جدة مهاجرة تخوض رحلة تشبه رحلة المعري ودانتي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جدة مهاجرة تخوض رحلة تشبه رحلة المعري ودانتي

    جدة مهاجرة تخوض رحلة تشبه رحلة المعري ودانتي


    "قارورة زرقاء" للمصري شريف ماهر.. رواية أجيال ترسم مثلث النشأة بروح صوفية.
    الأحد 2022/10/30


    جدة تتذكر وتخوض رحلتها (لوحة للفنان أنس البريحي)

    كان الموت سيظل اللغز البشري الأكثر إثارة والذي قاربته كل الفنون والآداب، كل يقاربه من زاوية، ولكن رواية “القارورة الزرقاء” للكاتب المصري شريف ماهر مليكة لها مقاربة خاصة، إذ تجعل من الموت رحلة إلى الحياة، وتذهب أبعد من ذلك إلى رصد أجيال من المهاجرين.

    يقول محيي الدين بن عربي في “الفتوحات المكيَّة”: الإنسان مثلث النشأة: نشأة باطنة معنوية روحانية، ونشأة ظاهرة حسية طبيعية، ونشأة متوسطة جسدية برزخية مثالية.

    ويقول أمير الشعراء أحمد شوقي عن مصر: ألم تكُ مصرٌ مَهدَنا ثمَّ لحدَنا.

    وبين المهد واللحد تدور رواية “قارورة زرقاء” للكاتب الروائي شريف ماهر مليكة التي مرَّت بطلتُها الجَدة بالأطوار الثلاثة التي تحدث عنها محيي الدين بن عربي، ما بين أحلامها وروحانيتها، ثم وقوعها وإصابتها في الحمَّام، فموتِها، وعبورِها البرزخ للعالم الآخر، ثم عودتِها إلى الحياة مرة أخرى.
    ثلاثة أجيال



    الرواية تتناول قضية أبناء المهاجرين وأحفادهم الذين لا يعرفون شيئا عن جذورهم القديمة، بعد اندماجهم في المجتمعات الجديدة


    تدور الرواية بين مصر وبعض المدن والولايات الأميركية، حيث هاجرت الجَدة بعد استشهاد زوجها الضابط بسلاح المهندسين – وهما في أيام زواجهما الأولى – في معركة 5 يونيو 1967، ورفضت أن تحتفظ بالجنين الذي أخذ يغازل أحشاءها، وسرعان ما تخلصت منه. قالت لصديقتها فلفل: لا بد أن أتخلص من هذا الجنين في أسرع وقت. وفوجئت عائلتها بقرار مغادرتها مصر قبل السفر مع فلفل بليلة واحدة، ولم تجد معارضة قوية، ولم تعد إلى مصر من بعدها.

    وهناك ساعدها أصدقاءٌ لعائلة فلفل من اليهود السافارديم على الالتحاق بعمل في اليوم التالي لوصولها إلى مدينة نيويورك. لذا سنرى أن الرواية مطعَّمة بمقاطع من الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد.

    يؤكد السارد أن الأسماء لا تعنينا هنا، إذ هي مجرد أسماء، مثلها كمثل بعضها، لا تمثل فارقا مهما في سياق الحكاية، لذا سيكتفي بالتعريف بتلك العائلة بالأب والأم، وبعدهما الابن والابنة، إلى أن يعقبهم الجَد والجَدة في ما بعد.

    إذن نحن أمام رواية من روايات الأجيال، نتعرف فيها على ثلاثة أجيال، ولكنها ليست مثل ثلاثية نجيب محفوظ على سبيل المثال، التي اتسعت فيها الرؤية لترى المجتمع المصري بأكمله، وإنما “قارورة زرقاء” هي رواية أراها منغلقة على نفسها بعض الشيء، منغلقة على عائلة واحدة قليلة العدد، ولكنها ممتدة رغم قلة عدد صفحاتها (246 صفحة) مقارنة بثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية) التي امتدت لأكثر من ألف وخمس مئة صفحة. ولكنها – أي قارورة زرقاء – على أية حال، أكبر من رواية أجيال أخرى مثل “شجرة البؤس” لطه حسين التي وقعت في 148 صفحة، ورواية أجيال أخرى لنجيب محفوظ هي “الباقي من الزمن ساعة” التي وقعت في 158 صفحة، ونشرت عام 1982.

    في ثلاثية نجيب محفوظ سنلاحظ وجود عالم “العوالِم” بكثافة، ويفسر محفوظ ذلك بقوله: إن هذا العصر كان عصر “العوالِم”، وليس معنى ذلك أنني كاتب إباحي، أو أدعو إلى الإباحية. بينما نلاحظ وجود عالم الفودكا والنبيذ وأنواع أخرى من الخمور والمُسكرات بكثافة في “قارورة زرقاء”، وهو ما يعكس طبيعة حياة الشعوب الغربية، ومنها الولايات المتحدة، رغم تجريم تعاطي أو تناول المُسكرات في بعض الحالات التي ورد ذكرها في الرواية، وليس معنى ذلك أن شريف مليكة يدعو إلى تناول الخمور والمُسكرات بهذه الكثافة في الحياة اليومية، وإنما هو يعكس أو يصوِّر مجتمعًا تواجد فيه شخصياتُ روايته.

    وإذا توقفنا عند عقائد وديانات شخوص تلك الرواية، فنحن أمام عائلة مسيحية (لها الأغلبية في الرواية: ست شخصيات رئيسية) وأخرى يهودية (قليلة العدد: ثلاث شخصيات: فلفل وابنتها وحفيدتها) ومن بينهم شخصية ملحدة هي شخصية الأب “إذ جاهر الأب الشرق أوروبي بكونه ملحدا”. في مقابل الأم التي لم يعلق بذاكرتها من مدارس الأحد أيام طفولتها سوى الصلاة الربانية “أبانا الذي في السماوات” والمقطع الأول من ترنيمة وحيدة “كنيستي القبطية كنيسة الإله – قديمة قوية أرجو لها الحياة”.

    الجدة، والأم والحفيدة يمتلكن موهبة مشتركة خارقة للعادة، ذلك لأن لهن أرواحًا شفَّافة قادرة على التبصّر الصوفي

    وإذا كانت الجَدة التي كانت تسكن مع عائلتها في حي شبرا بالقاهرة، واعتقدتْ أنه يمثل العالم برمته، قد هاجرت من مصر، مع صديقتها يهودية الديانة داكنة البشرة بسبب أصلها الإريتري، لذا أطلقوا عليها اسم “فلفل”، فأصبحت مع الجدة – لبياضها – يمثلان “الملح والفلفل”، فإن الابنة تربَّت كفتاة أميركية عادية، وانخرطت مع المجتمع من حولها بصورة طبيعية، ومع مرور الوقت نسيت – أو تناست – كل أمر يربطها بجذرها المصري.

    وهكذا تبدأ في الظهور قضية أبناء المهاجرين وأحفادهم الذين لا يعرفون شيئا عن جذورهم القديمة، بعد اندماجهم في المجتمعات الجديدة التي ينتمون إليها. ولعلنا نلمس آثار تلك الهجرة الآن، بعد مرور عقود عليها، وظهور أجيال جديدة في سلالة المهاجرين لا يعرفون شيئا عن جذور آبائهم وأجدادهم وهو ما لمسناه بجلاء ووضوح في رواية “قارورة زرقاء” رغم محدودية عدد شخصياتها، مقارنة بثلاثية نجيب محفوظ التي حرَّك فيها أكثر من اثنتين وخمسين شخصية.

