Mohammed Dunia
١٤ سبتمبر ·
محمد الدنيا
سيرة ذاتية
ليسانس اللغة الفرنسية وآدابها من جامعة حلب عام 1973. مدرس لهذه اللغة من العام 1974 وحتى العام 2007. نشرت لي مقالات عديدة مترجمة، علمية، وأدبية، وفكرية وتربوية وفن تشكيلي... في العديد من الصحف والمجلات السورية والعربية ( منها " المعرفة "، " الباحثون "، " المعلم العربي "، " الفكر العسكري "، " الحياة التشكيلية "، " أسامة "، والصحف السورية المركزية الثلاثة و" الشرطة "، " الأسبوع الأدبي ".... / " العربي "، " العربي الصغير "، " الثقافة العالمية "، " العلوم "، " التقدم العلمي "، " الكويت " / الكويت؛ " الفيصل العلمي "، " الفيصل الثقافية " / المملكة العربية السعودية؛ " البيان "، " شؤون أدبية " / " الرافد " الإمارات العربية المتحدة ... .
المرتبة الأولى وشهادة تقدير في " مسابقة سامي الدروبي للترجمة " الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب لعام 2019 / وزارة الثقافة السورية.
عضو اتحاد الكتاب العرب
صدرت لي الكتب التالية ترجمةً:
- " إمبراطورية البيت الأبيض "، دار طلاس - دمشق 1986.
- " الأم والطفل "، دار طلاس - دمشق 1987.
- " الطفل بين الصحة النفسية والإبداع "، دار الحقائق - دمشق 1989.
- " مرضيات الطفل "، دار القلم العربي - حلب 1992.
- " التطور العصبي والذهني عند الطفل "، دار علا - حمص 1993.
- " المرأة – الفهد " رواية صغيرة لألبرتو مورافيا عن الفرنسية، دار علا - حمص 1994.
- " عالم الطفل الرضيع "، دار الإرشاد - حمص 1995.
- " الطفل والمدرسة "، دار التوحيدي - حمص 1998.
- " الذكاء عند الطفل الرضيع "، دار اسكندرون - دمشق 2001.
- " حكايات وأساطير أفريقية، الطفل - الملك "، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / الكويت شباط 2004
- " حكايات وأساطير أفريقية، السهول العشبية تحكي "، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / الكويت حزيران 2004.
- " أجمل حكايات الزن، يتبعها فن الهايكو "، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب / الكويت نيسان 2005.
- " ثناء للنساء الناضجات "، رواية، دار الخطيب - حمص 2005.
- " الدماغ والفكر "، وزارة الثقافة السورية 2007.
- " سوريا في العصور الكلاسيكية "، وزارة الثقافة السورية 2008.
- " في الدم والندى "، قصص من بنغلادش، وزارة الثقافة السورية 2010.
- " كيف يتعلم الطفل الكلام "، وزارة الثقافة السورية 2012.
- " الفينيقيون وأساطيرهم "، كتاب مجلة أسامة للأطفال، وزارة الثقافة السورية 2011.
- " أساطير من اليابان "، كتاب مجلة أسامة للأطفال، وزارة الثقافة السورية 2012.
- " غزو الفضاء "، كتاب مجلة أسامة للأطفال، وزارة الثقافة السورية 2012.
- " الجزيرة الزرقاء "، قصص من الخيال العلمي، وزارة الثقافة السورية، 2017.
- " حول القمر "، رواية من الخيال العلمي، وزارة التعليم العالي - جامعة دمشق 2018.
- " حكايات لطيفة، حكايات قاسية "، قيد الطبع، وزارة الثقافة السورية 2020.
- " حكايات الليل الإغريقي "، قيد الطبع، وزارة الثقافة السورية 2020 .
- " من العقل إلى الدماغ "، قيد المراجعة، وزارة الثقافة السورية 2021 .
#
مقالات مترجمة لعلها تحمل فائدة:
بلزاك
( 1799 – 1850 )
أسطورة عبقرية وإبداع
يبقى " أنوريه دو بلزاك "، صاحب " الكوميديا الإنسانية "، من أغزر مبدعي الأدب الفرنسي أسطورية: أكثر من 80 كتاباً خطها بصورة محمومة في عشرين عاماً. إنه عالم قائم بذاته هذا المسرح الحي، الذي ضم 2500 شخصية، بعضها أصبح أسطورياً: رستنياك، والأب غوريو…
ذات مساء، عام 1833 ، ألقى شخص عادي ومتوحش قليلاً، ذو طاقة لا تقهر، ومترع بالمشاريع الخارقة، وقد كتب، بأسماء مستعارة مختلفة بضعَ روايات عاطفية أو سوداء يكاد مستواها لا يتعدى الوسط، ألقى على مسامع أخته، " لور "، جملةً مفعمة بالبساطة والكبرياء: " وجدتُ فكرة عجيبة، سأغدو رجلاً عظيماً ".
ما هي تلك الفكرة العجيبة؟ إنها عودة الشخصيات. كتب " هوميروس "، و" دانتي "، و" رابليه " ، و" سرفانتس " أعمالاً ضخمة شخصياتها لا تنسى، أصبحت مألوفة بالنسبة لنا، من " أوليس " إلى " غارغانتوا "، ومن " تيليماك " وكلب " أرغوس " إلى " دون كيخوته " و" سانشو بانسا ". وحل " بلزاك " دفعة واحدة بين أفراد هذه السلالة الشهيرة، ولكن مع علامة مميزة. فلُقية " بلزاك " هي أنه قدم روايات منفصلة يعود إليها الأبطال أنفسهم.
