معرض إدوار مونك.. قصيدة للحياة والحب والموت أسعد عرابي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • معرض إدوار مونك.. قصيدة للحياة والحب والموت أسعد عرابي



    معرض إدوار مونك.. قصيدة للحياة والحب والموت
    أسعد عرابي 29 سبتمبر 2022
    تشكيل
    إدوار مونك في مرسمه عام 1920 (Getty Images)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    يتحفنا "متحف أورسي" (الأبرز في عاصمة النور) بمعرض بانورامي (الأول في شموليته) للمعلم التعبيري الوحيد في النرويج الفنان إدوار مونك (1863-1944م)، وذلك إثر معرضه السابق في نفس الموقع عام 1999 م بعنوان: "مونك وفرنسا"، تلاه متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو عام 2011 م بعنوان: "إدوار مونك والعين المعاصرة" وكان أبرز ما احتواه التحليل المستفيض للوحة "الرقص على الشاطئ" بقياس ممتد أفقيًا 316 سم X 90 سم.

    ابتدأ المعرض (الذي ينتظره الجميع) منذ العشرين من أيلول/ سبتمبر من العام الراهن مستمرًا على مساحة الموسم حتى الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير من العام المقبل 2023 م.
    "تأثر إدوارد مونك في بلد دراسته باريس بالألوان الوحشية ثم وبشكل خاص الثقافة البولينيزية التي استغرق بسحرها بول غوغان، لكن تأثير التعبيرية الألمانية كان أشد غورًا، وهو ما يفسر معاداة النازية لمنهجه الوجودي، بل يعتبره الألمان أحد مؤسسي تعبيريتهم"
    اجتمعت لوحاته لأول مرة بفضل تعاون متحف الفن النرويجي الوطني في أوسلو ومتحف أورسي في باريس معانقًا أشهر أعماله مثل "الصرخة" بتعددية نسخها وموادها، ولوحة "الطفلة المريضة" و "نساء على الجسر". إضافة إلى لوحات "الأوتوبورتريه" التي تتجاوز السبعين عملًا، منجزة بشتى المواد من الألوان الزيتية إلى أقلام الباستيل إضافة إلى النسخ المتعددة من أنواع الحفر والطباعة من المعدن إلى اللينوليوم ومن الشاشة الحرير إلى الليتوغراف. تتابع هذه المتواليات منعطفات سيرته الشخصية (على نموذج بورتريهات رامبرانت) بما فيها نكساته الوجودية، تكشف بذلك عدم استقراره ما بين مدينته الأم أوسلو وباريس وبرلين. يخضع أسلوبه لتأثير هذه الإقامات العديدة، تأثر في بلد دراسته باريس بالألوان الوحشية ثم وبشكل خاص الثقافة البولينيزية التي استغرق بسحرها بول غوغان، لكن تأثير التعبيرية الألمانية كان أشد غورًا، وهو ما يفسر معاداة النازية لمنهجه الوجودي، بل يعتبره الألمان أحد مؤسسي تعبيريتهم.

    "الرقص"، 1904، ألوان زيتية على قماش / "سهرة في حي كارل جوهان"، 1892، ألوان زيتية على قماش

    كما يتوازى أسلوب بيير بونار مع فلسفة هنري برغسون (السياق الحدسي لسيولة الذاكرة وتطورها الخلاق والوثبة الحية)، فإن عوالم إدوار مونك الكافكاوية تتوازى مع فلسفة مارتن هايدغر (باعتبار الموت غاية الحياة وليس حدثًا استثنائيًا لأنه من الضرورة التعامل معه على أساس وجودي)، هو أقرب إلى التفاصيل العبثية اللاغائية الرمادية المهمومة والتعبيرية في كتاب مارتن هايدغر الأخير: "وجود وزمان" الذي يعصى على الترجمة الفرنسية.

