Mohammed Dunia
١ أكتوبر، الساعة ١٠:٢٨ م ·
لأحبائنا الصغار... حكاية
حكاية من اليابان
إسونبوشي
في إحْدى القُرى البَعيدةِ، عاشَ ذاتَ مرّةٍ جَدٌّ وجَدّةٌ. لمْ يُرْزَقا بطِفْلٍ، وهذا ما أَحْزَنَهُما وآلَمَهُما كثيراً. وبَقِيا يَتَضَرّعانِ كيْ يأتيهما ولدٌ، ويُرَدِّدانِ: " ما أَجْملَ الأطْفالَ! كمْ نُحِبُّ أنْ يكونَ لنا طَفْلٌ، ولوْ بطُولِ إِصْبَعِ اليَدِ! ".
وفي أحدِ الأيّامِ، صارَ لهُما طِفْلٌ، لكنّهُ لمْ يكُنْ أطْوَلَ منْ إصْبَعِ اليَدِ.
فرِحَ الجدُّ والجدَّةُ كَثيراً أنّ أُمْنِيَتَهُما تحقّقَتْ. وإذْ لمْ يكُنِ الصّبِيُّ أطْولَ منَ الإِصْبَعِ، فقدْ أسْمَيَاهُ " إسونبوشي "، أي " القَصيرُ جِداً ". رَبَّياهُ ودَلّلاهُ واعْتَنَيا بهِ، وغَمَراهُ بالرِّعايةِ والحُبِّ.
مرّتِ الأيّامُ والأسابِيعُ والشُّهورُ. ومَضَتْ ثلاثُ سِنينَ، ثُمّ خمْسٌ ثمّ عشْرٌ أيْضاً، لكنّ الصّغيرَ " إسونبوشي " بقِيَ على قِصَرِ قامَتِهِ، بطُولِ الإِصْبَعِ، مثْلَما كانَ عندَ وِلادَتِهِ. قَدّما لهُ كلَّ ما بِوِسْعِهِما من اهْتِمامٍ وعِنايَةٍ وطَعامٍ، لكنّهُ لمْ يَزْدَدْ سَنْتِمِتْراً واحِداً.
كانَ قصِيراً، قصِيراً إلى حَدِّ أنهُ لم يسْتطِعْ مُساعدَةَ الجدّةِ في المنزِلِ، ولا مُؤَازرَةَ الجدِّ حينَ ذهابِهِ للعمَلِ في الحُقولِ. لمْ يكنْ قادِراً على حَمْلِ أكثرَ منْ قَشّةٍ.
إلا أنّ " إسونبوشي " كانَ بارِعاً في الرَّقْصِ ومُجِيداً في الغِناءِ، ولكنْ ليْسَ في العَوْنِ والمُساعَدةِ، وهذا ما كانَ يُحْزِنُهُ ويَحُزُّ في نَفْسِهِ. عَدَا ذلكَ، كانَ أوْلادُ القَرْيَةِ يَسْخَرونَ منهُ دائِماً، وأيْنَما صادَفُوهُ يُنادونَهُ " يا قَزَمُ، يا قَصيرُ ". كانَ ذلِكَ يُؤْلِمُهُ ويُؤَثِّرُ فيهِ كثيراً، فقَرَّرَ ذاتَ يومٍ أنْ يُسافِرَ في رِحْلةٍ إلى بلَدٍ ناءٍ. قالَ للجدِّ والجدةِ:
" عزَمْتُ على الرّحيلِ صَباحَ الغَدِ إلى العاصِمَةِ بحْثاً عنْ عَمَلٍ. أُريدُ أنْ أمارِسَ نشاطاً مُثْمِراً ".
حزِنَ الجدّانِ كثيراً لِفراقِ " إسونبوشي "، ولكنْ زوَّداهُ بِطَاسَةٍ، وعَصاً صغيرةٍ وإبْرةٍ، وتَمَنّيا لهُ حظّاً طيِّباً ورِحْلَةً مَيْمُونَةً.
جعَلَ الصبيُّ الصغيرُ منَ الطّاسَةِ قُبَّعَةً كأَنَّها مِظَلّةٌ، ومنَ الإبْرةِ سَيْفاً في حِزامِهِ، ومنَ العَصا عُكّازاً يَتّكِئُ عليْهِ في الطّريقِ إلى المَدينَةِ المَنْشُودَةِ.
مَشَى ومشَى، لكنّ العاصِمةَ بعيدةٌ، والدَّرْبَ طويلٌ طويلٌ. وبينَما هو كذلكَ، صادَفَ نَمْلَةً تَجْري مُسْرِعةً وسأَلَها إنْ كانتِ المَدينةُ ما تزالُ بعيدةً. أجابَتْهُ:
" ليسَ كثيراً، ولكنْ سِرْ بانْحِرافٍ وسَطَ مَرِجِ الهِنْدِباءِ أمامَكَ، واعْبُرْ بعْدَ ذلكَ حقْلَ عُشْبةِ ذَيْلِ الفَرَسِ، ثمّ امْشِ بمُحاذاةِ النَّهْرِ، هناكَ قُرْبَ الهَضْبَةِ الخَضْراءِ ".
شَكَرَها " إسونبوشي "، وسارَ وَسَطَ الهِندباءِ البَرّيّةِ، ثمّ اجْتازَ عُشْبَةَ ذَيْلِ الفَرَسِ، إلى أنْ بَلَغَ النّهْرَ. وهُنا، بَعْدَ أنْ تأَمَّلَ المِياهَ قليلاً، جعلَ من طاسَتهِ زَوْرقاً ومنْ عصاهُ مِجْدافاً.
ركِبَ القصيرُ النهرَ الهادِئَ، وراحَ يُجَدِّفُ بقُوّةٍ ونشاطٍ، يَحْدوهُ حَمَاسٌ ورَغْبَةٌ كبيرةٌ في رُؤْيَةِ العاصِمَةِ. أخيراً، اقْتَرَبَ منْ جِسْرٍ عَظِيمٍ يَعْبُرُهُ ناسٌ كثيرونَ. وحينَ رأَى هذا الزُّحَامَ العَظيمَ، قالَ لِنفْسِهِ:
" ها قدْ وصلتُ إلى العاصِمةِ! ". نَزلَ من الزّوْرقِ، وغابَ وَسَطَ الزُّحَامِ.
كانتِ العاصِمةُ مَدِينةً جميلةً وضَخْمةً، مُزْدَحِمَةَ السّكّانِ، والناسُ يَتَجَوَّلونَ في كلِّ مكانٍ، ويَبْدونَ مُنْشَغِلينَ ويَتَحَرّكونَ في كُلِّ اتِّجَاهٍ. يا لَهُ منْ مكانٍ خَطِرٍ على القِصارِ جداً، مثْلَ " إسونبوشي "! قدْ لا يَراهُم المَارُّونَ فَيَدْهَسُونَهُم. قالَ لِنَفْسِهِ:
" كُنْ حَذِراً أيُّها المِقْدامُ، وإلا سَحَقُوكَ! "، وانْعَطَفَ نَحْوَ شَوارِعَ أكثرَ هُدُوءاً وأقَلّ عُبُوراً.
تابَعَ سَيْرَهُ بِلا هَدَفٍ، غَيْرَ عارِفٍ إلى أيْنَ هو ذاهِبٌ، حتّى وجَدَ نفْسَهُ بعْدَ قَليلٍ أمامَ مَنْزِلٍ فَخْمٍ بَهِيّ البِناءِ، بَدا أنَ صاحِبَهُ سيِّدٌ ذُو سُلْطَةٍ ونُفُوذٍ. تقدَّمَ " إسونبوشي " بهُدوءٍ صَوْبَ المَدْخَلِ، ونادَى بصَوْتٍ فيهِ عَزْمٌ واحْتِرامٌ:
" عُذْراً! هلْ يوجَدُ أحَدٌ هُنا؟ مِنْ فَضْلِكُم، أمَا مِنْ أحَدٍ هناكَ؟ ".
