الأم في الفن التشكيلي.. عطفٌ لا يضاهيه أي حب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأم في الفن التشكيلي.. عطفٌ لا يضاهيه أي حب

    الأم في الفن التشكيلي.. عطفٌ لا يضاهيه أي حب
    دارين حوماني
    تشكيل
    "مادونا والطفل"، غويسبي ماريا كريسبي (1665-1747)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    تحضر الأم في الفن التشكيلي العالمي منذ القرن الخامس عشر وحتى يومنا هذا مع الكثير من الدلائل والتي سيصعب علينا اقتفاء معانيها كلها، إلا أن الأبرز هو ذلك المخزون الوجودي من العطف والذي لا يضاهيه أي حب. توارت أمهات بعض الفنانين خلف أعمالهم فكانت لوحاتهم كحارس بصري لكل ما تجسّده الأمومة منذ الأزل، بينما ظهرت الأم في أعمال أخرى ببورتريهات جاهزة لسرد آلام الحياة بكل تفاصيلها. في عيد الأم (21 آذار/ مارس) نتذكر عددًا من اللوحات العالمية التي جسّد بعضها صورة الأمومة بشكل عام، ونعرض هنا لثماني لوحات منها، فيما كانت اللوحات الأخرى نسخًا طبق الأصل لوجوه أمهات الفنانين مع ما تكتنزه نفوسهن من مشاعر وأسى، وقد وجدنا خلال بحثنا عددًا كبيرًا من هذه البورتريهات التي خلّد فيها الفنانون أمهاتهم لكننا اكتفينا بثلاث منها.

    "الأم الميتة" – إدوارد مونش

    "الأم الميتة" – إدوارد مونش (1863-1944)

    تعد هذه اللوحة التي رسمها مونش عام 1901 من أقوى الأعمال التعبيريّة. تخاطب هذه اللوحة الحزن العميق الذي عاشه مونش. توفيت والدة الفنان حين كان في الخامسة من عمره، وظلّ يعاني من ندوب نفسية طوال حياته جرّاء ذلك، وهو في هذه اللوحة يجسّد تلك اللحظات التي عاشها طفل فَقَد أمه في وقت مبكر جدًا. فجأة أصبحت والدته غير متاحة جسديًا وعاطفيًا كما انسحب والده من حياته فعاش في خوف دائم وهذا ما يظهر في نظرة الطفل الصغير الذي يحدّق في كلّ منا بقلق غائر في عينيه؛ هي إيماءة تشبه الصرخة الصامتة، واليدان مشدودتان بإحكام على الوجه. عبّر الفنان النرويجي في لوحته هذه وفي كل أعماله عمّا عاشه بالضبط، دون أن يخجل من الكشف عن نقاط ضعفه وآلامه.
    "الأم الميتة لوحة تخاطب الحزن العميق الذي عاشه إدوارد مونش، حيث توفيت والدته حين كان في الخامسة من عمره، وظلّ يعاني من ندوب نفسية طوال حياته جرّاء ذلك"
    "الأم وابناها"- غوستاف كليمت و"أم تضع الأطفال في السرير"- نورمان روكويل

    "الأم وابناها" – غوستاف كليمت (1862-1918)

    رسم الفنان النمساوي هذه اللوحة عام 1899. ويُظهر العمل جانبًا غير مألوفًا في أسلوب غوستاف كليمت الفني حيث كان موضوع كليمت الأساسي هو الجسد الأنثوي، وتميزت أعماله بالإثارة الجنسية الصريحة. لا يحتوي هذا العمل على عناصر زخرفية، ولا تظهر ألوانًا ذهبية كما هي لوحات كليمت. بدلًا من ذلك، يقتصر العمل على السواد بشكل كبير. إن التمايز الواضح بين جلد الوجوه المصمّم بألوان زاهية والألوان الداكنة للطبقات الأخرى يخلق انطباعًا بأن الرؤوس منحوتة بشكل بارز بين الأجزاء السوداء في ثنائية للأبعاد كأننا أمام جزر حقيقية وسط بحر داكن، ما يشير إلى شعور هذه العائلة بالوحدة في عالم مظلم. علمًا أن الخلفية المظلمة ليست فارغة تمامًا فثمة ما يوحي بوجود نافذة خلف الأم. لم يُعرف عن هوية الأفراد في اللوحة ويحكي النقّاد أن كليمت كان يعكس انطباعاته عن ظروف عائلته في هذا المشهد الخاص والحميم لأم شابة نائمة وطفليها النائمين أيضًا.
    "إن التمايز الواضح، في لوحة غوستاف كليمت، بين جلد الوجوه المصمّم بألوان زاهية والألوان الداكنة للطبقات الأخرى يخلق انطباعًا بأن الرؤوس منحوتة بشكل بارز بين الأجزاء السوداء في ثنائية للأبعاد، كأننا أمام جزر حقيقية وسط بحر داكن، ما يشير إلى شعور هذه العائلة بالوحدة في عالم مظلم"
    "أم تضع الأطفال في السرير" – نورمان روكويل (1894-1978)

    ظهرت لوحة الأم التي تضع الأطفال في السرير على غلاف "الملخص الأدبي" المنشور في 29 كانون الثاني/ يناير 1921. في هذه اللوحة، رسم نورمان روكويل زوجته الأولى إيرين كنموذج للأم، رغم أن زواجهما لم يثمر عن أولاد. نرى الأم تضع طفليها في السرير، صبي وفتاة، ويبدو أن كلا الطفلين نائمان. يؤكد الفنان الأميركي في لوحته على المسؤوليات التي تحملها الأم في اعتنائها بأطفالها وفي التفاصيل الأخرى الموجودة في الصورة من خلال اللحاف المرقّع والذي يتطابق مع إطار اللوحة. بالعودة إلى الحقبة الاستعمارية، كان اللحاف يجسّد الفنون المنزلية التي تتقنها النساء، وكان يمثّل حب الوطن حيث كان الأميركيون يحيون الأحداث التاريخية والمجتمعية بتطريز الألحفة. فجاءت هذه اللوحة لتمثيل الأمومة بشكلها الكامل من حيث حب الأطفال والوطن كموازاة للأدوار المهمة للأم التقليدية. وإن تطابق الإطار في اللوحة يذكّر المشاهد أن الراحة والحماية تخضع لإطار الأسرة في أميركا في ذلك الوقت.

    من سلسلة "الأم وأطفالها" - ماري كاسات

    "الأم وأطفالها" - ماري كاسات (1844-1926)

    اشتهرت الفنانة الأميركية ماري كاسات برسم الأم والطفل في لوحات انطباعية أثناء إقامتها في باريس توثّق فيها اللحظات الدقيقة للأمهات في حياتهن اليومية والاعتناء بأطفالهن، وهو موضوع تخصصت فيه بعد العام 1900. وفي نظرة إلى سلسلة أعمالها الفنية عن الأم، يمكن أن نرى أنها تصور الأمهات على أنهن نساء ممتلئات بالعاطفة والعطاء. تتناغم الألوان في أعمال كاسات عن الأم وأطفالها بين الوجوه الوردية والألبسة المضيئة والخلفيات النابضة بالحياة.
    "تم اعتبار ماري كاسات كفنانة جريئة في سنواتها الأخيرة في الاستمرار في تبني لغة بصرية جديدة لتصوير الحياة. وفي حديث لها، ينطبق على أعمالها، قالت: "لكي تكون رسامًا عظيمًا، يجب أن تكون كلاسيكيًا وحديثًا في الوقت نفسه""

    انجذبت كاسات في أعمالها إلى الباستيل لعكس التأثيرات المتلألئة للضوء والطبيعة وكوسيلة لأفكار جديدة في ذلك الوقت حول العفوية واللون وتضخيم الضوء في اللوحة. وقد عملت كاسات على تصدير هذا الفن الانطباعي إلى أميركا. شكّلت ألوانها القوية الأساس اللوني للانطباعية وما بعد الانطباعية، وكانت رسالتهم الأساسية هي أنه عندما يتم وضع الألوان المتقابلة لبعضها البعض على عجلة فإنها تزداد ثراءً. وقد تم اعتبار كاسات كفنانة جريئة في سنواتها الأخيرة في الاستمرار في تبني لغة بصرية جديدة لتصوير الحياة. وفي حديث لها، ينطبق على أعمالها، قالت: "لكي تكون رسامًا عظيمًا، يجب أن تكون كلاسيكيًا وحديثًا في الوقت نفسه".

    "زوجة مونيه وطفلتهما" – كلود مونيه

    "زوجة مونيه وطفلتهما" – كلود مونيه (1840-1926)