تعرض " بلزاك " لتنوع العالم الحديث من زوايا متباينة تشكل مختلف أقسام " الكوميديا الإنسانية ". كتب يقول: " لا يوجد شيء ذو كتلة واحدة في هذا العالم، كل شيء فيه فسيفسائي". ولكن، عبر هذه الفسيفسائية، تمتد الخيوط الرئيسة للشخصيات المتواترة. "ـ رستنياك " مثلاً، أحد أبطال " بلزاك " الأشهر، ذاك الذي أصبح تجسيداً للوصولية، مثلما هو " دون جوان " تجسيد للإغواء، أو" فاوست "، صورة عشق المعرفة ذاتها، نجده في " ابنة لحواء "، ثم في " الأب غوريو " ثم في " بيت نوسنجن "، وفي " فخامات وتعاسات بنات الهوى ". إن عالم " بلزاك " يتفجر بتمايز الطبقات الاجتماعية، وبتقسيم العمل، والتطور التقني – وموحَّد برجوع الشخصيات.
كان عمر " بلزاك " 30 عاماً عندما بدأ كتابة " الكوميديا الإنسانية ". وبعد أن نشر، في عشرين عاماً، نحو ثمانين كتاباً، معظمها من الروائع، مات بعمر 51 عاماً، منهكاً. لقد سنح له الوقت أخيراً أن يحقق حلمه بالزواج من الكونتيسة " هانسكا "، البولونية القوية قليلاً ، التي تبادل معها رسائل طيلة ثمانية عشر عاماً – وأن يبدع عالماً كاملاً من الخيال الممتزج بالعالم الحقيقي.
وتبوأ، إلى جانب " هوميروس " و" ملتون " الضريرين، و" سرفانتس " الأكتع، و" كورناي " الذي أهانته نجاحات " راسين " الباهرة، منزلة بين الأبطال التعساء والظافرين في الإبداعات الأدبية.
هل كان يجيد الكتابة؟ ليس لهذا السؤال، مع " بلزاك "، أي معنى تقريباً. في " المعارَضات والمتفرِّقات " ، يسخر منه " بروست " . كان " بروست " محقاً: " بلزاك عادي غالباً، وأحياناً مضحك ". كتب " بلزاك " مثلاً يقول: " شعر بنفسه أن لديه من الطموح ما يكفي لأن يوجه ركلة رائعة إلى الحبل المشدود الذي يجب أن يسير عليه وأن يجد في امرأة جذابة أفضل ميزان بهلوان ". وكتب أيضاً في إحدى روائعه، " الزنبقة في الوادي ": " النساء المستويات القامة متفانيات، ومفعمات بالرقة، ويملن إلى السوداوية؛ إنهن نساء أفضل من الأخريات ". أهي حماقة بما فيه الكفاية؟ كلام لا ينطوي على أية أهمية. هذا الجوَّاب التجاري، صاحب العبارات الوصفية التي لا تنتهي والأسلوب الممتلئ بالأثقال، هو روائي فذ. يقول " جول رونار " : " ربما كان بلزاك الوحيد الذي حق له أن يكتب على هذا النحو الرديء". إنه سرفانتسنا نحن، وتولوستوينا. إنه بشكل خاص شاعر. تغلب عليه الخيال، وترك لنا مجموعة لوحات لا تنسى عن البائسين، ونساء المجتمع، والغانيات، والعاشقين، ورجال السياسة والصحفيين الذين هم من إبداعات فكره، ونماذج من الواقع أكثر مما هم أشخاص حقيقيون.
أونوريه أو جنون العيش:
كانت له عشر حيوات، وجرى خلف المال والمجد، وسافر، وكانت له مغامرات نسائية، وأطلق شهرة " ستاندال " . وصفت كتبه مجتمعاً من الطموحين، والمتهدِّمين، ورجال السياسة، والصحفيين، ورجال المال، مجتمعاً شبيهاً جداً بالمجتمع الفرنسي.
كان فتى مسكيناً، يكتب ببساطة وسهولة، كي يعيش ويهرب من دائنيه، للزمن الذي يمضي، لنفسه. في الليل، على ضوء شمعة، وبعد تناول القهوة الباردة – التي جعلها زاده للدخول في الآلية البشرية التي كان يحركها بنفسه -، كان " أونوريه دي بلزاك " يتناول أوراقه في ساعة محددة. ثم، كالرهبان - كان يرتدي ثوباً أبيض حين الكتابة -، يتوجه إلى عمله، هذا الطقس الذي يتجسد في رأسه آلافاً من الصور، التي تحولها ريشته يوماً بعد يوم إلى رواياتٍ، وكتيبات، ومقالات، ودفاتر تذكارية – المجموعات " الأنيقة بفَخار" –؛ لا شيء كثير عليه كي يهدأ ويسكن. لقد أقسم أن يتم واجبه.
ضيع بضع سنوات في التسكع، بين " تور " و" فيلباريزي "، مستكشفاً ذاته بين شارع " كوكيير " وشارع " كاسيني ". كان يتهيأ لاجتياز سن العشرين، زمن الملَكية، منزوياً في عالم الأدب، محللاً الحالة المدنية، وكاشفاً عصره. أراد أن يكون أمين سر هذا العصر، وأن يصفه على غرار " بوفون " .
عام 1799 ، قبل أفول القرن بسنة، مع ظهور " نابوليون " تحت اسم " بونابرت "، ولد " أونوريه " في 20 أيار. كان والده، " برنار فرانسوا بلزاك " – " بالسا " قبل ذلك -، رجلاً مقداماً، عمل معتمَداً عسكرياً. وكانت أمه، " مدام لور سالامبييه "، تعمل مربية في ثانوية " سان-سير-سور-لوار " في " فاندوم ". إلا أنه عاش محروماً من الحنان الأمومي، فتأسّى بصدر ربات الفن والكتب التي أخذ يلتهمها بنهم. وكان الإمبراطور يومها يلهب أوربا، وقلب هذا الفتى أيضاً. تخيل نفسه قنصلاً – في جمهورية الآداب: " ما بدأ به الإمبراطور بالسيف، سأكمله بالريشة "، راح يعد نفسه. بانتظار ذلك، اهتم بدراسة الحقوق والسير في الدروب الموصلة القصيرة، ثم، وفي عام 1817، دخل مكتب وكيل دعاوى، " غيونيه – مارفيي ". واكتشف خلال الدراسة الأسرار الأسرية، والفضائح الخبيئة، ومواربات القلب البشري الممتدة في قضايا الوصيات والعقارات. وفتح ملفَّ المجتمع الفرنسي الضخم. ولن ينسى الدرس. أراد " بلزاك " أن يكون " رابليه " أو لا شيء. وكان لديه شيء من منبت هذا الأخير، بنية الجسم وشهية المعرفة. وإن فشل، فهو معجب جداً أيضاً بـ " وولتر سكوت " . وبدأ يكتب دون أن يقرأه أحد: " كلوتيلد دو لوزينيان "، و " وكيل الآردينيين "، وقصص عابرة موقعة باسم " لورد رون " أو " هوراس دو سان – أوبن ". ولم يكتف بذلك. أراد أن ينشروا له، وأن يطبع هو للآخرين، الكبار: " موليير " و" لافونتين ". وكانت له شرْكة مع كتبيّ. واشترى مطبعة، ثم مسبكة حروف. وهبت النسوة لمساعدته، أمه، وأخته، وعشيقته " مدام دو برني "، الـ " ديلكتا ".