خرجَ رجُلٌ ليَتَعَرَّفَ المُنادِيَ، وجالَ ببَصَرِهِ هُنا وهناكَ، لكنّهُ لمْ يَرَ " إسونبوشي "، القصيرَ جداً، فتَمْتَمَ وهو يُغْلِقُ البابَ:
" ظَنَنْتُ أنّ شخْصاً يُنادِي، لكِنْ لا يُوجَدُ أَحَدٌ ".
ولمّا هَمَّ الرّجُلُ بالعَوْدَةِ منْ حَيْثُ أتَى، سَمِعَ المُنادَاةَ منْ جَديدٍ:
" أنا هُنا! عِندَ أسْفَلِ البابِ! انْحَنِ قليلاً فَتراني".
نَظَرَ الرجُلُ إلى الأَسْفَلِ فلَمَحَ " إسونبوشي ". لمْ يكُنْ قَدْ رأَى في حَياتِهِ مَخْلوقاً بهَذا القِصَرِ! انْحَنى وأمْسَكَ الصّبِيَّ الصّغيرَ ووَضَعَهُ على كَفِّهِ، وأخَذَ يَتَفَحّصُهُ مُسْتَغْرِباً ومُنْدَهِشاً، ثمّ أدْخَلَهُ إلى غُرْفةِ الأَمِيرةِ.
غَنّى " إسونبوشي " ورقَصَ في أرْجاءِ القَصْرِ، وكمْ كانَ ظَريفاً ورَشيقاً، حتّى أنّ الجّميعَ أحَبُّوهُ وابْتَهَجوا بهِ، وتَسَابَقوا في دَعْوَتِهِ إلى مَجَالِسِهِم. وكانتِ الأميرةُ غايَةً في السّرُورِ بهَذا الطِّفلِ طُولِ الإصبَعِ، ورَغِبَتْ في إبْقائِهِ بجِوارِها ليُسلّيها بأَحاديثِهِ الجّميلَةِ وخِفّةِ حَركاتِهِ.
وهكَذا، أقامَ " إسونبوشي " في مَسْكَنِ السّيِّدِ صاحِبِ السُّلْطَةِ والنُّفُوذِ. كانَ يرافِقُ الأمِيرةَ أيْنَما ذَهَبَتْ، ويُساعِدُها في كلَّ شيءٍ، ويُلَبّيها في ما تَطْلُبُ منه، فيُقَلِّبُ الصّفَحاتِ حينَ تَقْرأُ كِتاباً، ويُحْضِرُ لها الحِبْرَ عندما تَنْسَخُ وتَكْتُبُ. وفَوْقَ ذلكَ، تعَلَّمَ اسْتِخْدامَ الأَسْلِحَةِ بإِبَرٍ اتّخَذَها سُيُوفاً. هكذا عاشَ " إسونبوشي " الصّغيرُ حَوْلَ الأميرةِ، التي لمْ تَبْخَلْ أبَداً باصْطِحابِهِ كُلّما خَرَجَتْ للنُزهَةِ أو ذَهَبَتْ في زِيارَةٍ.
وذاتَ يومٍ، بينَما كانتْ عائِدَةً منَ المَعْبَدِ إلى القَصْرِ، هاجَمَها لِصٌّ مُسَلَّحٌ، وحاوَلَ اخْتِطافَها والاعْتِداءَ علَيْها. لكنّ مُرافِقَها " إسونبوشي " تَصَدّى لهُ بشَراسَةٍ، وصَرخَ مُهَدِّداً في وجْهِ اللِصِّ بصَوْتٍ مرْتَفِعٍ وقَوِيٍّ:
" ابْتَعِدْ عنْها! أنا ’ إسونبوشي ’، أنا هنا! حَذارِ أيُّها اللصُّ! إنْ اقْتَرَبْتَ مِنْها سأَضْرِبُكَ ضَرْباً مُبَرِّحاً! ".
نَظَرَ قاطِعُ الطّريقِ إلى " إسونبوشي " القصيرِ جِداً، وأخذَ يُقَهْقِهُ عالِياً باسْتِخْفافٍ:
" وماذا يُمكِنُ أنْ تفْعلَ نَمْلةٌ مِثْلُكَ؟ "، خاطَبَهُ اللصُّ بخُبْثٍ، ومدَّ يدَهُ والتَقَطَهُ، ثمّ ابْتَلَعَهُ. لكنّ " إسونبوشي "، الشُّجاعَ والماهِرَ جِداً، وجَّهَ ضَرَباتٍ ثاقِبَةً وعَنِيفَةً منْ إبْرَتِهِ إلى بَطْنِ اللصِّ، وصَعَدَ إلى حَلْقِهِ وراحَ يخِزُهُ بكلِّ قِواهُ، فأخَذَ الشِّرِّيرُ يَتَلَوّى ويَتَخَبّطُ ألَماً وهو يَصْرَخُ " آي، آي! ". وظَلَّ " إسونبوشي " يضْرِبُهُ بقوةٍ إلى أنْ ولّى هارِباً مَذْعُوراً، بعْدَ أنْ خَرَجَ القصِيرُ المِقْدامُ منْ مِنْخَرَيْهِ مُظَفَّراً ومُلَوِّحاً بسَيْفِهِ الصّغِيرِ.
لكنّ الأميرةَ وجدَتْ في المَكانِ شيْئاً تَرَكَهُ اللصُّ عَقِبَ هُروبِهِ: مِطرقَةً سِحْرِيّةً. وأخذَتْ تَشْرَحُ لرفيقِها " إسونبوشي " ما تَفْعَلُهُ هذهِ الأَداةُ العَجِيبَةُ:
" هذهِ مِطْرقَةٌ سِحْرِيةٌ، إنّها كَنْزٌ حَقِيقِيٌّ يا صَغيري! يكْفي أنْ تهُزَّها قليلاً وتَتَمَنّى أُمْنِيةً حتّى يَتَحَقَّقَ كلُّ ما تَرْغَبُ فيهِ حالاً ".
كانتِ الأميرةُ مَمْنونَةً للشجاعِ " إسونبوشي "، الذي دافَعَ عنْها وحَمَاها بشَهامَةٍ وأنْقَذَ حَياتَها. وسأَلَتْهُ:
" والآن، ماذا تَتَمَنّى أيُّها الباسِلُ النّبيلُ؟ ".
" أُمْنِيَتي يا أَميرتي أنْ أكْبُرَ وأُصْبِحَ طَويلاً "، أجابَها " إسونبوشي " الجَّسُورُ بِحَسْمٍ ودُونَ تَرَدُّدٍ.
هَزَّتِ الأميرةُ المِطرقَةَ السّحرِيةَ بلُطْفٍ أمامَ " إسونبوشي " وهيَ تُرَدِّدُ: " فَلْتَكْبُرْ، فَلْتَكْبُرْ يا ’ إسونبوشي ’ القصيرُ، ولْتَطُلْ قامَتُكَ! فلْتُصْبِحْ كَبيراً وطَويلَ القامَةِ يا ’ إسونبوشي ’ ".
راحَ " إسونبوشي " يَكْبُرُ مُباشَرَةً وتَطُولُ قامَتُهُ رُوَيْداً رُوَيْداً، إلى أنْ رأَتِ الأميرةُ نَفْسَها قُبالَةَ شابٍّ وَسِيمٍ، فارِعِ الطُّولِ وقَوِيِّ البُنْيَةِ.
سُرَّ سيّدُ القصْرِ كثيراً منْ " إسونبوشي "، الذي دافَعَ عن ابْنَتِهِ وأنْقَذَ حياتَها بشَجَاعَةٍ ونُبْلٍ وشَهَامَةٍ، وفرِحَ أيضاً أنّهُ كَبُرَ وصارَ شابّاً وَسيمَ الطَّلْعَةِ. وزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الأميرةَ الجّميلَةَ واللطِيفةَ.
وانْضَمَّ الجدُّ والجدّةُ الحَنُونانِ بعدَ ذلكَ إلى " إسونبوشي " في القصْرِ الفَخْمِ بالعاصِمَةِ، حيْثُ عاشَ الجّميعُ بسعادَةٍ ووِئامٍ.
#
ترجمة محمد الدنيا
Adnan Al Mohammad، Sharif Shahin
تعليق