صورة الفنان والعالم كخلفية.. الواقع والأفكار والأحلام

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صورة الفنان والعالم كخلفية.. الواقع والأفكار والأحلام

    صورة الفنان والعالم كخلفية.. الواقع والأفكار والأحلام
    تغريد عبد العال
    تشكيل
    "بورتريه الرجل اليائس"، غوستاف كوربيه
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    كيف يرسم الفنانون صورهم الشخصية؟ لا أقصد بذلك بورتريه الوجه والملامح، بل صور حياتهم الشخصية. بعضهم كتبها كتابة، فكانت مجرد بورتريه عما كانت عليه أفكارهم وأحلامهم، كما فعل جيمس جويس في روايته "صورة الفنان في شبابه". فقد كتب الروائي الأيرلندي صورته كما كان في شبابه متمردًا على بيئته المحافظة. في تلك الرواية يبدو الفنان الذي هو الأنا الآخر لجيمس جويس نفسه، متمردًا وحالمًا، رافضًا لتعاليم الكنيسة، لينتهي به الأمر بالرحيل عن مدينته إلى أوروبا كما قال عنها في الرواية: "لكي أجابه حقيقة التجربة، ولكي أولّد لديّ، داخل روحي، ذلك الوعي الذي لم يتمكن العرق الذي أنتمي اليه من خلقه لديّ". ويقول إدوارد سعيد عن الرواية: "ثمة ملاحظة مهمة من شيموس دين حول الرواية، بأنها الرواية الأولى في الإنكليزية التي يعرض فيها الشغف بالتفكير على نحو تام". يتجلى ذلك في التفكير بالفن والعقل في حياة المجتمع، حيث عبر عن التفكير كأسلوب لاختبار العالم، هكذا يصوغ جويس أفكاره عن الفن والإيمان والعقل في روايته. وقال سعيد أيضًا: "إن الحياة العامة العصرية، عندما ينظر إليها كرواية أو كمسرحية، لا كتجارة أو مادة خام لدراسة اجتماعية هي التي تتيح لنا أن نفهم بقدر من اليسر كيف يكون المثقفون نموذجًا ليس فقط لحركة سرية أو اجتماعية كبرى، بل أسلوب حياة، وأداء اجتماعي غريب الأطوار فعلًا".

    ولكن كيف كانت صورة العالم المقابلة لصورة الفنان؟ كانت صورة مدينته قاسية جدًا، ولكنها لا تخلو من الحنان، فيصف جويس عائلته والناس من حوله كمجموعة من الأشخاص الأنانيين القساة الذين يقودونه للهرب منهم إلى شاطئ آمن.
    "في رواية "صورة الفنان في شبابه" يبدو الفنان الذي هو الأنا الآخر لجيمس جويس نفسه، متمردًا وحالمًا، رافضًا لتعاليم الكنيسة، لينتهي به الأمر بالرحيل عن مدينته إلى أوروبا"
    في رواية "وسادة من عشب" للروائي الياباني ناتسومي سوسيكي، هناك صورة أخرى للفنان، مختلفة نوعًا ما عن رواية جويس، فالفنان يترك مدينته ويصعد الجبل من قرية ناكوي حيث يقع نزل المياه الحارة باحثًا عن السكينة بعيدًا عن عالم البشر. وخلال الرحلة يروي سوسيكي سيرة الفن والشعر. يهجو سوسيكي عالم الحضارة ويبدو في هذه الرواية وكأنه يرسم صورته الشخصية ونظرته للفن، فيقول عن ذلك: "الحضارة الراهنة تهب كل شخص رقعة صغيرة من الأرض وتقول له إن بوسعه أن ينام فيها ويستيقظ، تضرب فيما بعد سياجًا من الحديد حولها، وتهددنا بعواقب وخيمة إن تجرأنا ووضعنا قدمًا خارج السّياج". لكن ما يختلف هنا هي صورة الفنان الهادئ المبتعد عن الصراعات والناس، فيبدو في عزلته مناقشًا لنفسه طوال الوقت، فتكون الرواية مجرد حوار مع الذات، باستثناء تلك الحوارات القصيرة مع بعض الأشخاص الذين يصادفهم في لوحاته فيساعدونه في تكوين لوحته التي يبحث عنها فيجعلونه يتساءل فيما إذا كانوا جزءًا من لوحته ومن نظرته الفريدة للفن. ربما هذا أيضًا جزء من عالم الفنان ولو حاول الهروب منه.

    في رواية "وسادة من عشب" للروائي الياباني ناتسومي سوسيكي، صورة أخرى للفنان، مختلفة نوعا ما عن رواية جويس "صورة الفنان في شبابه"

    في تاريخ الفن، ظهرت بورتريهات عن الفنانين وهم يرسمون أنفسهم، لن أعرضها هنا بالطبع، لكن هناك أكثر من سؤال حول حالتهم النفسية وانعكاس لأزمة وجودهم في المجتمع. من هذه البورتريهات بورتريه لكوربيه، وبورتريه لفريدا كالو، وصورة شخصية مع ضمادة الأذن لفان غوخ.