عام 1830 ، كان منعطف القرن، الانتقال إلى العصر الحديث. " الثلاثة الماجدة " خلقت نظاماً: المَلَكية البورجوازية. كان العصر مجنوناً. ففي كل مكان، لا هاجس سوى التقدم، حيث سادت أفكار " سان – سيمون " في كل شارع وصالون. كل شيء كان عِلماً: الاقتصاد، والتاريخ، والدين. وأوجد شاب متلهف وواسع الخيال، " إميل دو جيراردن "، وسيلة تعبيرية غير مسبوقة، أي الصحف الإخبارية اليومية. ازدادت الأفكار وكثرت الصحف، وأصدر الشاب دوريات " السارق " و " مسلسل الصحف السياسية "، و" الشبح "، " صحف كاريكاتوريات فنون جميلة، ورسوم، وعادات، ومسرح ". وألقى " بلزاك "، المتضور جوعاً، نفسه في هذا العالم الجديد. وأدرك أنه يشهد ولادة " سلطة رابعة في الدولة ": " تهاجم الصحافة كل شيء ولا أحد يهاجمها. إنها تؤنب خبط عشواء ". وهذا القدْر من القوة ينشيه. ودون توقف، راح يكتب مقالات، وملاحظات حول قراءاته، وقصصاً، وقصائد، استفاد منها في رواياته لاحقاً. وتجلى عن خيميائي، من أكثر الخيميائيين نبوغاً. في ذاته، كان يتولد كل شيء، ولا شيء فيها يضيع، وتشْهَدُ تحوّلَ كل شيء. طاف باريس غداة أيام تموز المأساوية من أجل صحيفة " السارق ". كان يحلم بالنجاح في الأعمال، والصحافة، والنيابة؛ القارورة لا تهم، فهو ينشد الثمل.
وبفضل " جيراردن "، اكتشف الأماكن الهامة، وأروقة السلطة، في القصر الملكي، والصحافة حيث يمكن صنع الشهرة أو إطفاؤها من خلال مقالة. كان يود أيضاً أن يؤمن بثورة تموز، وأن يعتمد على الـ " أورليانيين ". وقريباً، سيرثي جبن السلطة الجديدة: " في الأيام الأولى، ترسخت الثورة في النفوس كلها، إذ كانت قد ألهبت أكثر ضمائر العصر مداهنةً، غير أنها سقطت شيئاً فشيئاً في البطون جميعها ".
جاءه النجاح مع رواية " إهاب الشجن ". وفتحت له روايتا " تمثيلية العالمين والزِيّ " الأبواب. لاشيء أبداً كبير جداً على " بلزاك ". ويلزمه البلاط والمدينة، وفخامات وتعاسات الغانيات، والثروة والمجد. بانتظار حصوله على ذلك، لبث الفتى المسكين عشيقاً لمركيزة " دو كاستري ". فَتحتْ له أبواب النخبة الملكية. أما هو، ابن محدث النعمة، فسيشق الطريق مع " آل لاروشفوكو " ودوق " فيتز جيمس " في فندق " كاستلان ". ولن يتراجع. فمن أجل عيني المركيزة الجميلتين، سيتزوج قضيتَها. ولتذهب الآراءُ المعتدلة إلى الجحيم، والامتيازاتُ إلى صديقته الجمهورية " زولما كارو ": أصبح متطرفاً. " ثم إن هذا نهج حسن "، قالت " كورالي " إلى " لوسيان دو روبمبريه ". وسيكون لديه نهج حسن جداً. ولما احتدت أفكاره بسبب نجاحاته المدينية الاجتماعية، أظهر مزاياه. وراح يكتب لدَوْريتيّ Renovateur و Courrier de l’Europe . وظل يجوب قاعات التحرير، مبهوراً بهذه المهنة الكلية القدرة المسيطرة على باريس. ولكن، خفف من غلوائه فجأة، وقد أتعبته الصحافة، " هذا المنجنيق الضخم الذي تحركه الأحقاد الصغيرة ". أنهكه غرور زملائه – وعدم كفايتهم -، وتلك الممرات " التي يضطر فيها لأن يحيي من يكنّ لهم الاحتقار ويبتسم لألد أعدائه و يحالف أشد الناس عفونةَ دناءةٍ ويلوث أصابعه عندما يريد أن يدفع لمهاجميه من أموالهم ".
أضحى " بلزاك " على مفترق الطرق بين مشروعاته الأدبية وطموحه: هذه " الرغبة القاسية في الاستمرار " وعمله في الصحافة، هذا الوسط الذي " يدعوه إلى أن ينفق في أعمدة مكتوبة، على نحو رائع غالباً، أثرى آمال الأدب ". وبين اللحظة الدائرة والخلود، أنجز اختياره. وأصبح المتأنق محكوماً بالأشغال الشاقة، ينام في السابعة مساءً حتى الواحدة. ويعمل حتى الثامنة، ثم ينام ساعة، قبل أن يستأنف عمله حتى الرابعة. كانت لديه حياتان، في النهار يطوف البلاد ويهرب من المصرفيين ( دائنيه ). وفي الليل، كنت تراه مشدوداً إلى كرسيه، أو نائماً تراود أحلامه مشاهد من حياة المقاطعات، فيهب ليكتبها فوراً. نهاره ثمان عشرة ساعة، يقضيها في العمل، تحت ضغط دائنيه الذين لا يرحمون. كتب على عجل " الكولونيل شابير "، و" النزل الأحمر "، و" فراغوس "، و" طبيب الريف "، و" أوجين غراندي ". لقد جن " بلزاك " بإبداعه: كان يكتب بمقدار ما يصحح. هل نشر " بولوز "، مدير " مجلة العالمَيْن "، روايةَ " الزنبقة في الوادي " قبل أن يضيف " بلزاك " التصحيحات النهائية إلى الطبعة الأخيرة؟ لقد هاجمه. وككل الكتاب، حلم بعالم يمكن أن يموت المرء فيه من أجل فاصِلة.
