تشكيل
(بشير يلّس)
شارك هذا المقال
حجم الخط
مات الفنّان التشكيلي الجزائري بشير يلّس (1921-2022) وانتهى معه مسارٌ تحديثي راكم فيه الفنّان تجربة ثرّة وأعمالًا تشكيليّة مُميّزة، باعتباره رائدًا من روّاد اللوحة المسندية في الجزائر وعمودًا من الأعمدة التي ينبني ويُشيّد عليها الفعل الفنّي المَغاربيّ، بحكم تجذّره في الفضاء الجزائري، وقُدرته منذ استقلال بلده عام 1962 على مُعانقة اللوحة المسندية، بكلّ ما كانت تطرحه من أسئلة الحداثة والتّجديد والمُعاصرة والهويّة، فوجد الراحل نفسه مُنغمسًا في الجدل الفنّي الذي كانت تعرفه الساحة العربيّة، بين طلائع الحداثة البصريّة ونظيرتها التقليدية، التي كانت أكثر تعلّقًا بخصائص ومُميّزات الفنّ الحديث، خاصّة عند التجارب التشكيليّة، التي وجدت نفسها في مُنتصف القرن الـ 20 تُعيد نسخ صُوَر ونماذج من الفنّ الإسلامي على جسد اللوحة، كنوعٍ من الهويّة البصريّة أو تكرارٍ أعمى، لا يقود اللوحة إلى تفجير مَكنوناتها ومُعانقتها ليوميات الإنسان المَغاربيّ في فرحه ونشوته وبؤسه وجُرحه الذي لم يندمل بعد منذ الفترة الكولونياليّة. لقد بدت لوحات بشير يلّس في ذلك الإبان، وكأنّها ترفض الانغماس في أنطولوجيا التاريخ، لكنّها تشتغل عليه، باعتباره ذاكرة مُنسابة في لاوعي الفنّان، حيث يعمل على توليفها وتطويعها بصريًا، بطريقة تجعل فعل الذاكرة، يبدأ من جسده ويتوغّل أكثر في مسام الواقع وينتقل بشكلٍ أكبر، صوب فضاءات التاريخ البصريّ الجزائري.
"برز اسم بشير يلّس كواحدٍ من صنّاع حركةٍ تشكيليّة جزائريةٍ جديدة، لا تنفي في اشتغالاتها نماذج وصُوَر الفنّ الغربيّ على مُستوى الشكل، لكنّها تُحافظ بشغفٍ مُذهل على الموروث الثقافي الجزائري وإعادة الاشتغال عليه تشكيليًا، ما يُفسّر سيطرة براديغم التراث على المُمارسة التشكيليّة الجزائرية" |
ولد بشير يلّس في مدينة تلمسان بالجزائر. حظي في طفولته بتعليمٍ رصين بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر العاصمة، قبل أنْ يُفكّر في الهجرة، صوب باريس لمُتابعة دراسته في الفنّ التشكيليّ لمدّة 3 سنوات ويُقيم هناك أوّل معرضٍ فنّي له، اشتغل فيه على نفسٍ مونوغرافي بصريّ، استعاد فيه مدينة تلمسان وناسها ومعمارها وتراثها الثقافي داخل اللوحة المسندية بألوانٍ انطباعية خافتة. وهذا الأمر نفسه، سيتكرّر لأكثر من 70 سنة لاحقة، ظلّ فيها يلّس قريبًا من البيئة الجزائرية، لكنّه لم يُكلّف نفسه عناء رصد التحوّلات الاجتماعية أو السياسيّة، التي طالت الواقع الجزائريّ في لحظاتٍ جريحةٍ من مساره التحديثي، بل بقي مُلتصقًا لأكثر من 100 سنة في حياته بذاته وذاكرته الطفولية، كأنّه يبحث عن خلاصٍ روحيّ لجسده، انطلاقًا من سفره البصريّ، تجاه هذه الذاكرة الرمزيّة، بكلّ ما تُضمره من معانٍ وأحداث وواقع وأحلام، ما يزال هسيسها يجري في جسده. إنّ الطفولة بالنسبة للفنّان ليست مرحلة من مراحل نموّ الكائن، بل هي خزانٌ من الصُوَر والمَشاهد والمحكيات التي يُعيد نسجها وحياكتها بأسلوبٍ انطباع، يترك المُشاهد مُنبهرًا من سحر اللون وبرودته على جسد اللوحة. فهذا الاشتغال البسيط باللون ورسم ملامح بعض الأجساد الهَاربة والمُنفلتة من سُلطة الكادر تُعطي للوحة عُمقًا فكريًا وزخمًا جماليًا من تناسل الصُوَر والذكريات، فيترك ذلك انطباعًا لأيّ مُشاهدٍ عن الاحتفاء باللحظة التاريخيّة وضوئها الهَارب. أمّا بعض اللوحات الأخرى، فقد انتهج الفنّان أسلوبًا واقعيًا، لا يُبرز فيه ملامح شخصياته، لكنّ الأجساد، تظلّ واضحة المَعالم والرؤى وقادرة على دفع المُشاهد إلى التخييل بنفسه عن بعض طقوس وعادات الاجتماع الجزائري في الأحياء والمقاهي والأعراس وغيرها.