    رسم كلود مونيه زوجته وابنتهما خلال صيف عام 1875 في حديقتهما بباريس. وقد صوّرهما الفنان الفنرسي مرارًا بعد ذلك ما أدى إلى عدد من روائعه. على الرغم من أن هذه اللوحة الانطباعية تبدو وكأنها تصوير واقعي لمشهد يومي، إلا أن ضربات فرشاة مونيه فضفاضة وحيوية، وهو شيء سيبرزه لاحقًا في حياته المهنية، بالإضافة إلى التلاعب بأبعاد المشهد، مما يجعل المناظر الطبيعية تبدو ثنائية الأبعاد. غالبًا ما كان مونيه يعمل في الهواء الطلق لالتقاط جوهر الإضاءة الطبيعية على المناظر الطبيعية، فضلًا عن توثيق تجربة محيطه. في هذه اللوحة الزيتية نرى زوجة مونيه "كاميل" في الوسط ترتدي فستانًا أزرق طويل الأكمام وتحيك قطعة من القماش. وإلى يمينها رسم مونيه طفلتهما جالسة على الأرض كما صوّر الخلفية العشب الأخضر والشجيرات الزاهية الكاملة بأزهار وردية وحمراء.
    "إن الإيماءة التي تتحكم فيها اللمسات الانتقائية للضوء على خلفية مظلمة، في لوحة غويسبي ماريا كريسبي، تقود عين المشاهد من تعبير الأم الرقيق إلى اليد التي تضعها على جسد طفلها المسيح النائم"
    "مادونا والطفل" – غويسبي ماريا كريسبي (1665-1747)

    يُعد هذا التصوير الحميمي لمادونا والطفل المسيح النائم مثالًا رائعًا على الأسلوب الشخصي العميق الذي ميّز أعمال نضج جوزيبي ماريا كريسبي. تمكن الفنان الإيطالي من نقل الإحساس بالحنان إلينا وهذا ما ينفرد به الفنان تمامًا. إن الإيماءة التي تتحكم فيها اللمسات الانتقائية للضوء على خلفية مظلمة تقود عين المشاهد من تعبير الأم الرقيق إلى اليد التي تضعها على جسد طفلها المسيح النائم. في الظل، سنرى اليد اليمنى للرضيع تحمل صليبًا خشبيًا صغيرًا كرمز للتضحية.

    "يا رب ستكن مشيئتك"- فيليب كالديرون و"مادونا ليتا"- ليوناردو دا فينشي

    "يا رب ستكن مشيئتك" – فيليب كالديرون (1833-1898)

    هذه اللوحة من أعمال كالديرون التي أثارت نقاشًا عند رسمها عام 1850. نرى أمًا تحتضن طفلها يعيشان في ظروف صعبة. السجادة مهترئة وهناك رغيف خبز على المائدة، لذلك لا يزال لديها "خبزها اليومي"، إشارة إلى العنوان أيضًا أي الصلاة الربانية. في الخلفية صورة رجل، الذي اعتبره النقّاد أنه زوج المرأة لأنها ترتدي خاتم الزواج. وتشير صحيفة "التايمز" المرمية على الأرض إلى أن المرأة كانت تتابع أخبار الحرب. كما أن هناك رسالة على الأرض، في إشارة إلى أنها من زوجها الغائب. حاول الفنان الإنكليزي تجسيد قوة احتضان الأم لابنها ونظرتها إلى الأعلى للتعبير عن خوف الأم على طفلها وصلاتها للإله.
    "في لوحة "يا رب ستكن مشيئتك" حاول فيليب كالديرون تجسيد قوة احتضان الأم لابنها ونظرتها إلى الأعلى للتعبير عن خوف الأم على طفلها وصلاتها للإله"
    "مادونا ليتا" - ليوناردو دا فينشي (1452-1519)

    رسم الفنان الإيطالي لوحته "مادونا ليتا" عام 1490 ويصوّر+ فيها السيدة العذراء مريم وهي ترضع المسيح كتجسيد للحب الأمومي الأزلي. وترمز عباءة مريم الزرقاء إلى الكنيسة أما الثوب الأحمر والطائر الذي يحمله المسيح في يده اليسرى فيرمزان إلى آلام المسيح المستقبلية. وقد رسم دافنشي العذراء والمسيح في مكان داخلي مظلم بينما هناك نافذتين مفتوحتين على سماء زرقاء كأنه بذلك يصوّر الأمل. واللوحة موجودة حاليًا في متحف هيرميتاج في سانت بطرسبرغ.

    من اليمين إلى الأعلى بورتريهات: والدة فان غوخ، والدة بابلو بيكاسو، والدة رامبرنت



    "بورتريه والدة الفنان"- بابلو بيكاسو (1881-1973)