الزمن تغير. في نهاية 1835، عاد " بلزاك " واشترى " أخبار باريس " من " وليم دوكت "، ولم يدفع ثمنها، غير أنه راح ينشر فيها، على شكل مقالات، رواية " حجرة الأشياء القديمة "، حكاية موت معلن. وروى فيها إفلاس إحدى أسر عهد الحكومة الفرنسية قبل الثورة ( 1789 ) تحت الضربات العنيفة للرأسمالية الوليدة. ولم يكن هو نفسه موهوباً في هذا الميدان. ففي العام 1837، أخفق في شأنٍ يدر ذهباً: تجارة مناجم جزيرة سردينيا. المال لا يحبه. مع ذلك، عوض الفشل بإبداعه " غوبسك "، و" كروفل "، و" غراندي " و" بيروتو "، جميعهم جمهوريون، وكلهم مبتذلون. المال يتسلل من بين يديه، ولا يفكر إلا في ذلك، ويفضح انتصارَ " القدرة الفائقة لقطعة المائة فلس ". فهم " بلزاك " الأمر جيداً، فالاقتصاد بات هو قائد السياسة، وأصحاب المصارف هم الحاكمون: "حسناً يا سادة سنتوِّج ملكاً هذا الصباح". ووصف بدقةٍ النظام الجديد في " البيت نوسنجن ": "الأسهم والمضاربة هي ضروع فرنسا، حتى أن مثقفَيْن ألمانيين، " ماركس " و" أنجلز "، اعترفا بأنهما تعلما من " الكوميديا " – حتى فيما يتعلق بالتفاصيل الاقتصادية ( إعادة توزيع الملكية الحقيقية والشخصية بعد " الثورة " ) - أكثر مما تعلماه من كل كتب مؤرخي، واقتصاديي، وإحصائيي ذلك العصر ".
لما كان فلاحاً من " باسي "، فقد اعتاد الخروج كثيراً، والالتقاء بـ " أوجين سو " ، و" تيوفيل غوتييه "، و" جورج صاند ": . لكنه بقي وحيداً. لم يستطع أحد أن يحتفظ به، لا الأصدقاء، ولا النساء. ولم يعد له من أُسرة سوى دوقة " موفرينيوز "، و" مكسيم دو تراي "، و" لوي لامبير "، والبارونة " هولو "، وكل تلك الكائنات الخارجة من هلوساته والتي تعود لتجره من قدميه مع كل رواية. وانتبه للأمر سريعاً، وفي عام 1848، تصور أن كتبه لا تشكل سوى كتاب واحد، ملهاة إلهية على الأرض، " حكاية كاملة كل فصل فيها رواية وكل رواية عصر ". سيشكل ذلك عملاً كاملاً، يستعيد أفكار " كوفييه " و" جيوفروا سان – هيلير " ، مطبَّقة ليس على الطبيعة أو على عالم الحيوان، بل على مجتمع الناس، أي معرضاً قد تكون وحوشه ممثلة في السمّان، والكاهن، والعانس، والأرستقراطي. " بلزاك "، الذي رقى ذاته إلى كبير ساعاتيين، ينظم نفسه. ودونما تأخر، صنف رواياته، وتصور أخرى، ووضع خططاً وبطاقات. يمكنه القيام بكل شيء، ولا شيء يمكنه أن يقف في وجه هذا الهرقل المبدع. يستطيع أن يتحدث مع الـ Cibot باللهجة العامية وبالإقليمية مع " غوتار " و" ميشو " وباللهجة الألزاسية مع " كولب "، وأن يكون هزلياً أو مثيراً، وأن يصف طرق الطباعة أو مدينة " ألنسون "؛ لا شيء مستحيل على " بلزاك ". عام 1842، كتب مقدمة " الكوميديا الإنسانية "، بيانه. وعبر أخيراً عن نفسه حول هذا المشروع المجنون.
بقيت تصريحاته السياسية في إطار النوايا. العصر ليس عصر التزام. وكاد ألا يتوسط لصالح الكاتب العدل " بيتل "، الذي حكم عليه بالموت عام 1839. وبالنسبة للبقية، شخصيات " الكوميديا " بشريون، بشريون جداً، فيهم عيوب طبيعتهم؛ ووضعهم الاجتماعي لا يغير شيئاً. " بلزاك " ليس " سارتر ". لا يكفيه أن تكون دوقة " لانجيه " ملَكيّة كي تكون ذكية. وتحت ريشته، الجمهوري " ميشيل كريستيان " هو متزمت، أما " فوترن " المرعب، " فاوست " البلزاكي، فهو على جانب فريد من الإغواء. هذه المهارة محيرة. ولم يوفره النقد الأدبي. اعتبره " سانت – بوف " ضعيفاً والصحافة التقاليدية لا أخلاقياً: تصوروا! كل أولئك النسوة الخائنات والرجال اللائقين. " بلزاك " لا يعنيه ذلك، فله الخلود. ويعرف سبب احتقار الكتاب الرديئين له. أما رواياته، فهي حية. " هل رفع أحدهم صوته بخصوص " العانس ". " عندما ستضحكين، وأنت تقرأين ذلك، ستتساءلين بأية أخلاق جميلة إذن يتمتع الصحفيون في فرنسا "، كتب إلى " مدام هانسكا ". وجاء حقه في الإجابة تحت عنوان أوهام ضائعة، حيث فرغ ما في جعبته على الجماعة، جماعة "العاجزين": "هنالك أعمال نقدية تصنع سمعات حسنة دون أن تتمكن أبداً من أن تصنع لذاتها واحدة منها ". أخذ " بلزاك " بالثأر. ولم يفتح معركة مع ثالبيه، بل اكتفى بخلق شخصيات: " إتيين لوستو "، و " إميل بلوندي "، و" أندوش فينو "، كتاب رديئون يكتبون وفقاً للظروف وحسب مصالحهم الضيقة، جاعلين من هذا الشعار الوضيع رمزاً لهم: "من أجل الإثراء من الأدب، اجرحوا كل الناس باستمرار، حتى أصدقاءكم، و من أجل أن يداهنكم الجميع، اعملوا على إبكاء كل كبرياء ".