"ظلّ يلّس قريبًا من البيئة الجزائرية، لكنّه لم يُكلّف نفسه عناء رصد التحوّلات الاجتماعية أو السياسيّة، التي طالت الواقع الجزائريّ في لحظاتٍ جريحةٍ من مساره التحديثي" |
لم ينتبه الإعلام الفنّي في العالم العربيّ لرحيل بشير يلّس، في وقتٍ شغلت فيه لوحاته الساحة التشكيليّة العربيّة منذ نهاية الستينيات، وعملت على اجتراح أشكال وقوالب ومواضعات كانت صعبة في الفنّ التشكيليّ، كما خلقت بذلك جدلًا واسعًا بين الأصالة والمعاصرة، بين الانغلاق على الذات المُبدعة والتحرّر من شرنقتها. وقد بدا الأمر عاديًا بالنسبة لإعلامٍ فنّي مُرتبك، لا يعترف ولا يُتابع سير التشكيليين العرب ويُرافقهم في قلق الإبداع ويزور محترفاتهم وينسج معهم صداقاتٍ قويّة مبنية على حرقة الأسئلة وفتنة الأجوبة، خاصّة حينما يتعلّق الأمر بفنّان مثل بشير يلس، بحكم ما تطرحه أعماله على الساحة العربيّة اليوم من جرأة في تمثيل الواقع واستيعاب التاريخ الثقافي الجزائري وتطويعه على جسد اللوحة المسندية، بوصفه جُرحًا غائرًا وحاضرًا لا ينقضي. وفي هذا الأمر، ما يستحقّ التفكير في مفهوم الزمن عند يلّس واللّعب بأوتاره والعزف على وترٍ مخصوصٍ تُقيم صُوَره بين الواقع والخيال.
"لم يستهوه الواقع الفجّ بما ينطوي عليه من ندوبٍ وجراح، كملاذ بصريّ يتوسله الفنانون العرب منذ السبعينيات من أجل إقامة تواشجات بصرية مع اللوحة، بقدر ما جعل من الذات مُنطلقها الأساس" |
ينتمي يلّس إلى قّلة من التشكيليين المغاربيين الذين عملوا على تجديد المُمارسة التشكيليّة العربيّة، وإخراجها من كلّ ارتجالٍ مُضْنٍ أو تزويقية عمياء، لا ترى في اللوحة إلا وظيفة تزيينية. لذلك برزت أعماله منذ منتصف الستينيات، بوصفها أعمالًا مُهمّة تقترح على الجغرافية التشكيليّة اشتغالات مُختلفة ومُتباينة، سواء على مستوى التفكير من خلال العودة إلى التراث الثقافي وتطويعه لا مرئيًا أو عن طريق اللون وما يمنحه من بهجةٍ في ذاتية المُتلقّي، تجعله يُغيّر مفاهيمه وقناعاته حول الألوان ودلالاتها ورموزها في علاقتها بالوجود. ولم تكُن يومًا لوحات يلّس بمعزلٍ عن تاريخ الفنّ والمُختبر التجريبي التشكيليّ الغربيّ، إذْ سرعان ما نجد له مرجعيات فنّية مُتنوّعة، تُؤّثر بشكلٍ مُبطّنٍ مُذهلٍ في عملية إبداعه ومدى تمثّله للفنّ بصفةٍ عامّة، بما يجعل الذات تغوص تلقائيًا في عوالمها الحضارية ومرجعياتها الفلسفية. لكنّه هنا، لا ينسى تاريخه الشخصي وذاكرته الحضارية من خلال استعادته بشكلٍ لا مرئي للتراث الثقافي الجزائري وتطويعه بصريًا، وفق منظورٍ لا يجعل عملية الاشتغال ميكانيكية، وإنّما لا مرئية تقبض عن روح التصوّف بطريقةٍ معاصرة.
"إنّ المتأمّل جيّدًا في أعمال يلّس، سيتلمّس عن كثب أبعادًا هندسيّة رمزيّة دقيقة، لكنّه يصبغها بطابع الجنون ما بعد الحداثي على مُستوى انحدار الخطوط والكتل اللونية" |
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب