنبئ بتركيبات لونية غير معهودة.
ظل على طريقته الأصيلة هذه إلى أخريات أيامه. كان يكفي أن يضع بعض البقع اللونية حتى تنبض اللوحة بالحياة. إلا أن موضوعاته بقيت تتكرر هي نفسها بعناد في هذه الفترة، بعد أن فتنته زنابق الماء بتغيرات ألوانها تبعاً لضوء النهار.
لم يكن مولعاً فقط بسيارته، بل أيضاً بترتيب حديقته، التي كان ينبتها زهوراً على مدار السنة، حسب الفصول: ففي الربيع، يزهر النرجس أولاً، ثم الخزامى، فالحلوة، والسوسن، التي كان الفنان يغرسها في صفوف طويلة وعريضة. وما إن يأتي حزيران، حتى يزهر الفوم العطري، والجُريسة، وأشجار الورد. ومع إطلالة أيلول تزهر الدهلية والنجمية. كان " مونيه " يرسم بلا انقطاع. كان يستيقظ في الخامسة صباحاً للتجوال في دروب " جيفرني "، بطول صفوف أشجار الحور وحقول خشخاش المنثور المحمرة، مرتدياً قبعته العريضة المستديرة وطقم الصوف الخشن الرمادي الذي لم يكن يبارح جسده. أصبحت هذه النزهة أحد طقوسه قبل أن يعود إلى المرسم. وحدث أن وزع وقته على رسم عدة لوحات في الوقت نفسه، وجميعها تحمل بصمات الرسام – الجنائني.
" أكوام التبن "، نجاح مباشر
تميزت سنوات 1889 – 1899 بمجموعاته الشهيرة بشكل خاص. لقد أحب " مونيه " دائماً أن ينجز عدة لوحات في الموضوع نفسه. أولى هذه المجموعات كانت " أكوام التبن "، التي طالما شاهدها في المناطق القريبة من الريف، عند نهاية مواسم الحصاد. رسم منها ثلاثين لوحة، لم تكن في أي حال نسخاً مختلفة لموضوع واحد، بل اختلافات في تتابعات اللون، والجو، والضوء وفقاً لساعات النهار والفصول، انطلاقاً من موضوع مشابه دائماً: متواليات بنفسجية، وبنية، وحمراء كأنما أراد بها الفنان مداعبة البصر. ولما عرضت عام 1891، شهدت " أكوام التبن " نجاحاً مباشراً واشترى جامعو لوحات أمريكيون الكثير منها. ولم يستطع متحف أورساي الفرنسي اقتناء إحداها إلا عام 1975. حملت المجموعة الثانية عنوان " أشجار الحور "، التي صورها متراصفة على ضفاف نهر إبت المحاذي لمسكن الفنان. رسم " مونيه " هذه الأشجار أربعاً وعشرين مرة، منبثقة من قلب ضباب الصباح، ووهاجة مع المغيب، وساكنة مع خدر الهواء، ومرتعشة عند هبوب الرياح الغربية. ولما فكرت البلدية بقطع هذه الأشجار، التي تملكها، وهو ما اعتبره " مونيه " مأساة، إذ لم يكن قد أنهى رسمها بعد، اشتراها ليكمل ما كان قد بدأه، ولتبقى واقفة أيضاً.
المجموعة الثالثة، الشهيرة أيضاً، هي " كاتدرائيات روان ". أمضى " مونيه " أكثر من ستة أشهر في سبر أسرار التبدلات اللونية على حجارتها. ولما عرضت عشرون من لوحات " الكاتدرائيات " الثلاثين عام 1895، كتب " جورج كليمنصو "، صديق الفنان والمدافع المتحمس عنه، مقالة في اللوحات، ونصح رئيس الجهورية بزيارة المعرض وتمنى عليه أن تكون هذه اللوحات من نصيب فرنسا وحدها: " تمثل هذه اللوحات مجتمعة لحظة استثنائية من لحظات الفن ". لكن الرئيس لم يكترث بهذه الأعمال، فتبعثرت بين مجموعات خاصة وأخرى عامة في الولايات المتحدة واليابان وأوربا، منها سبع في المتاحف الفرنسية.
في سن السبعين، الفن الحديث
من أجل " زنابق الماء "، المجموعة الأخيرة التي كرس لها السنوات العشرين التي تبقت له من الحياة، حفر عدداً من البرك الشهيرة، القائمة حتى الآن، وغرس فيها كل ضروب الزنابق المعروفة. ومن هذه النبتات المائية، استوحى لوحاته البهية، " زنابق الماء "، أو " الأعمال السامية "، وفقاً لعبارة " مارسيل بروست ". ولما شعر ببلوغه آخر تخوم الانطباعية، دفع رسام جيفرني بالحركة إلى آخر معاقلها: لكثرة تكراره، أصبح موضوع اللوحة الانطباعية أقرب إلى الحكائية، فانحل، وتلاشى، تاركاً المجال الحر للرسم النقي، أي للتجريد، الذي بشر به " مونيه " في عدد من " زنابق الماء ". وكما " تتسيانو " قبله، و " ماتيس " بعده، وكجميع الفنانين الذين بوركت شيخوختهم بسمو الرسم، تحول " مونيه "، وقد تجاوز السبعين من العمر، إلى طرق جديدة، إلى الفن الحديث. هل كان يعي ذلك وحسب؟ سئل قبل وفاته بأشهر، واكتفى بالقول: " كل ما أستطيع قوله هو أن الرسم صعب بشكل رهيب ". في الواقع، هل كان يمكن لذاك الذي قلب بهدوء كل دكتاتوريات الرسم، ليقوده نحو مغامرات جديدة، أن يقول أكثر من ذلك؟ .
عن
" باري ماتش " الفرنسية ترجمة محمد الدنيا