" هوجو " يخلده: " كان عبقرياً "
تمهل في قراءة معاصريه، واحتفظ بأحكامه الشخصية، وقدر مثلاً " الفرسان الملكيين الثلاثة " " الممقوتين ". إلا أنه كان يعي تحمسه. وفي العام 1840، أطلق شهرة " ستاندال " الذي نشر " شارتروز بارم ": " هنا كل شيء أصيل وجديد ". وفي السنة السابقة، أجهد نفسه على أعتاب الأكاديمية الفرنسية، قبل " فيكتور هوجو ". لكن أبواب الـ " كي دي كونتي " ظلت مغلقة أبداً في وجهه، رغم أربع محاولات أخرى، آخرها عام 1848 . ما الفائدة المرجوة من هذه " الأُلعوبة "؟
كان يعي نبوغه، ويجيد إدراك نبوغ الآخرين. كل شيء أدبٌ: " إن اللهاث خلف المدائح والمقالات، الذي يصيب الكتاب المعاصرين، هو تسول، وفقر ذهني ".
وراح السأم يضنيه. وأخذ يشكو من " صعوبة الوجود ". ولم تعد لديه سوى فكرتين ثابتتين: أن يكمل volens nolens ، هذه الملهاة التي يصعب تحملها كثيراً. كان شديد الإرهاق. ثم، كان يريد اللحاق أخيراً بتلك التي أحبها وما يزال يطاردها منذ عشر سنوات، " مدام هانسكا "، " الغريبة ". لقبها بـ " الملكة السامية لـ " باووفكا " والأماكن المجاورة، والمستبدة بالقلوب، وزهرة الغرب ". طاف أوربا من أجلها، روسيا وألمانيا وبولونيا وإيطاليا. كانت حواء التي يبتدئ بها كل شيء. وأراد أن تكون له نهاية معها. تزوجها في آذار 1850 في " بيرديتشيف " وانطفأ في آب التالي في باريس. مات إنهاكاً. حضر جنازته في مقبرة " بير لاشيز " وزير الداخلية، الذي رثاه ملجلجاً: " كان رجلاً متميزاً ". وصحح " فيكتور هوجو "، قائلاً: " كان عبقرياً ".
#
المصدر: Le Figaro Magazine الفرنسية ترجمة محمد الدنيا
الرغبة في التعلم
عند الطفل
" من المناسب أن نوفر للطفل الرغبة في التعلم، وبعد ذلك كل الأساليب مناسبة. "
جان – جاك روسو ، إميل، 1762.
" لا تعلم بلا تشويق! ". فكرة هي موضع إجماع، وصعوبة في عالم التربية لا يقف دونها سوى الجهلة. في الواقع، كيف ندخل رغبة التعلم إلى أصحاب تلك الرؤوس السمراء والشقراء العزيزة؟ كيف نوصلهم إلى تذوق المعرفة؟ كيف نتصرف بفعالية، خصوصاً مع أطفال لم يعد أي شيء يؤثر فيهم؟.
ليس التشويق ودوره في التعلم من الآليات البسيطة. إن الرغبة في المعرفة هي عملية متعددة الأشكال، وخاتمة مجموعة من العناصر المتسلسلة. وتؤثر فيها ميادين عديدة، بيولوجية، وسيكولوجية وثقافية. وتولِّد بدورها عمليات جديدة، بل وبشكل خاص تتجذر في تاريخ الشخص. يمكن أن يكون تحريض الرغبة سهلاً للغاية: تكفي الشخص أحياناً كلمة بسيطة، أو جملة صغيرة لتدفعه نحو الأفضل أو نحو الأسوأ. فكم من مقاتل نزل إلى ميدان وقد أثارت حماسته بضع كلمات كان لها وقع في نفسه، لأنها تستجيب لحاجة مباشرة لديه أو لاهتمام كامن أو قيم تستحق الدفاع عنها.
يمكن أن يكون التشويق موجوداً بداهةً، ولا يحتاج إلا إلى تحريض خفيف. يكفي أن نعرفه، ونحركه. لا حاجة لكثير من الوقت أو الجهد من أجل إثارة اهتمامٍ حول العديد من المواضيع. يمكن أن تشكل البراكين، والكون، والديناصورات، والمجرات، وإنسان ما قبل التاريخ مدخلاً لإطلاق فضول الطفل.
التشويق، مهمة مستحيلة
ولكن، قد يتبين أن التشويق مهمة مستحيلة! يجرب المعلم مجموعة كاملة من الطرق الآسرة ( الدعابة، والجاذبية، والصور الجميلة، والحبكة المميزة، والتقانات الحديثة.. )، دون فائدة. إذن، هنالك عائق ما: الحالة العامة؛ والأسلوب الخطابي؛ وصورة المعرفة بالنسبة للمعلم؛ والعلاقة مع أنداد الصف.. هذا ما يحدث كثيراً جداً في مدارس اليوم. إن المؤسسة التربوية، بالنسبة لقسم متنام من اليافعين، هي مرادف للضجر وعدم الفائدة من حيث أنها لم تعد تتيح الحصول على وظيفة. وانعدام التشويق المدرسي إياه ليس وليد الأمس. وقد أثار هذا الموضوع الكثير من النقاشات الطويلة والحادة بن الباحثين والتربويين.