    في "بورتريه الرجل اليائس" يرسم الفنان الفرنسي غوستاف كوربيه صورة لنفسه وهو في أوج تمرده، يفتح عينيه وينظر إلينا بدهشة وكأنه في حالة صدمة مما يحدث له في مجتمعه. كان كوربيه متمردًا، وربما يكون سر ذلك اليأس هو أنه لم يكن يتبع الصالونات الفنية ويحاول خلق فنه الذي ينتمي اليه، ولأنه كان يفتقد للتقدير والمال. جاء كوربيه إلى باريس ليحصل على درجة في الحقوق، ليتجه بعدها إلى الفنون. لم يتعلم كوربيه في أكاديمية للفنون بل درب نفسه على رسم لوحات الفنانين الكبار. وتلك كانت أزمته، لأنه كان يخاف الفشل. عانى كوربيه كثيرًا من الرفض، ولم يكن من السهل قبوله كفنان، ففي تلك الصورة التي رسمها، نرى كل أنواع الرفض، وتأتي قوتها من قوة المشاعر التي تنقلها العينان ويوحي بها الوجه. في النهاية نجح كوربيه في أن يكون له أسلوب خاص ومدرسة خاصة مختلفة عن الفنانين في تلك الحقبة الرومانطيقية. لكن هذا البورتريه، كما في بورتريهات أخرى للفنان، يبقى هو الصورة الشخصية لمعاناته وكأنه كان يريد أن يقول لنا بطريقة أخرى، لقد كنت هنا في هذه المنطقة من المشاعر المضطربة وهي التي ربما قادتني هنا.
    "عانى كوربيه كثيرًا من الرفض، ولم يكن من السهل قبوله كفنان، ففي تلك الصورة التي رسمها، نرى كل أنواع الرفض، وتأتي قوتها من قوة المشاعر التي تنقلها العينان ويوحي بها الوجه"
    أما الفنانة المكسيكية فريدا كالو، فقد كانت لوحتها "الفريدتان" من أقوى البورتريهات التي تعكس معاناتها. ما يميز هذا البورتريه هو أنّ فريدا تود قول أشياء كثيرة عن نفسها، فهي لا ترسم ذاتها، بل قصتها. في هذه اللوحة التي رسمتها فريدا بعد انفصالها عن حبيبها وزوجها دييغو ريفيرا، يبدو أنها منفصلة عن ذاتها وقلبها هو حالة الاتصال الوحيدة بروحها. تمسك فريدا بيد نفسها، وتحاول أن تفهم ألمها الخاص الذي رسمته على شكل جرح على فستانها. كان الألم حاضرٌ معها في اللوحة، وهذه الخلفية التي تملؤها الغيوم الداكنة ما هي إلا العالم خلفها. لا تنفصل فريدا عن معاناتها في بورتريهاتها الكثيرة ولعل صورتها كفنانة وعاشقة ارتبطت بألمها، ليس فقط بسبب الحادث الذي أقعدها لسنوات، بل لأنها أيضًا كانت فنانة تريد أن تكون لها شخصيتها الفنية مقابل شخصية زوجها وحضوره، فضلًا عن كونها عاشقة تعرضت للخيانة أيضًا.

    "الفريدتان"، فريدا كالو / "بورتريه شخصي"، فان غوخ

    في "بورتريه شخصي مع ضمادة الأذن" يرسم فان غوخ نفسه بعد أسبوع من خروجه من المستشفى عام 1889، وبعدما قطع أذنه اليسرى. حدث ذلك بعد شجار مع صديقه الفنان بول غوغان، الذي جاء ليقيم معه في آرل. في اللوحة يلبس فان غوخ مريولًا يذكرنا بأوقات عمله الصعبة، لكنها إشارة إلى أن فان غوخ قد صمم أن يتابع رحلته في الرسم. وهذا واضح في الأشياء من خلفه، كاللوحة اليابانية التي تلهمه. هنا لا نرى فقط الأذن المغطاة بضمادة، بل المرض الذي مع الفن يتحولان إلى مصير واحد، تؤكده نظرة الفنان التي تصر على الاستمرار.
    "كانت لوحة الفنانة المكسيكية فريدا كالو "الفريدتان" من أقوى البورتريهات التي تعكس معاناتها. ما يميز هذا البورتريه هو أنّ فريدا تود قول أشياء كثيرة عن نفسها، فهي لا ترسم ذاتها، بل قصتها"
    لعل هناك صور أخرى وبورتريهات أخرى تنقل صورة الفنان وصورة العالم الذي يواجهه، لكن المثير حقًا أن صورًا أخرى ينقلها العالم عن الفنان، في وضعه داخل أطر ولوحات ذهنية معينة. وهنا أتذكر ما كتبته الشاعرة الأميركية لويز غليك في قصيدة بعنوان "بورتريه": رسمت طفلة مخططًا لجسد/ بما تستطيع أن ترسمه/ لكنه فارغ تمامًا/ وليس بإمكانها أن تملؤه بما هو هناك فعلًا. بخط غير متماسك/ تدرك/ أن الحياة ناقصة/ فقد أزاحت خلفية ما عن الأخرى/ وكطفلة انحنت نحو أمها/ وسترسم أنت القلب/ باتجاه الفراغ الذي خلقته.



    مراجع:

    - صورة الفنان في شبابه، جيمس جويس، ترجمة ماهر البطوطي، دار الآداب.
    - صور المثقف، إدوارد سعيد، ترجمة غسان غصن، دار النهار.
    - ناتسومي سوسيكي، وسادة من عشب، ترجمة وليد السويركي، دار مسكلياني.
    - سيرة حياة فريدا كالو، هايدن هيريرا، دار المدى، ترجمة علي عبد الأمير صالح.
يعمل...
X