    يمثل فن تعبيرية إدوار مونك الوجودية روح دول شمال أوروبا الاسكندنافية الأربعة: النرويج والسويد وفنلندا والدانمارك كجغرافيا متوحدة مستقلة عما عداها بما فيها برودة الطقس وتقدم تقنية البنية التحتية والتوازن الاقتصادي (لدرجة تعتبر هلسنكي وأوسلو من المدن البالغة الثراء) مقابل الإحساس بالعزلة والوحدة وارتفاع عدد حالات الانتحار.
    "عوالم إدوار مونك الكافكاوية تتوازى مع فلسفة مارتن هايدغر، باعتبار الموت غاية الحياة وليس حدثًا استثنائيًا لأنه من الضرورة التعامل معه على أساس وجودي"
    نعرف اثنين من العباقرة يعبران مثل إدوار مونك عن هذا الاستلاب الكافكاوي العام، أولهم المخرج السينمائي الاستثنائي العالمي السويدي إنغمار برغمان (1918-2007 م) وفيلمه الرمزي "برسونا" بحواره الأنوي المرآتي المغرق في الجدل الذاتي، يريم على عالمه صمت مريب مثل الذي يسبق العاصفة وكذلك فيلمه "الأفعى" حيث تترامى تباشير كل صباح احتدامات كابوسية من القلق المهتاج لدى الفنان وزوجته يمنعه من النوم ويصم آذانه عويل الذئاب وكأن سياق هذا الهذيان الاكتئابي يستعيد لوحة "الصرخة"، أشهر لوحات إدوار مونك المعروضة بنسخها المتعددة، أما العبقري الثاني فهو الموسيقار العالمي الفنلندي جان سيبيليوس (1865-1957 م) ذو الأصل السويدي والذي عرف باختزال تقاليد السيمفونية عبر الاقتصار على حركة واحدة بدلًا من أربع معتمدًا على ألحان عدمية تقيم توليفًا حزينًا بين ايقاعات النور في الغابات البكر المحلية وإعدام الموتيف الإيقاعي بنفيه وصراعه مع نقيضه ضمن أنَّات ممتدة لا تخلو من الغبطة الكلاسيكية، لذلك يعتبر برزخًا متوسطًا بين تقاليد الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الحديثة والتي بادر بها الهنغاري بيلا بارتوك. تتطابق موسيقاه مع أفلام برغمان السوداء أو الرمادية لتنتمي إلى نفس الهم الوجودي والإحساس الملتبس بين السالب والموجب، بين الحياة والموت. وحول ألحان تشايكوفسكي إلى موال أوركسترالي حميم وحزين. ويعود السبب في قرار القيصر منح فنلندا حريتها في بداية عام 1917 إلى عشقه لموسيقى سيبيليوس.

    "أحمر وأبيض"، 1900، ألوان زيتية على قماش / "فتيات على النهر"، 1901، ألوان زيتية على قماش

    ربط عالم إدوار مونك بنظيره السينمائي برغمان والموسيقى سيبيليوس ليس من باب الصدفة، فعلاقة إدوار مونك بالثقافة الاسكندنافية لا تقل عمقًا عن علاقته العاطفية بعاصمة النرويج أوسلو خاصةً مع جسرها المركزي، لأن أغلب لوحاته الشهيرة تجري مشاهدها على ضفة هذا النهر الذي يصلح للتأمل الوجودي وربما الانتحار، هي حالة لوحته الشهيرة "الصرخة" مع تعددية تأويلها، ولوحة "النساء على الجسر" ولوحة "الرقص" وتصوير الجسر نفسه بدرجات زرقاء تراجيدية.

    لوحات مونك ليست بعيدة عن عوالم برغمان وسيبيليوس الوجودية ولا عن عدميتهما الفنائية.

    تكشف كثافة تصويره لوجهه (من خلال أكثر من سبعين لوحة يعانقها المعرض كما ذكرت) نكساته المتلاحقة خاصة خلال بواكير الحرب العالمية الثانية ابتداءً من وهن جسده والأمراض العامة والمجاعات وانتظار الموت البطيء بشتى الأسباب، فهو المصير الحتمي العبثي اللاغائي للوجود الإنساني، لدرجة أن جسر الانتحار أصبح موضوع مدينته الأثير، إضافة إلى العناصر الإحباطية الأخرى.
    "الصرخة"، 1893، ألوان زيتية على قماش وتامبيرا على كرتون/ "الفتاة المريضة"، 1893، ألوان زيتية على قماش
يعمل...
X