يرى " ب. سكينر "، رائد المقاربة السلوكية أن انعدام التشويق عند التلميذ يأتي عقب إخفاقات متكررة أكثر من المعتاد. وتساهم العقوبات الأدبية أو الجسدية أو نقص التشجيع في تعميق هذه الظاهرة. يرى " سكينر " أن كل شيء بسيط – نسبياً. إن المثيرات ( المنبهات ) الخارجية، كالنشاطات، والمكافآت، والتشجيعات، مطلوبة لإطلاق رغبة لا تقاوم في التعلم وحشد الطاقة المناسبة. إن التعليم هو فن تمييز هذه العوامل المطلِقة. بعد ذلك، تستخدم بعض التعزيزات من أجل إطالة أمد تأثيرها.
على العكس، خلال الستينيات، رأى الفيلسوف " كارل روجيه " وعلماء تربية التيارات الإنسانية النزعة أن منبع التشويق الحقيقي يكمن في حاجات الشخص الجوهرية. وبالنسبة لهذا التيار الفكري، تنجم الرغبة في المعرفة عن الحاجة إلى التفتح. ويرى الطبيب وعالم التربية البلجيكي " أوفيد دكرولي " أن التعلم حاجة من بين حاجات أخرى. وحسب تقديره، على المعلم أن يشجع أو " أن يوجه الحاجات الفطرية " أو المكتسبة الخاصة بكل طفل أو راشد وأن يسعى إلى خلق حاجات جديدة منها. واستجابة لحاجة الدفاع عند الطفل، مثلاً، اقترح " دكرولي " أن نفهرس معه الحيوانات الخطرة، والنباتات السامة، وأن نضع معه لائحة بوسائل الدفاع ( الضربات، والصراخ، والهجمات..) والحماية ( الحراشف، والقرون، والأسنان.. )، لنولد الرغبة في المعرفة الأفضل بسلوك هذه الحيوانات.
لقد حجب نجاح المقاربة البنائوية الجدل مؤقتاً. كانوا يضعون التشويق في علاقة مستمرة بين التلميذ وبيئته. ينشأ التشويق من إدراكات الفرد ورغباته. وتصبح إمكانات التدخل التربوية أكثر اتساعاً مباشرة. يمكن أن يرتكز المعلم إلى حاجات التلميذ الداخلية، اهتماماته، ورغباته وتمنياته الناجمة عن الوضع التعليمي. في الوقت نفسه، يمكن أن يستند إلى " وسائل إقناع خارجية " شفهية، وكتابية، وإعلامية. وبالنسبة للتلاميذ الأصغر سناً، تحتل الألعاب والأفعال أهمية أكبر.
في الخمسينيات، كان عالم السلالات " كلارك هول "، من جامعة " يال " الأمريكية، قد لاحظ لدى الفئران أنه لا يكفي تقديم المكافأة لها لتسهيل تعلم اجتياز مسار في متاهة. كان يلزم إدراك المكافأة كما هي. ضمن النوع، يجب أن يكون الحيوان جائعاً. حينها يكون اجتياز المسار نتيجة تركيب بين الحاجة ( الجوع ) والاستجابة لهذه الحاجة ( الغذاء ). إذا لم يكن الحيوان جائعاً أو جائعاً قليلاً، يفقد الطعام كل أهميته.
في الواقع، التشويق هو دائماً– على الأقل في مقاربة أولى – نتيجة التآثر بين الحالة الداخلية للفرد وعناصر بيئته العديدة. يجب خلق الحالة الداخلية الجديدة، المحركة للتعلم، وإطلاق دينمية كاملة. وتلك هي الصعوبة كلها.
إذن، فالتشويق، دون سياق، هو مجمل الآليات الداخلية التي " تدفع " الفرد للتعلم. تمكن مقارنتها بقوة ما، بدافع ما، وتتيح إطلاق فعل، مع توجيهها للمتعلم نحو أوضاع قادرة على إشباع حاجاته. في الوقت ذاته، التشويق يحفظ الطاقة الضرورية لإيصال مشروع ما إلى غايته. ويجعل الانتباه والذهن في حالة تحفز، رغم الصعوبات المعرفية المصادفة.
لكن التشويق ليس شيئاً دون البيئة. إنه نوع من الاستجابة لها. منذئذ، تصبح المسألة سريعاً شديدة التعقيد بالنسبة للكائن البشري. إنها غير مرتبطة فقط بحاجاته المباشرة. إن لدى الفرد اهتمامات، ورغبات، إن لم نقل أهواء تسهل أو تعيق عملية التشويق. يحدث كل شيء في رجع بين حاجات واهتمامات ورغبات وتوقعات وطموحات المتعلم وخاصيات حالة إشباعها مباشرة.
التشويق، اندفاع
بفضل شبكة الفكر الجديدة هذه، يتضح كل شيء أو يكاد! فمن جهة المتعلم، يتعلق التشويق بحاجاته في البداية. ومن غير المعقول تجاهل الجانب البيولوجي في الأمر. إن الإنسان يشكل جزءاً من الأنواع الحيوانية. إلا أن هذه القدرة موجودة لدى الثدييات والطيور بشكل خاص ( بدرجات متفاوتة طبعاً )، وهو ما يظهر جلياً لدى صغارها ( خصوصاً في الألعاب ).
لدى الطفل، منذ ولادته، إمكانات تحثه على التعلم. إن حاجاته الحركية، في اكتساب سلوكيات جديدة، كثيرة. ولبعضها في الأصل أساس محدد بالمورثات: الحاجات الفيزيولوجية، الجوع، والعطش، والنوم، والحاجة الجنسية.. . مع ذلك، السلوكيات المبرمجة فقط على المستوى المورثي تتلاشى سريعاً جداً عند الوليد، وتحدث فيها حالات التعلم الأولى تحولاً عميقاً أو تغير في طبيعتها. لدى البشر، ليس لممارسات وجبات الاحتفالات الطعامية علاقة بالجوع. حينذاك، يمكن أن نفهرس حاجات أساسية أخرى: حاجات الأمان، وتحقيق الذات، ورفع مستوى الكفاءات، وحاجات التقدير، والانتماء… .