    لم تعرف الابنة عن مصر أكثر مما يعرفه أقرانها الأميركيون عن الأهرام وأبي الهول والحضارة المصرية القديمة الباهرة. رغم أن أمها (أي الجَدة) هاجرت من مصر في عصر متقدم نسبيا بعد هزيمة 1967، ويبدو أنها لم تحكِ شيئا لابنتها عن مصر، ويبدو أنها – الجَدة – لم تُرِد ذلك، رغم أنها في نهاية رحلة حياتها أوصت بأن تُحرق جثتُها ويوضع رمادُها في قارورة زرقاء تُدفن في البر الغربي بالأَقصر، لتعود بذلك إلى جذورها المصرية، ومن هنا يأتي عنوان الرواية، وأراه عنوانًا موفقًا ودالا يثير الكثير من التساؤلات والدهشة فيجذب القارئ للقراءة ليتعرف على تلك القارورة الزرقاء ومآلها.

    والقارورة هي الزجاجة – بأشكالها المختلفة – التي تستخدم لحفظ السوائل والأدوية والأطعمة وغيرها، فهي حاوية لهذه الأنواع التي بداخلها، وفي الرواية نجدها حاويةً وحافظةً لرماد أو رفات الجَدة، بعد حرق جسدها، واختيار اللون الأزرق للقارورة لم يأتِ عبثا، فاللون الأزرق هو اللون العاشق للحياة، هو لون السماء والبحر والجمال، هو اللون المائي سيد الألوان، الذي يرمز للبحار والأنهار ومصادر المياه الأخرى، على الرغم من أن الكيفية التي يمكِّننا بها الدماغُ من أن ندرك الألوانَ لا تزالُ سرًّا غامضًا لم يكشف تماما بعد، وقد أدرك إسحاق نيوتن أن الأشعة الضوئية ذاتَها ليستْ ملوَّنةً، وأن الإحساسَ باللون ينتجُ في الدماغ.

    واللون الأزرق من الألوان التي تتأثر بالبيئة والألوان المحيطة بها، لذا فإن دفن القارورة الزرقاء في بيئة مصرية بالقرب من البر الغربي ووادي الملكات، وهو مكان دفن الملكات في مصر القديمة، ويقع بالقرب من وادي الملوك بالأقصر، له دلالة رمزية كبرى في الرواية.


    ولكن بعد وفاة الجدة وحرق جثتها ووضع الرماد في القارورة يتمدَّد وباء كورونا فيُغلق العالم، ويُمنع السفر، ويُكره الناس على الجلوس في منازلهم، فلم يستطع أحد من أفراد الأسرة تنفيذ وصية الجدة، حتى نهاية الرواية، ليظل التساؤل مطروحًا، هل ستُدفن القارورة الزرقاء في الأقصر، أم سيتناسى الأبناء والأحفاد وأبناء الأحفاد وصية الجَدة العجوز؟

    تمتلك الجدة، ثم الأم، ثم الحفيدة موهبةً مشتركة خارقة للعادة، ذلك بأنهن يملكن أرواحًا شفَّافة تجعلهن قادراتٍ على اختراق الحاجز بين العالم المرئي الواضح للبشر قاطبة ثم الانطلاق نحو عالم آخر لا يعيه معظم البشر العاديين ولا يشعرون بوجوده.

    لذا سنجد أصداء هذه الرؤى أو الموهبة تتناثر في الرواية، وكأننا أمام مشاهد صوفية لا تفسير لها سوى النشأة الباطنة المعنوية الروحانية التي أشار إليها محيي الدين بن عربي وأوردناه سابقا.

    ومسألة التصوف على هذا النحو ليست مرتبطة بالدين الإسلامي فحسب، الذي لا نرى له سوى أصداء قليلة في الرواية، على عكس الحال مع الديانتين المسيحية واليهودية. ربما لأن مجتمع الرواية يدور معظمه داخل الولايات المتحدة من خلال أسرتين مسيحية ويهودية. فلم يكن هناك مبرر لدخول أسرة مسلمة من وجهة نظر السارد.

    أقول إن مسألة التصوف والحكمة والرؤى والتنبؤات الصحيحة ليست مرتبطة بالدين الإسلامي فحسب، فقد وجدناها مثلا في بعض الديانات الأخرى غير السماوية مثل البوذية والزرادشتية، ورأيناها في الأساطير الفرعونية والإغريقية مثل أسطورة أوديب وغيرها. كما رأيناها في رؤى وتفسيرات النبي يوسف عليه السلام، قبل مجيء النبي محمد خاتم الرسل والأنبياء.

    نحن أمام رواية من روايات الأجيال، نتعرف فيها على ثلاثة أجيال

    إذن هناك بشر يمتلكون اختراق الحاجز بين العالم المرئي والانطلاق نحو عالم آخر، مثلما رأينا في قصة الخضر والنبي موسى عليه السلام، وبعض الأولياء والعارفين والواصلين.

    ومن هؤلاء البشر كان هناك توارث لهذا الاختراق بين الجَدة والأم والحفيدة في رواية “قارورة زرقاء” والعبرة هنا – ونحن نتحدث عن عمل روائي – تتجلَّى في كيفية توظيف تلك الموهبة وإدارتها في ذلك العمل.

    فإذا لم يكن هناك توظيف واستثمار لها، لأصبح الأمر مجانيا، وادعاءً باطلا. ولكن استطاع المؤلف أو السارد استثمار هذه الموهبة أو هذا التجلِّي لبعض البشر، مما أعطى العمل بُعدًا ميتافيزيقيًّا رائعًا وجليًّا استطاع أن يخطو بالرواية إلى الأمام في منطقة الإثارة والتشويق، وفي منطقة مثلث النشأة التي تحدث عنها ابن عربي.

    لقد استمع الأب لعشرات الحكايات من الأم بالذات، ثم من الابنة في ما بعد، عن رؤى وأحلام تتحقق بحذافيرها في ما بعد، أو بقصص عن معاينة أقارب وأشخاص رحلوا عن عالمنا قبل سنوات.
    الأم والأب


    السارد يؤكد أن الأسماء لا تعنينا إذ هي مجرد أسماء مثل بعضها لا تمثل فارقا مهما في سياق الحكاية

    تبدأ الرواية باحتفال الأم بليلة عيد الميلاد والعمل على تثبيت شجرة الميلاد الحقيقية – وليست الصناعية – التي تفوح برائحة مميزة تعطر البيت كله، فقد مرت ثلاثون عاما على ارتباط الأم بالأب، وأثناء ذلك تفاجئ زوجها بقولها: لقد حلمت بالأمس بأمي.

    ولأن الزوج يعرف معنى حلمها، وإمكانية تحقيقه على نحو ما، فقد لفت كلامُها انتباهَه، ولكنه استمر فيما كان عليه من أمر تثبيت الشجرة، وكأن كلامَها لا يعنيه. ومع ذلك تستمر الأم في سرد حلمها، هذا الحلم الذي سيظل في خلفية الأحداث، حتى يبرز إلى الوجود بقوة وكثافة، عندما تعلم الأسرة أن الجدة في حالة مرضية شديدة، فيقرر الأب والزوجة والابن والابنة الذهاب إليها في مكان وجودها بولاية نيومكسيكو.

    تحدث بعض العوائق التي تطيل أمد الرحلة إلى مدينة سانتافي عاصمة الولاية بسبب سوء الأحوال الجوية، ولكنهم في النهاية يصلون قبل موت الجدة الأخير، الذي سبقه موت آخر، عادت بعده إلى الحياة لتقص على زوج ابنتها – كونه كاتبًا – ما رأته في موتها الأول ليكتب تلك القصة المدهشة، قصة عائدة من موت حقيقي لأن ميعاد أجلِها لم يحن بعد، وذلك بعد الإصابة التي لحقت بها جراء وقوعها ليلا في حمام شقتها.

    من خلال تلك الرحلة سنتعرف على بعض المشاعر التي يكنها كل طرف للآخر، وسنتعرف على طبيعة الحياة في بعض الولايات الأميركية وخاصة أثناء الاحتفال بأعياد الميلاد، وأثناء السفر بالطائرات والسيارات في أجواء غير مواتية. وسنرى بزوغ قصة حب بين حفيدة فلفل، والطبيب الشاب حفيد الجدة.

    الرواية طافت بنا في بعض المدن المصرية مثل القاهرة والمنيا والأقصر، ولكن ستظل الإسكندرية لها دلالة خاصة في هذا العمل

    ولكن في الوقت نفسه نتعرف على تفسيرات عدة للحلم الذي حلمته الأم وقصَّته على زوجها الذي لم يُعر الأمر أهمية تذكر ظاهريا، ولكنه في الوقت نفسه كان يفكر في معناه، فهو يتفكر بينه وبين نفسه في تماثل الحلم الذي قصته عليه زوجته مع ذلك الحلم الذي حلمه نبوخذ نصَّر الملك، والذي فسَّره وكتب عنه دانيال النبي في سِفره بالكتاب المقدس. وعلى ذلك يعود الزوج إلى كتاب العهد القديم ليعاود قراءة ذلك الحلم الذي استغرق حوالي صفحة ونصف الصفحة من صفحات الرواية، فتعطل السرد طوال هذه المدة.

    وسوف ينتظر القارئ طويلا ليعرف العلاقة بين الحلمين، حلم الأم وحلم نبوخذ نصّر، وهو أحد الملوك الذين حكموا بابل وبلاد الرافدين، وخاض حروبا مع الآشوريين والمصريين، وقام بإسقاط مدينة أورشليم (القدس) مرتين الأولى في سنة 597 ق.م، والثانية بعدها بعشر سنوات.

    غير أن السارد يمنحنا معلومات أخرى من ذاكرة الأم أو ذاكرة الأب أثناء تثبيت شجرة عيد الميلاد، وكأن هذه الشجرة هي شجرة المعرفة، التي تدلنا في النهاية على تشابه الرسالات الدينية مع بعضها البعض.

    تدلنا أحداث الرواية على أن شخصية الأم أقوى من شخصية الأب فهي تمتلك الحجة القوية والصراحة في القول، وحريصة على ألا تخسر أية مناقشة، وألا تخوض جدالا إلا ويكون لها فيه القول الأخير، خاصة إذا علمنا أنها تعمل قانونية، كممثلة للادعاء في المحكمة الابتدائية المحلية بالمقاطعة التي يسكنون بها، في حين أن الأب اكتفى بأن يعمل محررا في جريدة صغيرة محلية، يكتب إليها مقالا أسبوعيا في مجال الفنون والآداب.
    رحلة الجدة



    ابتداء من الفصل المعنون “الظلمة والنور يتعاقبان” يبدأ التحول الخطير في الرواية، حيث استيقظت الجدة ليلا وذهبت مسرعة إلى الحمام الملحق بغرفة النوم، خشية أن تبلل نفسها، ولكنها وقعت في الحمام، وانزلقت فوق بلاطات الأرضية الزلقة، وارتطم رأسُها بجدار حوض التواليت، فشعرت بألم شديد وساد ظلام أكثر حلكة. وحدثت بعدها كل التحولات في الرؤى الخارجية والداخلية أو الباطنية، وينجح السارد في استبطان شخصية الجَدة.