    من يصدق أن بيكاسو رسم هذه اللوحة لأمه وهو في الخامسة عشرة من عمره فقط؟ يرجع تاريخ هذه اللوحة إلى عام 1896. جلست الأم قبالة ابنها البالغ من العمر 15 عامًا، وكانت تبلغ من العمر 41 عامًا. تم العمل على قطعة من الورق كان على ظهرها رسم لرجل يدخن الغليون. يربط معظم الناس بيكاسو بأعماله التكعيبية، لكنه في الواقع قد تم تدريبه على الرسم بشكل كلاسيكي عندما كان طفلًا وشابًا. وقد أظهر موهبة فنية كبيرة منذ صغره وكانت عائلته ترى فيه معجزة، وفي ذلك يتذكر بيكاسو: "عندما كنت طفلًا، قالت لي أمي: "إذا أصبحت جنديًا، فستكون جنرالًا. وإذا أصبحت راهبًا، فسوف ينتهي بك الأمر كالبابا". وبدلًا من ذلك، أصبحت رسامًا وانتهى بي الأمر باسم بيكاسو". وعلى عكس أعمال بيكاسو التصويرية اللاحقة عن النساء بوجوههن المنحوتة ذات الزوايا الحادة وأعينهن القلقة، فإن هذا العمل يعدّ تقليديًا وواقعيًا. جلست الأم بشكل جانبي وقد رسم بيكاسو تفاصيل واقعية للشعر الأسود والقرط اللؤلؤي والثوب الأبيض مع نظرة الأم إلى أسفل في تعبير يعكس هدوء الأم. وقد أثار الأمر إعجاب المحيطين به في السهولة التي رسم بها بيكاسو بتقنية الباستيل المعقّدة.

    "على عكس أعمال بيكاسو التصويرية اللاحقة عن النساء بوجوههن المنحوتة ذات الزوايا الحادة وأعينهن القلقة، فإن بورتريه والدته يعدّ تقليديًا وواقعيًا"
    "بورتريه والدة الفنان" – فان غوخ (1853-1890)

    في أيلول/ سبتمر من العام 1888 تلقى فان غوخ، الذي كان يعيش في جنوب فرنسا، من شقيقته ويلهيلمينا، التي كانت تعيش في هولندا، صورة بالأبيض والأسود لوالدتهما آنا كاربنتوس. فشرع برسم لوحة لها مستندًا إلى الصورة. وقد أرسل فان غوخ بحماس هذه اللوحة لأمه، والتي كانت فنانة مائية ماهرة وشجعت أولادها على الرسم على الرغم من أنه عُرف عنها أنها لم تكن أمًّا حنونة. اعتقد الفنان أن والدته ستقدّر هذه اللوحة أكثر من أعماله عن الزهور والأماكن الطبيعية وذلك بعد سنوات من العلاقات المتوترة معها. كما شرع في إكمال سلسلة من الصور الشخصية لعائلته. وفي رسالة إلى شقيقه ثيو، كتب فان غوخ: "أنا أرسم أمي لنفسي. لا أستطيع تحمّل صورتها عديمة اللون، إنها تزعجني. أحاول أن أرسمها بألوان متناغمة كما أراها في ذاكرتي.." وتبدو والدة فان غوخ كسيدة من سيدات الطبقة الوسطى في ذلك الزمن مع خلفية خضراء. وعلى الرغم من أنه كان يأمل في إضفاء الحيوية على وجه أمه بالألوان، إلا أن اللوحة بدت شاحبة إلى حدّ ما، ويتعلق هذا جزئيًا بالألوان التي استخدمها فان غوخ والتي تلاشت بمرور الوقت، وقد اعترف الفنان الهولندي عن عدم رضاه عن العمل، فكتب لأخته: "لا أحب لوحة أمي بشكل كبير".
    "أرسل فان غوخ بحماس البورتريه لأمه، والتي عُرف عنها أنها لم تكن أمًّا حنونة. اعتقد الفنان أن والدته ستقدّر هذه اللوحة أكثر من أعماله عن الزهور والأماكن الطبيعية وذلك بعد سنوات من العلاقات المتوترة معها"
    "بورتريه والدة الفنان" – رامبرنت (1606-1669)

    تعود هذه اللوحة إلى العام 1628 حيث كان رامبرنت يرسم أمه في شبابه بشكل دائم، محاولًا تأكيد نفسه كرسام بورتريه وموثّق للتاريخ. تكشف اللوحة عن إتقان رامبرانت في شبابه للتفاصيل الدقيقة في رسم الجلد والعينين الغائرتين والفم المشدود والأنف البارز. ترتدي الأم عباءة من الفرو وفستانًا داكنًا متوّجًا بقميص أبيض مطرز. ألوان اللوحة قاتمة ويقابلها شحوب الجلد الأصفر ولون القميص الأبيض والتطريز الأصفر للغطاء. وقد أسقط الفنان الضوء من اليمين مباشرة على الوجه بطريقة بارعة لشدّ انتباه الرائي إلى ملامح الأم. تتجاوز هذه اللوحة معنى الشيخوخة التقليدي لنكون أمام تجسيد للزمن الذي يتسلل إلينا بآلامه العميقة.


يعمل...
X