كل هذه الحاجات تحدث تشويقاً قوياً يدفع إلى التعلم على مستويات مختلفة. وبالعكس، يمكن أن تشكل كل من هذه الحاجات عاملاً معيقاً إذا كان التعلم الجديد يحدث خللاً أكبر مما ينبغي. في مرتبة أولى، تمكن مقارنة تشويق التعلم بالآليات التي تتحكم بالجوع أو العطش. أليس هنالك " ظمأ معرفة "؟. إن النقص يحرض على ظهور الحاجة، ومن شأن ذلك إطلاق سلوك بحثي. وكرد فعل، يظهر الإشباع، الذي يحدد المتعة.
#
عن كتاب: APPRENDRE " التعلم " ترجمة محمد الدنيا
المؤلف: أندريه جيوردان A. GIORDAN، أستاذ علوم التربية في جامعة جنيف / سويسرا
" حواس " النبات الخمس
إذا كانت النباتات تنبت، وتنمو، وتزهر في الوقت والمكان المناسبين، فلأنها ترى، وتحس، وتتأثر ببيئتها… اكتشف العلماء هذه الحواس يوماً بعد يوم، بعد أن جهلوها لزمن طويل.
للنباتات إيقاع داخلي المنشأ ونمو مبرمج. من أجل ذلك، ترى، و" تحس "، وتقرأ مدة النهار، وتقدر الحرارة، وتعاير الجوار. بذلك، يمكنها أن تنتش، وتنمو وتزهر في الوقت والمكان المناسبين. ومن شأن أي كرب، أو جرح، أو مرض أن يستثير دفاعاتها. ولا حاجة للدم أو للجهاز العصبي لنقل الإشارات من خلية إلى أخرى، من نبتة إلى أخرى وحتى من نبتة إلى حيوان. كشف العلماء، بالتدريج، أسرار هذه الحساسية الفائقة، التي تتجلى في حركات، واتجاهات في النمو، وتغيرات استقلابية.
اللمس، عندما يتمرد النبات
تستثار النباتات كلها لأي لمس. ويكون رد الفعل آنياً عند ألف نوع منها: تطبق النبتة اللاحمة فخها، وتطوي المستحية ( الحساسة ) أوراقها، وتندف نبتة الحرّيق ( القرّاص ) وبرَها القارص… غير أن الحركات، بالنسبة لمعظم ال 240000 من النباتات الزهرية، بطيئة ومحدودة.
وكانت " نيكول بوييه "، من جامعة بليز باسكال ( فرنسا )، قد درست رد فعل النبتة المسماة فاشِرَة ، ووجدت أنها تقلص استطالة ساقها وتزيد قطره ويصبح أكثر صلابة، خلال الساعات الثمانية والأربعين التي تعقب فركها؛ وهذه الظاهرة هي رد على الاعتداء، نلاحظه أيضاً في لا تماثل الأشجار التي تتعرض لهجوم الرياح والأمطار المتكرر.
تتمثل أولى مستويات هذه الاستجابة في موجة كهربائية تسري بطول الغشاء الخلوي. وتغير دفقاتٌ من الشوارد الداخلة والخارجة سيولةَ الغشاء ونفاذيته، على غرار ما يحدث في غشاء الخلية العصبية البشرية. وتتسرب شوارد الكلسيوم إلى داخل الخلية. وعلى نحو مواز لهذا الدفق من الكلسيوم، يتنشط عدد من المورثات. وقد عزلت " جانيت برام "، من جامعة رايس (هيوستون / تكساس ) خمسة من هذه المورثات في النبتة المختبرية المسماة " أرابيدوبسيس تاليانا "، مورثات اللمس، التي تتنشط أيضاً بالرياح، والبرد، والجروح، أو أي كرب آخر.
النباتات " ترى " باللون الأحمر
" الرؤية " بالنسبة للنباتات، كما بالنسبة لنا، هي جوهرية. فهي تتيح لها تحديد موقعها في المكان
وفي الزمان. ذلك أن أصباغ مستقبلاتها الضوئية حساسة ليس فقط لكمية الضوء الساقط بل أيضاً لنوعيته. إنها تؤثر مجموعياً، ولكن كل منها في الميدان الخاص بها: الفيتوكرومات حساسة للون الأحمر، والكريبتوكرومات حساسة للأزرق وبعض الألوان فوق البنفسجية.
تحت غطاء ما من النبات، هنالك فرط نسبي من اللون الأحمر الغامق، لأنه كلما كانت الأوراق كثيفة ازداد وجود اليخضور، هذا الصباغ الذي يمتص الأحمر الفاتح ويعكس الأحمر الغامق. حينذاك، ينتقل التوازن إلى الشكل غير الناشط من الفيتوكروم. ويتوقف التثبيط. وتتطاول السوق، وتلك هي " متلازمة تحاشي الظل ".
حسب رأي " هاري سمث "، من جامعة " لسستر " البريطانية، حتى الازدحام يؤدي إلى هذه الظاهرة: نبتات التبغ المتراصة بعضها على البعض الآخر تكون أطول مما إذا زرع كل منها على نحو منفصل. وينطوي هذا التكيف مع التنافس من أجل الطاقة الضوئية، المفيد في الطبيعة، على شائبة في الزراعة: يحول احتياطيات النبات إلى التصفير ( الذبول ) بدلاً من صنع الأوراق والدرنات والبذور. ولما اكتشف هذا الباحث أن الفيتوكروم " أ " وحده يبقى ناشطاً في الظل من بين " فيتوكرومات " التبغ الخمسة، أوجد أنواعاً من التبوغ معدلة وراثياً ( بالهندسة الوراثية ) تعبر بإفراط عن هذا " الفيتوكروم ". النتيجة: في ظروف الزراعة، ورغم الازدحام، تبقى هذه التبوغ المعدلة وراثياً مليئة وتنتج أوراقاً أكثر ( 20 % ) من مثيلاتها العادية. وتلك طريقة غير متوقعة لزيادة المردود.