    وتبدأ الجدة رحلةً، أشبه برحلة الإسراء والمعراج، أو رحلة الكوميديا الإلهية لدانتي، أو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ولكن بشخصيات أخرى وأجواء أقرب إلى حياة الجدة، حيث نلمح في هذه الرحلة كلود مونيه الرسام الفرنسي الشهير، جالسا فوق مقعد خشبي منهمكا يرسم لوحته الشهيرة “حديقة جيفرني”، ثم قادها أخوها – الذي مات في طفولته فأصبح ملاكًا ودليلا لها – إلى جماعة من البشر يستمعون في حبٍّ ووجدٍ إلى أم كلثوم، كما لمحت أبا فلفل وأمها، وأبصرت نجيب محفوظ وماركيز وسارتر، والتف حول كل منهم بعضٌ من مريديهم، كما أبصرتْ أخناتون وابن رشد وسقراط وأفلاطون وكونفوشيوس وغاندي وسبينوزا وبوذا وعمر الخيام وحولهم ثلة من المحبين ينصتون إلى أقوالهم باهتمام وبِشر.

    ونتذكر هنا اللوحة البديعة “مدرسة أثينا” التي أبدعها فنان عصر النهضة رافائيل ما بين عامي 1509 و1510، وجمع فيها بين أكثر من عشرين فيلسوفا، من بينهم ابن رشد وهباتيا فيلسوفة الإسكندرية.

    تعجبت الجَدة عندما رأت كل هؤلاء في نفس المكان، على اختلاف مشاربهم وتباين معتقداتهم، لتؤكد الرواية على قيمة إنسانية مهمة، وهي أن المكان الواحد يتسع لكلِّ القيم والمعتقدات والآراء والمذاهب، ولا إكراه في الدين أو الفلسفة أو الفن.

    وهكذا تتنقل الجدة من مكان إلى آخر بقيادة أخيها الملاك، وترى أناسا وأشخاصا من أسرتها منهم حفيدها وحفيدتها، وقد جلسا متجاورين وقبالتهما جلست ابنتها وزوجها الطيب الذي تعجبت أنه كان في صلاة مع بقية أفراد العائلة، ومعهم فلفل تنظر إليها بحزن وعطف، وكلهم لم يموتوا بعد. وعلى ذلك فالجَدة ترى أناسا ماتوا، وأناسا لم يموتوا بعد.

    "قارورة زرقاء" رواية منغلقة على نفسها بعض الشيء، ولكنها ممتدة رغم قلة عدد صفحاتها مقارنة بثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية)

    إنها تصعد مع أخيها الملاك، إلى أن تجد نفسها في حضرة رب الأرباب الإله المشع، والكواكب المضيئة تسبّحه وهي تدور حوله دون توقف. وهنا نرى كيف تعمل الآية القرآنية “وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ”.

    هنا تجتاح الجَدة طاقةٌ هائلةٌ من الحب، لم تشعر بمثلها من قبل. إنها اللحظة الإلهية المقدسة دون اضطراب أو ارتباك. لقد سمعت صوتا نابعا من مصدر الضياء المشع يناديها باسمها، لا بأذنيها، لكن بقلبها ومشاعرها. إنه يخصها وحدها بحوار سري لم يسمعه سواها. لكنه يخبرها بأن مهمتها في العالم لم تنته بعد، وطلب منها الصوت الرجوع من حيث أتت، لأن وقتها لم يحن بعد.

    إنه دين الحب والمحبة الذي تحدث عنه جلال الدين الرومي قائلا: “دين الحب منفصل عن كل أشكال الديانات.. العاشقون أمة واحدة ودين واحد وهذا هو الله”. ورواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية إليف شافاق تحدثت عن هذا الدين باستفاضة، فهي تتناول حياة شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي.

    لقد احتفلت الرواية بجلال الدين الرومي وأوردت قوله: “أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم لم هذا التيه من أجل معشوق واحد/ ما تبحثون عنه في هذا العالم/ ابحثوا في دخائلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق”.

    بعد هذا اللقاء الرباني تعود الجدة إلى عالم الظلام وتغيب النغمات الموسيقية الرائعة، ولم تعد تبصر أخاها الملاك. لقد عادت إلى عالمها الأرضي الطبيعي، ووجدت نفسها في المستشفى، والأجهزة حولها، والجدران البيضاء الباهتة تُحيط بالمكان. وزوجُها عند الناحية الأخرى من سريرها.

