البحث عن الأوراق الثبوتيّة"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • البحث عن الأوراق الثبوتيّة"

    – البحث عن الأوراق الثبوتيّة" – للدكتور سلام جبّار
    علي وجيه
    .
    لماذا علينا أن نحتفي فعلاً بلوحةٍ يُكملها فنّان وأكاديميّ مكرّس؟ سيكون علينا ذلك إن كان ثمّة فتحٌ وظاهرة ثقافيّة جديدة من الممكن رصدها، عبر قراءة اللوحة، أو الشخصيّة.
    للوصول إلى عمل سلام جبّار، المُنجز في آخر شهر من ٢٠٢٢، بالزيّت، وبأبعاد ١٠٣*٧٢ سم، علينا فهم حضور الجواهريّ في التشكيل العراقي والعربيّ عموماً، وهو حضورٌ مؤسف، منذ أقدم عمليْن شاهدنا فيهما الجواهريّ مرسوماً: التخطيطان السريعان لجواد سليم في باريس، وتخطيط في الخمسينات لمصطفى فرّوخ، على هامش مشاركة الجواهريّ في مهرجان أبي العلاء المعرّي الشهير، وعبر عشرات البورتريهات والأعمال التي تضمّنت الجواهريّ، إلاّ أن تلك الأعمال كانت تنقسمُ إلى:
    - الجواهريّ مُصوَّراً، فحسب. دون النفاد لِما وراء البشرة (المفاهيم التاريخية، الشعرية، الاحتدام) فظلّت أعمالاً تصوّر رجلاً كبير السن، فحسب، ولا تختلفُ بذلك إلاّ بأدوات الرسامين، وربّما أستثني، قبل هذا العمل (عمل سلام جبّار) عمليْن للفنان علي آل تاجر جسّد فيهما الجواهري، الأول عملٌ موارَب لا يتضّح فيه الجواهري بشكلٍ كاف، لكنه جسد الجَلْد الذي يمارسه الجواهري بحقّ الناس الذين يرفعونه على الأكتاف بعد كلّ خيبة أمل، والعمل الآخر هو ضمن سلسلة أعمال تحاول تصوّر التأريخ العراقي المعاصر فيما لو لم يتم حدوث شيء واقعيّ محدد، ويجسّد صورة عبد الكريم قاسم (بعد محاولة الاغتيال الشهيرة) وعلى يساره الملك فيصل الثاني، وعلى يمينه الجواهريّ. الجواهري حظي بعشرات البورتريهات التي لم تتجاوز البشرة، ولا يتغيّر فيها سوى أدوات الفنّان، وربّما سأكون وقحاً قليلاً لأقول أنّ الجواهريّ – الأيقونة حضر بشدّة في حياة جميع العراقيين، لكنّ الجواهريّ – النص – التأريخ، لم يطّلع عليه كثيرون، لِذا لم نشاهد سوى الملامح.
    - الجواهري شعراً: كثيرون استلهموا شعر الجواهري في أعمالهم، إن كانت لوحات أو دفاتر فنّية، أو حتى لوحات خطّية، خزفية، نحتيّة. وبطريقةٍ ما كانت هذه الأعمال تلامس شعر الجواهري منفصلاً عنه: أيّ انفعالات الفنّان مع شعر الجواهري، لا الجواهري منفعلاً فيه، هو ينفصلُ عن نصّه.
    إثارة د.سلام جبّار في هذا العمل هي إثارة ثقافيّة، تشير بشكلٍ واضح إلى المأزق الذي واجه الجواهريّ منذ اتهامه بالشعوبيّة على يد ساطع الحصري، ومضايقته، من خلال الطعن بعروبته، من خلال التعريض بشيعيّته، واتهامه بالأصول الفارسية، ثمّ سحب الجنسية الذي حدث بعد انقلاب ٨ شباط ١٩٦٣، ثم أعيدت بجهدٍ من صالح مهدي عمّاش، وزير الداخلية عام ١٩٦٨، وصولاً لـ"الإشاعة" التي أطلقها الإعلامي سعد البزاز، منتصف التسعينات، عن سحب الجنسية من الجواهريّ والبيّاتي والبزاز، ولم يكن هناك أيّ شيء يُثبت ذلك، وتمّ نفيه عدّة مرات من قبل رواء الجصّاني، صاحب مركز الجواهري للثقافة والتوثيق في براغ، وعدد آخر من مُريدي الجواهريّ.
    ظلّت عروبة الجواهري، ووطنيّته، وخدشها من قبل خصومه جرحاً نرجسياً يلاحقه طوال سنواته المئة (١٨٩٧-١٩٩٧)، وظلّت وجوه "المسوخ" المعتادين المضايقين له تتكرر: من ساطع الحصري وصولاً لعبد السلام عارف وليس انتهاءً بسلطة البعث التي جانبها هوناً وعارضهاً بشكلٍ بسيط هوناً آخر.
    العتبة النصّية، عنوان اللوحة أوّل مفتاح وهي "البحث عن الأوراق الثبوتيّة"، وهو لربّما نسقٌ مُخاتل، فالجواهري هنا لا يحضر بوصفه الغاضب النسر الهجّاء المعارض، بل هو رجلٌ منهمكٌ فعلاً بالبحث عن "الأوراق الثبوتية"، كما أنّ عنوان "الثبوتية" عنوانٌ مبهم ومفتوح الدلالة: فهل هي أوراق لإثبات الإبداع؟ أم العروبة؟ أم الوطنيّة؟ أم الولاء؟ أم الانتماء للنجف؟ أم التشيّع؟ أم أيّ شيء تم الطعن فيه في القرن الجواهريّ العجيب؟
    ملامح الجواهريّ، جاءت في هذا العمل ملامحَ وديعة، وكأنه يستسمح من يبحث عن أوراقه لأجلهم، وما بين الكتب والأوراق، ينزاحُ ديوان "المتنبي" جانباً، وينزاحُ بشكلٍ أكثر منه كتابٌ يبدو عليه كتاباً دينياً، القرآن على الأغلب، وتلك الأوراق لمَن سيقدمها، أثناء البحث عنها، أو بعد إيجادها؟ هل لملائكة الشعر والخيال المُصوَّرين في اللوحة؟ لا أظن. بل للأطياف السلبيّة التي لم تحضر باللوحة، أطياف الساسة والحاسدين و"تسعون كلباً عوى خلفي وفوقَهم – ضوءٌ من القمرِ المنبوح مسكوبُ".
    هذه قراءة نفسيّة تأريخية للجواهري، هي أكبرُ بكثير من لوحة "تصويرية"، تجسّد شاعراً شهيراً، أو تعتمد على نصّه رافعةً لعمل فنّي، هذا غوص لِما وراء الجلد، من فنّان يفكّر، ويقرأ، ويرى، لا ينظر فحسب.
    شكراً لهذه المتعة د.سلام جبّار، خاتمةٌ فذّة لهذا العام العجيب!
يعمل...
X