يكشف الكريبتوكروم شدة واتجاه الضوء الساقط. ويتدخل في فتح المسام التي تتم من خلالها تبادلات التركيب الضوئي الغازيّة. وبسببه تنحني النبتة الداخلية نحو النافذة الموجودة قربها وتضع أوراقها على نحو متعامد مع الأشعة الضوئية.
حياة ينظمها الضوء الأزرق
منذ " داروين "، تطورت المعارف كثيراً، وبفضل طوافر النبتة " أرابيدوبسيس تاليانا " كشفت الباحثة الأمريكية " مرغريت أحمد "، من جامعة بنسلفانيا / فيلادلفيا، في عام 1993 ، أول مستقبل للضوء الأزرق. ومنذئذ، تم اكتشاف كريبتوكرومات لدى ذبابة الفاكهة والفأر والإنسان. إن أحد الوسائط الشمولية للساعة هو الذي يؤمن انتظام عدد كبير من الوظائف البيولوجية على إيقاع أربع وعشرين ساعة ( الإيقاع اليوماوي = حوالى اليوم ).
" يبدو الإيقاع اليوماوي نقطة مشتركة في العالم الحي المستمر عبر التطور، من خلال الكريبتوكرومات بشكل خاص. لدى الجراثيم، التي ورثتها للنباتات على الأرجح، تتمتع هذه الكريبتوكرومات أيضاً بوظيفة إصلاح الـ " دنا ". فلدى النبات، تقوم بتنظيم النمو، والتوجه الضوئي، ووقت الإزهار "، وفقاً لعبارة " مرغريت أحمد ". يقلد البساتنة في البيوت الزجاجية تعاقب الأيام والليالي ( الدورية الضوئية ) المسؤول عبر هذه الصباغ الضوئية المستقبلة عن الإزهار. وهكذا، تزهر أزهار " نويل " في أيام قصيرة والأقحوان في أيام متناقصة..
الحر والبرد
بالنسبة لزنبق الوادي، مجمل درجات الحرارة التي تتلقاها النبتة هي التي تُحدث الإزهار، بعد انتقال إلى البرد، إذ عليها، كما هو الحال بالنسبة للعديد من المناطق المعتدلة ( من قمح الشتاء إلى شجرة الزيتون )، أن تتعرض للاسترباع ( تعريض البذور والشتول للبرد للتعجيل في إثمارها أو إزهارها " المترجم " ). وهي مراحل يسيطر عليها أصحاب البيوت الزجاجية، الذي يكون زنبق واديهم جاهزاً منذ الأول من أيار في حين أن الطبيعة تتأخر أحياناً. إن أزهار الربيع تتأثر جداً بالحرارة وتتأثر به الخزامى والزعفران أكثر مما تتأثر بها وردة الأمير الصغير. إنها تنغلق وتتفتح مع أدنى فارق: يكفي احترار درجة واحدة كي تتباعد تويجات الخزامى، و 0,2 درجة كي تتباعد تويجات الزعفران. وتنتج النباتات المتكيفة مع الجفاف بروتينات تحميها من التأثيرات السمية للحرارة المرتفعة ( 40 درجة ).
تطور الجذور، المحكومة بالنزول في التربة والهروب من الضوء، جذوراً جانبية عندما "تشعر" بوجود أزوتات ( نترات ). وفي عام 1998، تم عزل مورثة تقود عملية التشعب هذه.
يتيح " تذوق " وجود أي معتدي للنبتة أن تتسلح بترسانة هائلة من معدات الدفاع والمقاومة. إن السلاح الذي تستخدمه النباتاتُ المزودة بـ " فرط حساسية " لمقاومة الحاجز العازل بين المعتدي ( فيروسات، وفطور، وجراثيم ) والخلايا السليمة الخلفية هو نخر الجبهة الأولى من الخلايا التي تعرضت للهجوم. وغالباً ما تنتشر إشارات كيميائية بعيداً عن نقطة الهجوم وتحرض التفاعلات المناعية الدفاعية المديدة. عندما تقضي اليساريع المسماة " زيرافيرا دينيانا " على أوراق الأرْزِية، تشكل هذه الشجرة الحراجية إبراً أصغر حجماً، أقل شهوة وتغذوية لليساريع، فتقلص حجم مستعمراتها لمدة أربع أو خمس سنوات. وعندما تتعرض شجرة الزان لهجوم الأرقة المسماة " فيلافيس فاجي "، تصنع مركبات مثبطة للهضم تنتشر في كامل الشجرة.
تتواصل النباتات والأشجار فيما بينها برسائل هوائية. وهكذا، يؤدي هجوم اليرقات المسماة "ملاكوسوما بلوفيال" على شجرة الصفصاف إلى إحداث تغيرات كيميائية في الأشجار السليمة المجاورة. هذا الرسالة هي الأتيلين. يأتي هذا الغاز الطيار، الذي يرافق نضج الثمار، من الأنسجة المستثارة أو المتأذية في العديد من النباتات. إنه يقرع جرس الإنذار بشكل فعال جداً عن طريق تنشيط تركيب الدبغ والخشبين ومواد دفاعية أخرى. وميتيل الصفصافات، المشتق من حمض الساليسيليك ( المادة الناشطة في الأسبيرين )، هو رسالة أخرى محتملة.
ماذا عن السمع؟
إن الكثيرين من عشاق النباتات مقتنعون بحساسيتها وتأثرها بالموسيقى. إلا أن القليل من الدراسات يؤكد ذلك. ويؤكد باحث أمريكي أن الأصوات الأعلى قليلاً من الصوت البشري تسرع نمو البازيلا وإنتاش بذور الفجل. صح أم خطأ؟ لنتذكر ما جاء في كتاب " النبات المعاد الاكتشاف " لمؤلفته " ألين راينال روك ": " تطورت النباتات والحيوانات بطريقتين متقاربتين إحداهما من الأخرى، لكنهما متمايزتان؛ ولكل منهما القدر نفسه من الإمكانات، ولكن المتباينة.. ".
#
عن " العلم والحياة " الفرنسية ترجمة محمد الدنيا
يتبع...