    ثم يعود السرد بنا إلى استعداد الأب والأم والحفيد والحفيدة للسفر إلى مدينة سانتا في ولاية نيومكسيكو، بعد مكالمة تلفونية أخبرتهم بحال الجدة ووقوعها وإصابتها. وعندما يصلون – بعد لأي – تطلب الجدة من الأب (زوج ابنتها) أن يكتب التجربة وكالةً عنها، بتاريخ الثامن والعشرين من ديسمبر 2019 لتكون “رسالة من الله”، بينما يختار الأب عنوانا صحافيا آخر ينشر تجربتها تحته وهو “رسائل السماء إلينا”.

    الرواية تنتهي بإرجاء السفر إلى مصر لدفن رفات الجدة

    ويبدو أن الكاتب شريف مليكة، كان على وعي بما أثاره توفيق الحكيم عندما كتب سلسلة من المقالات في جريدة الأهرام قبل وفاته عام 1986 بعنوان مشابه من “رسالة من الله” أو “حوار مع الله” أو “حديث مع الله” فانبرى له الكثيرون للرد عليه وعلى رأسهم الشيخ محمد متولي الشعراوي وبعض علماء الأزهر الشريف، وتسفيه العنوان الذي اختاره الحكيم لسلسلة مقالاته، فاضطر إلى أن يغيره.

    وتنتهي الرواية بإرجاء السفر إلى مصر لدفن رفات الجدة، ولم نعرف على وجه اليقين هل دُفن رفاتُ الجَدة في الولايات المتحدة بعد إلغاء رحلات الطيران جرَّاء انتشار فايروس كورونا اللعين. أم أن الأم ستنتصر لرغبة والدتها متمسكة ببقية من الرجاء في أن تتغير الأحوال، ويخيل إليها أن أمها تحثها على الاتصال بأبيها مهما آلمها ذلك، لأن سمعَه لم يكن جيدا، وتتعجل رحلتها إلى البر الغربي التي باتت معلقة.

    طافت بنا الرواية في بعض المدن المصرية مثل القاهرة والمنيا والأقصر، ولكن ستظل الإسكندرية لها دلالة خاصة في هذا العمل، ربما لأن المؤلف سكندري الأصل، ففي الإسكندرية قضت عائلة الجَدة شهرا في حي سيدي بشر في رحلة أتاحها البنك الذي يعمل فيه والدها للعاملين به، وكان ذلك في صيف 1947. وعندما خرجت الجدة من شبرا أدركت وجود دنيا جديدة لم تتخيل كينونتها من قبل. لكن ما أخذ عقلَها كان البحر الهائل الذي يمتد بطول المدينة، والذي لم تتمكن من أي موضع ذهبت إليه إلى أن تبصر نهاية لامتداده. وعندما تزوجت من ضابط الجيش قضت شهر العسل في الإسكندرية، كانت تتطلع إلى النزول بفندق “البوريفاج” الشهير المطل على شاطئ البحر، لكنَّ إمكاناتِهما لم تُتح إلا عشة بأبي قير تبعد نحو مئة متر عن ذات البحر.

    وعندما هاجرت إلى الولايات المتحدة أخذت معها ألبوم صور كانت تتأمله، ولم تبق لديها ذكريات ملونة عن تلك الحقبة من حياتها، عدا ألوان شمسية البحر على شاطئ الإسكندرية. ولعل ارتباطَ البحر باللانهائي والمطلق – الذي ستلتقي به بعد ذلك – سببٌ من أسباب تثبيت صورة بحر الإسكندرية في ذهنها على هذا النحو، لقد وجدت نفسها قبل اللقاء النوراني في ظلمة كثيفة ملموسة أو عتمة عميقة كأنها اندفنت تحت رمال الشاطئ بالإسكندرية، ثم تحدث الانفراجة أو الانطلاقة النورانية الكبرى بعد ذلك.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X